مقدمة
يشكل التركيز في هذا الكتاب على سيكولوجية الطفولة في علاقتها
بالممارسات التربوية وسيرورات التمدرس استجابة طبيعية لضرورة ملحة
فرضتها حالة المخاض العسير التي كانت وما تزال تعيشها منظومة التربية
والتكوبن عندنا نتيجة تخبطها وتذبذبها بين تفاقم مشاكلها البنيوية والوظيفية
وتعاظم تطلعاتها نحو التغيير والتجديد. وإذا كانت العلاقة المتبادلة بين الطفولة
والتمدرس تبدو كعلاقة بديهية لا تحتاج إلى تبرير مسبق، فلأن المدرسة التي
تكمن وظيفتها في تلقين المعارف أصبحت تشكل ممرا إجباريا لكافة الأطفال ما
عدا أولائك الذين يواجهون وضعيات صعبة. فهي عبارة عن محطة تربوية
رئيسية عادة ما تؤثر، إلى جانب الأسرة بطبيعة الحال، في تفتق شخصية الطفل
ونموه المعرفي وتعلماته. فمثلما أن هناك إجماعا شبه عام حول أهمية الأسرة
ودورها في تشكيل شخصية الطفل عبر أساليبها التربوية المتنوعة، فهناك إجماع
آخر لا يقل عنه شأنا بخصوص أهمية تجارب الطفل المبكرة وتعلماته المدرسية
في هذا المضمار. فحتى وإن كانت الأسرة المغربية والعربية عامة، قد تخلت
للمدرسة عن جزء هام من وظيفتها التربوية - المعرفية، حيث أصبحت تكتفي
بالتربية العاطفية - الوجدانية، فهذا لا يعني بتاتا بأن المدرسة تبقى وحدها هي
المسؤولة على تعليم الطفل وتنمية كفاءاته المعرفية. بل إن وظيفة الأسرة تصبح
أساسية في هذا المقام، إذ أن هذه الوظيفة حتى وإن كانت تتمظهر في جانبها
الأول فيما هو نفسي- اجتماعي، فهي لا تخلو في جانبها الثاني مما هو تعلمي-
معرفي. فدورها لا ينحصر فقط في تأمين حاجيات الطفل البيولوجية والعاطفية،
بل يبقى حاسما حتى على مستوى تحقيق نموه وتعلمه سواء قبل التمدرس أو
أثناءه أو بعده. فهي مطالبة بالمساهمة الفعلية في سيرورة التعلم والاكتساب هاته
وذلك لاعتبارات علمية عديدة أفرزتها اتجاهات البحث السيكولوجي الحديث
وبالخصوص في مجال الكفاءات المبكرة للطفل وقوة المعارف الساذجة التي
يكتسبها ثم أهمية الفعل التربوي المشترك بين الأسرة والمدرسة في التعامل مع
هذه الكفاءات والمعارف.
إذن إذا كان هذا هو دور الأسرة في تربية الطفل، فإن دور المدرسة يكمن
بالدرجة الأولى في الانتقال بفكر هذا الأخير من طبيعته الأولية السياقية إلى
طبيعته القابلة للتجريد والتعميم. فالأكيد أن الطفل لا يأتي في حدود سن السادسة
إلى المدرسة وهو خاوي الوفاض، بل يجيء إليها وهو يمتلك معارف ونظريات
ساذجة حول مختلف مكونات الذات والكون ويقوم التمدرس بتصحيحها وتنميتها
لتأخذ شكل المعارف والنظريات العلمية.
تبعا لما تقدم يمكن الإقرار بأن الدراسة السيكولوجية للطفولة قد عرفت منذ
الثمانينيات من القرن العشرين، تاريخ تغلغل السيكولوجيا المعرفية والتسليم
بالكفاءات المبكرة، انتعاشا ونموا هائلين. فالنظريات والنماذج والمعطيات
المتوفرة بهذا الخصوص هي أكثر من أن تعد أو تحصى. لكن المهتم قد يندهش
حينما يلاحظ أن هذا الكم الضخم من المعارف لم يخترق في مجمله مختلف
شرائح المجتمع إلا بصورة ضئيلة رغم أن أغلبية هذه الشرائح تكون على اتصال
يومي ومسترسل مع الطفل. ومرد ذلك هو أن الراشد نادرا ما يولي لهذا الأخير
ما يستحقه من عناية واهتمام. فقليل هم الآباء الذين يتوفرون على معرفة
بخصوص سيكولوجية أطفالهم، حيث عادة ما يفضلون الانشغال براحتهم
الشخصية وهوايتهم المفضلة. فمعضم هؤلاء لا يكثرتون بما يفعله أطفالهم ولا
يعتمدون في الغالب سوى بعض الأساليب العتيقة في تربيتهم.
