هناك عدة أسباب تدعوني إلى التحدث عن الجوانب النفسية لسلوك الإنسان
خلال حالات الفقد التي قد يتعرض لها خلال مسيرة حياته منذ الطفولة وحتى
الشيخوخة وانتهاء بالوفاة..
فالمراجع العربية في هذا المجال نادرة على فرض وجودها، فمن خلال
متابعتي خلال ما يقارب العقدين من الزمن لمعظم ما ينشر باللغة العربية عن
العلوم النفسية لم أوفق بالعثور على مرجع في هذا المجال، رغم أهميته البالغة
للباحث والمختص في ميدان العلوم النفسية إضافة إلى كل من الطبيب وطالب
الطب والتربية والمعلم وقبل كل هؤلاء الأهل والأسرة..
وهو فقد Real بشكل عام يتظاهر الفقد بعدة مظاهر، فهناك الفقد الحقيقي
،Threatened شخص معين ذو أهمية خاصة بالنسبة إلينا. وهناك الفقد المهدد
وهو ظرف الإنسان الذي يتعامل مع خطورة وفاة شخص هام بالنسبة إليه. وعند
الإنسان فقط من بين كل الكائنات يوجد ما يمكن أن ندعوه الفقد الرمزي
فليس الفقد هنا لإنسان بل لاعتقاد أو فكرة أو طريقة حياة أو حتى ،Symbolic
إذ يتعامل Fantasied لبلد. وهناك أيضا ما يمكن أن ندعوه الفقد الخيالي
الأشخاص كما لو أن هناك فقداً مع أنه لا يوجد سبب واضح لهذا الاعتقاد.
سبق أن تحدثت في كتابي "كيف نفهم الطفل والمراهق" عن تطور الكائن
البشري من الولادة وحتى المراهقة ورأينا كثرة أنواع الفقد والحرمان التي
تفرضها الظروف التطورية المختلفة: فقد الطفل لوحدته مع أمه، وفقد الطفل
الدارج لصورة أمه المهتمة بشؤونه، ونلاحظ فيما بعد فقد متوسط السن والمتقدم
في السن للشباب والصحة الجسدية. وفي الحقيقة، يمكن أن نعتبر كل دورة الحياة
من الولادة إلى الوفاة، كتغيرات في موضوع الحرمان والفردية والفقد..
إضافة لهذه الحرمانات الأساسية المتعلقة بالنمو والتطور، هناك حرمانات أقل
توقعاً مثل الحرمان غير العكوس لوفاة شخص مهم، يمكن للشخص أن يختبر فقداً
دائماً في ظروف الطلاق أو أي نوع من الافتراق يصبح بعد الشخص فيه طويلاً.
وقد يشعر الإنسان بتغير في علاقات الحب، فزوجة كانت معتادة على حب زوجها
لها وإظهار هذا الحب، سوف تشعر بنوع من الفقد عند انشغاله بعمله.
ونوع كبير من الفقد لأي شخص هو عند تعرضه لمرض جسدي. وبالطبع
فإن عمليات البتر أو أي عمليات أخرى فيها ضياع لأقسام من الجسم هي مصدر
كبير لشعورنا بالفقد. وقد يشعر الإنسان بالفقد عند اضطراب عمل أ ي عضو من
الأعضاء، أو اضطراب كلي كما يحدث في سن اليأس عند المرأة.
إن أي مرض عضوي يعطي بعض الفقد للآلية الصحية للفرد، فهذا يبدو
صحيحاً تماماً في الأمراض المزمنة حيث يشكل العلاج أيضاً نوعاً من الفقد.
مثال ذلك، شخص عنده داء قلبي رثوي سيطلب منه تحديد نشاطه، ولكن بتقدم
الجراحة القلبية وإمكان إجراء العمل سيعود إلى الشخص استطاعته القيام بحيويته
الكاملة تقريباً، وعندها سيشعر ببعض الفقد لحياته السابقة المحددة. وعلى الرغم
من أنه عاد صحيحاً لكنه يستصعب عودة التلاؤم لطريقته القديمة في معاملة
الناس، وهذا قد يشكل تعقيداً أكبر.