إن التجربة المتواضعة التي راكمتها من خلال تدريسي لمادة علم النفس
بالجامعة ومن خلال اهتمامي المتواصل بقضايا تربوية وبيداغوجية، هي التي
قادتني في حقيقة الأمر إلى الاعتقاد بأن تخصيص كتاب لمكانة الطفل بين الأسرة
والمدرسة سيفضي بدون أدنى شك إلى فائدة معينة، وسيشكل بالتالي إطارا أوليا
للتعريف بهذه المكانة التي أصبحت تؤرق كاهل كثير من الآباء والمربين
والمهتمين بالشأن التربوي عندنا نتيجة مشاكل التكيف والاندماج وصعوبات
التعلم والاكتسات ومظاهر الهدر والضياع المدرسيين.
ستشكل الإجابة على السؤال: ما هي الاستراتيجية الناجعة لتربية وتكوين
متعلم فعال قادر على الابتكار والتفكير النقدي ومواجهة الصعوبات وحل
المشاكل، الهدف الأساسي لهذا المؤلف بمضامينه وفصوله الستة. فبالتأكيد أن
هذه الاستراتيجية لا مكان لها حتى الآن في مواصفات المدرسة السائدة عندنا،
ولا وجود لها في المرجعيات السيكولوجية التي تنبني عليها تلك المواصفات لإنها
مرجعيات كلاسيكية ومتجاوزة في مجملها. ولهذا فإن أي إصلاح لمنظومتنا
التربوية يبقى عديم الجدوى ما لم يتم إعادة النظر في مرجعياتها الأساسية
ومرتكزاتها الجوهرية. وهي مرجعيات ومرتكزات تحيل بطبيعة الحال على
أطراف عديدة وفي مقدمتها السيكولوجيا وكل ما توفره من نتائج وخلاصات عن
سيكولوجية الطفولة وسيرورة الاكتساب ثم التربية وكل ما تسطره من برامج
ومناهج للتعليم والتكوين. وبين هذين الطرفين يتواجد المتعلم الذي يشكل الطرف
الأساسي لكونه لم يعد كما كان في السابق ينعت بالصفحة البيضاء أو بالذهن
الفارغ أو بالعنصر السلبي. بل أصبح يمثل في السيكولوجيا المعرفية الحالية
العنصر الفعال الماهر الذي يدرك ويفهم ويفكر ويساهم بنشاط في تعلماته منذ
سن مبكر. فهذا المتعلم العالم أو العالم المتعلم لا يأتي إلى المدرسة خاوي
الوفاض أو فارغ الذهن، بل يجيء إليها وهو محمل بمعارف ونظريات معينة
هي التي تقوم المدرسة بتصحيحها وتطويرها. وبهذا المعنى فنحن في حاجة إلى
المدرسة التي بإمكانها أن تلعب دور الوسيط في في مجال تحويل معارف الطفل
من مستوى سياقها الطبيعي الساذج إلى مستوى سياقها المؤسساتي العلمي. بمعنى
المدرسة التي توجه الطفل دون أن ترهبه، تشجعه دون أن تحبطه، تحفزه دون
أن تكبته وتو عيه دون أن تُؤَليَله. إنها ببساطة المدرسة التي تبني وتكون المتعلم
العالم الماهر القادر على تصريف المعارف المدرسية العلمية إلى معارف
مجتمعية مهارية.
إذن إن الصورة التي حاولت تقديمها في هذا الكتاب هي موجهة بالأساس إلى
كل الأشخاص الذين تضعهم مسؤولياتهم وأنشطتهم أمام مشاكل الطفولة في
علاقتها بالأسرة والمدرسة، وأخص بالذكر الآباء والمربين والمدرسين
والمساعدين الاجتماعيين وأصحاب القرار دون أن أنسى طلبتنا الذين يتكونون
في هذا الميدان. وبقدر ما أنا واثق من أن كثيرا من هؤلاء سيجدون في هذا
الكتاب معلومات ومعارف حديثة يمكن استثمارها وتوظيفها في تربية الطفل
وتشجيعه على التمدرس، بقدر ما أنا متأكد من أن هذا المؤلف إذا تمكن من
مساعدة كل هؤلاء الذين يعايشون الطفل ويتعاملون معه بشكل من الأشكال سواء
داخل الأسرة أو داخل المدرسة، فإنه سيكون قد بلغ غايته المبتغاة رغم أنه لا
يغطي جميع جوانب الإشكالية المطروحة.
والله الموفق
فاس، 25 مارس 2009
فورشيرد
http://adf.ly/DzZf2
الارشيف
http://adf.ly/E59fJ
ميديافير
http://adf.ly/EB2Rk
يشكل التركيز في هذا الكتاب على سيكولوجية الطفولة في علاقتها
بالممارسات التربوية وسيرورات التمدرس استجابة طبيعية لضرورة ملحة
فرضتها حالة المخاض العسير التي كانت وما تزال تعيشها منظومة التربية
والتكوبن عندنا نتيجة تخبطها وتذبذبها بين تفاقم مشاكلها البنيوية والوظيفية
وتعاظم تطلعاتها نحو التغيير والتجديد. وإذا كانت العلاقة المتبادلة بين الطفولة
والتمدرس تبدو كعلاقة بديهية لا تحتاج إلى تبرير مسبق، فلأن المدرسة التي
تكمن وظيفتها في تلقين المعارف أصبحت تشكل ممرا إجباريا لكافة الأطفال ما
عدا أولائك الذين يواجهون وضعيات صعبة. فهي عبارة عن محطة تربوية
رئيسية عادة ما تؤثر، إلى جانب الأسرة بطبيعة الحال، في تفتق شخصية الطفل
ونموه المعرفي وتعلماته. فمثلما أن هناك إجماعا شبه عام حول أهمية الأسرة
ودورها في تشكيل شخصية الطفل عبر أساليبها التربوية المتنوعة، فهناك إجماع
آخر لا يقل عنه شأنا بخصوص أهمية تجارب الطفل المبكرة وتعلماته المدرسية
في هذا المضمار. فحتى وإن كانت الأسرة المغربية والعربية عامة، قد تخلت
للمدرسة عن جزء هام من وظيفتها التربوية - المعرفية، حيث أصبحت تكتفي
بالتربية العاطفية - الوجدانية، فهذا لا يعني بتاتا بأن المدرسة تبقى وحدها هي
المسؤولة على تعليم الطفل وتنمية كفاءاته المعرفية. بل إن وظيفة الأسرة تصبح
أساسية في هذا المقام، إذ أن هذه الوظيفة حتى وإن كانت تتمظهر في جانبها
الأول فيما هو نفسي- اجتماعي، فهي لا تخلو في جانبها الثاني مما هو تعلمي-
معرفي. فدورها لا ينحصر فقط في تأمين حاجيات الطفل البيولوجية والعاطفية،
بل يبقى حاسما حتى على مستوى تحقيق نموه وتعلمه سواء قبل التمدرس أو
أثناءه أو بعده. فهي مطالبة بالمساهمة الفعلية في سيرورة التعلم والاكتساب هاته
وذلك لاعتبارات علمية عديدة أفرزتها اتجاهات البحث السيكولوجي الحديث
وبالخصوص في مجال الكفاءات المبكرة للطفل وقوة المعارف الساذجة التي
يكتسبها ثم أهمية الفعل التربوي المشترك بين الأسرة والمدرسة في التعامل مع
هذه الكفاءات والمعارف.
إذن إذا كان هذا هو دور الأسرة في تربية الطفل، فإن دور المدرسة يكمن
بالدرجة الأولى في الانتقال بفكر هذا الأخير من طبيعته الأولية السياقية إلى
طبيعته القابلة للتجريد والتعميم. فالأكيد أن الطفل لا يأتي في حدود سن السادسة
إلى المدرسة وهو خاوي الوفاض، بل يجيء إليها وهو يمتلك معارف ونظريات
ساذجة حول مختلف مكونات الذات والكون ويقوم التمدرس بتصحيحها وتنميتها
لتأخذ شكل المعارف والنظريات العلمية.
تبعا لما تقدم يمكن الإقرار بأن الدراسة السيكولوجية للطفولة قد عرفت منذ
الثمانينيات من القرن العشرين، تاريخ تغلغل السيكولوجيا المعرفية والتسليم
بالكفاءات المبكرة، انتعاشا ونموا هائلين. فالنظريات والنماذج والمعطيات
المتوفرة بهذا الخصوص هي أكثر من أن تعد أو تحصى. لكن المهتم قد يندهش
حينما يلاحظ أن هذا الكم الضخم من المعارف لم يخترق في مجمله مختلف
شرائح المجتمع إلا بصورة ضئيلة رغم أن أغلبية هذه الشرائح تكون على اتصال
يومي ومسترسل مع الطفل. ومرد ذلك هو أن الراشد نادرا ما يولي لهذا الأخير
ما يستحقه من عناية واهتمام. فقليل هم الآباء الذين يتوفرون على معرفة
بخصوص سيكولوجية أطفالهم، حيث عادة ما يفضلون الانشغال براحتهم
الشخصية وهوايتهم المفضلة. فمعضم هؤلاء لا يكثرتون بما يفعله أطفالهم ولا
يعتمدون في الغالب سوى بعض الأساليب العتيقة في تربيتهم.