هناك أيضاً أنواع أخرى من الفقدان تسبب ارتكاس حرمان مثل فقد المركز
الاجتماعي، فقد العضوية في تجمع أو جماعة معينة، فقد بيت معين، فقد وظيفة،
فقد ممتلكات شخصية معينة. وشوهدت حالات حرمان في الأشخاص الذين
اضطروا لتطور مدني معين، عندها لم يكتفوا بتغيير سكنهم إلى قسم آخر في
المدينة مثلاً، أو تغيير المدينة أو هجرها، ولكن أيضاً افتقدوا طريقة حياتهم
السابقة. ومن أنواع الفقد المعروفة الدلال. وأكثر من ذلك عديد من الأشخاص
أصيبوا بالانعزال والانسحاب الاجتماعي ليس من فقد إنساناً إنما أيضا قد يكون
من فقد حيوانات أليفة عندهم وشاهدت حالات كثيرة لأناس تعرضوا لارتكاس
شديد من الأسى لفقد حيوان أليف أو طائر.
هذا الكتاب لن يتحدث عن كل هذا الكم الهائل من أنواع الفقد الذي يتعرض
له الإنسان من لحظة ولادته وحتى وفاته، وإنما سيتطرق إلى أهم أنواع الفقد
فقط، وهو استجابة لرغبة العديد من الأصدقاء والزملاء وكذلك استجابة لرغبة
الكثير من أهالي الأطفال والمراهقين ليتعرفوا كيف يمكنهم تفهم الطفل والمراهق
وكيف يمكنهم تفهم الآباء في سنوات الكهولة والشيخوخة من خلال حالات الفقد
الرئيسية، وكيف يمكنهم التعامل مع هذه الحالات بأيسر السبل وأفضل الطرق
وهذا ما حاولت جاهدا أن أعرضه بأسلوب تحليلي مبسط قدر الإمكان، ولا أدري
نصيبي من التوفيق فيما ذهبت إليه.
عرضت في القسم الأول من هذا الكتاب عبر فصوله الأربع نظرتنا للحياة
والمعاني الاجتماعية للمرض، من خلال مفهوم المرض ودور الحضارة
المعاصرة في مساندة العلوم الطبية، وأدوار كل من الطبيب والمريض وثقافة
المشافي والمراكز الطبية الحديثة المنتشرة في عصرنا.
في القسم الثاني من خلال فصليه عرضت ارتكاس الأطفال للمرض
والاستشفاء والجراحة والعجز الجسدي وارتكاس العائلة والكادر الطبي للضغوط
والشدة..
في القسم الثالث من خلال فصوله الأربعة عرضت مفهوم الفقد والأسى
والحداد عند الأطفال ومراحل الحداد عند الأطفال والهجر والاكتساب في
المراحل التطورية والحداد المرضي عند الأطفال.
كما عرضت في القسم الرابع من خلال فصوله السبعة المنظورات الأخلاقية
والمنظورات السريرية للطفل والمراهق المحتضر، وتحدثت عن فقدان جزء
من الجسم، وفقدان شقيق، وفقدان أحد الوالدين، وفقدان زميل، وموت
المراهق..
أما في القسم الخامس فعرضتُ من خلال فصوله الفقد والأسى والحداد عند البالغين
ومراحل الحداد والأسى الطبيعي والحداد المرضي والطبيب ودوره في الحداد..
في القسم السادس عرضت من خلال فصوله الاحتضار عند البالغ وعرضت
لمحة تاريخية دينية إضافة إلى التطورات المعاصرة للعناية الطبية بالمحتضر
ومراحل الاحتضار عند البالغ وتفرد تجربة الاحتضار..
وفي الختام عرضت ملخصاً.. ثم ختمت الكتاب بمقاطع مطولة من رسالة
التي شرحت فيها تجربة ارتكاسها من Thunberg أستاذة الطب النفسي الدكتورة
خلال ما عانته نتيجة إصابتها ميلانو كارسينوما..
بقي أن أقول.. لا يمكنني اعتبار هذا الكتاب تأليفا صرفاً أو إعداداً وتأليفاً أو
حتى ترجمة، فالتأليف يجب أن يكون بالمجيء بشيء غير مسبوق، والإعداد
والتأليف اعتدت في كتبي أن يكون على الأقل ما يزيد على نصف الكتاب تأليفاً
وما يقل عن النصف الآخر إعداداً، والترجمة هي نقل شيء من لغة إلى لغة
أخرى، وهذا الكتاب لا تنطبق عليه أي من تلك الحالات..