إن التجربة المتواضعة التي راكمتها من خلال تدريسي لمادة علم النفس
بالجامعة ومن خلال اهتمامي المتواصل بقضايا تربوية وبيداغوجية، هي التي
قادتني في حقيقة الأمر إلى الاعتقاد بأن تخصيص كتاب لمكانة الطفل بين الأسرة
والمدرسة سيفضي بدون أدنى شك إلى فائدة معينة، وسيشكل بالتالي إطارا أوليا
للتعريف بهذه المكانة التي أصبحت تؤرق كاهل كثير من الآباء والمربين
والمهتمين بالشأن التربوي عندنا نتيجة مشاكل التكيف والاندماج وصعوبات
التعلم والاكتسات ومظاهر الهدر والضياع المدرسيين.
ستشكل الإجابة على السؤال: ما هي الاستراتيجية الناجعة لتربية وتكوين
متعلم فعال قادر على الابتكار والتفكير النقدي ومواجهة الصعوبات وحل
المشاكل، الهدف الأساسي لهذا المؤلف بمضامينه وفصوله الستة. فبالتأكيد أن
هذه الاستراتيجية لا مكان لها حتى الآن في مواصفات المدرسة السائدة عندنا،
ولا وجود لها في المرجعيات السيكولوجية التي تنبني عليها تلك المواصفات لإنها
مرجعيات كلاسيكية ومتجاوزة في مجملها. ولهذا فإن أي إصلاح لمنظومتنا
التربوية يبقى عديم الجدوى ما لم يتم إعادة النظر في مرجعياتها الأساسية
ومرتكزاتها الجوهرية. وهي مرجعيات ومرتكزات تحيل بطبيعة الحال على
أطراف عديدة وفي مقدمتها السيكولوجيا وكل ما توفره من نتائج وخلاصات عن
سيكولوجية الطفولة وسيرورة الاكتساب ثم التربية وكل ما تسطره من برامج
ومناهج للتعليم والتكوين. وبين هذين الطرفين يتواجد المتعلم الذي يشكل الطرف
الأساسي لكونه لم يعد كما كان في السابق ينعت بالصفحة البيضاء أو بالذهن
الفارغ أو بالعنصر السلبي. بل أصبح يمثل في السيكولوجيا المعرفية الحالية
العنصر الفعال الماهر الذي يدرك ويفهم ويفكر ويساهم بنشاط في تعلماته منذ
سن مبكر. فهذا المتعلم العالم أو العالم المتعلم لا يأتي إلى المدرسة خاوي
الوفاض أو فارغ الذهن، بل يجيء إليها وهو محمل بمعارف ونظريات معينة
هي التي تقوم المدرسة بتصحيحها وتطويرها. وبهذا المعنى فنحن في حاجة إلى
المدرسة التي بإمكانها أن تلعب دور الوسيط في في مجال تحويل معارف الطفل
من مستوى سياقها الطبيعي الساذج إلى مستوى سياقها المؤسساتي العلمي. بمعنى
المدرسة التي توجه الطفل دون أن ترهبه، تشجعه دون أن تحبطه، تحفزه دون
أن تكبته وتو عيه دون أن تُؤَليَله. إنها ببساطة المدرسة التي تبني وتكون المتعلم
العالم الماهر القادر على تصريف المعارف المدرسية العلمية إلى معارف
مجتمعية مهارية.
إذن إن الصورة التي حاولت تقديمها في هذا الكتاب هي موجهة بالأساس إلى
كل الأشخاص الذين تضعهم مسؤولياتهم وأنشطتهم أمام مشاكل الطفولة في
علاقتها بالأسرة والمدرسة، وأخص بالذكر الآباء والمربين والمدرسين
والمساعدين الاجتماعيين وأصحاب القرار دون أن أنسى طلبتنا الذين يتكونون
في هذا الميدان. وبقدر ما أنا واثق من أن كثيرا من هؤلاء سيجدون في هذا
الكتاب معلومات ومعارف حديثة يمكن استثمارها وتوظيفها في تربية الطفل
وتشجيعه على التمدرس، بقدر ما أنا متأكد من أن هذا المؤلف إذا تمكن من
مساعدة كل هؤلاء الذين يعايشون الطفل ويتعاملون معه بشكل من الأشكال سواء
داخل الأسرة أو داخل المدرسة، فإنه سيكون قد بلغ غايته المبتغاة رغم أنه لا
يغطي جميع جوانب الإشكالية المطروحة.
والله الموفق
فاس، 25 مارس 2009
فورشيرد
http://adf.ly/DzZf2
الارشيف
http://adf.ly/E59fJ
ميديافير
http://adf.ly/EB2Rk