لكن فيه من كل ما ذكرت وهو مط عم بخبرتي السريرية ورؤيتي التحليلية
وهي مختلفة إلى حد كبير عن الطرق والأساليب التحليلية المتعارف عليها.. لقد
حاولت أن أعرِض بطريقة وأسلوب مبسطين قدر الإمكان محتواه العلمي، ولكن
لا يصل ذلك إلى مستوى التأليف الصرف، وفيه من الإعداد والترجمة، ولكن
بطريقة وأسلوب وفق ما وفقت من فهم وخبرة،.. وكنتُ مجبراً على الاعتماد
بشكل كامل على الأبحاث الأجنبية لأن الأبحاث العربية في هذا المجال لم تزل
في مراحلها الأولى على أحسن تقدير،.. وبشكل عام هذه الأبحاث جرت في
بيئات ومجتمعات ومفاهيم وثقافات جميعها مختلفة عن بيئة مجتمعنا ومفاهيمه
وثقافته،.. ومع ذلك حرصت بكل ما استطعت على الدقة وعلى الأمانة العلمية
وبما لا يسيء للحرفية والمهنية..
إن الكثير من اللوحات الموجودة في متن هذا الكتاب هي للفنانة الألمانية
1867-1945 ) هذه اللوحات رغم أنها اعتبرت برأي النقاد ) Käthe Kollwitz
إبداعا فنيا يجلب السعادة لكل من يشاهدها، فان هذه الرسامة الكبيرة عاشت بؤساً
فظيعاً، إذ قُتلَ ابنها بيتر في الحرب العالمية الأولى، وعندما وصل هتلر إلى
الحكم عام 1933 اعتبرت أعمالها خارجة على القانون من قبل النازيين،
وأُجبرت على التقاعد من أكاديمية الفنون البروسية، وسحبت أعمالها من كل
المتاحف الألمانية، وهددت بالسجن من قبل الغستابو وكذلك زوجها الطبيب كارل
كولفيتس الذي كرس حياته للاهتمام بالفقراء، مات زوجها في الحرب العالمية
الثانية، وقتل حفيدها على الجبهة الروسية، وتهدم منزلها في برلين، وفي النهاية
كانت مستعدة لنداء الموت وهي لوحتها الأخيرة التي رسمتها عام 1935 وانتهت
منها عام 1945 وهي بعمر 78 عاما.
بإنجاز هذا العمل تتحد الخطوط البسيطة بتناغم وتجانس لتش ّ كل لوحة تضج
بالحياة، إ ن عملي المتواضع هذا… ينبو ع تعانقت فيه قطرات صغيرة من جهود
غالية حتى أخرجته إلى النور.. فالورد والياسمين لكل من له يد بيضاء في عملي
هذا، ولكل من شاركني جهده.. ولكل العيون التي راقبتني.. وانتظرتني بحب...
كل الشكر والامتنان لعملاق الطب النفسي، أستاذ الأجيال وعميد الطب
النفسي العربي البروفيسور يحيى الرخاوي (مصر) هذا العالِم المبدع والمفكر
والأديب والشاعر الكبير.. وقبل كل ذلك.. الطبيب الإنسان... الذي شرفني -
رغم العمل الهائل بين يديه وضيق وقته- بتوشيح كتابي هذا بمقدمة أعتز وأقدر
وأحترم كل ما جاء فيها..
وإنني ممتن للصديق العزيز المفكر أ.د. جمال التركي (تونس) مؤسس شبكة
العلوم النفسية العربية ورئيسها.. هذه الشبكة التي قلت عنها سابقاً إنها غدت
أكاديمية شاملة في العلوم النفسية قدمت لعلماء النفس العرب وأطبائهم مالم تقدمه
أي جامعة.. وأقول الآن إن جمال التركي وحده غدا أكاديمية جامعة..
هذا الرجل يعمل بصمت.. ويعود الفضل إليه بإنشاء أضخم بوابة شاملة للعلوم
النفسية الأكاديمية على الانترنت.. وحقق التواصل السريع لأول مرة عبر التاريخ بين
علماء النفس العرب وأطبائهم ووضع أحدث الأبحاث بين أيديهم.. إضافة إلى إنجازه
معجم الشبكة العربية للعلوم النفسية الذي يضم 112000 مصطلح نفسي بثلاث لغات
(العربية، الانكليزية، الفرنسية) وهذا يفوق 5000 صفحة ورقية.
في الختام أقول: علينا أ ّ لا ننسى أن الحياة جميلة، ولكنها كئيبة في الوقت
نفسه، فكلنا مفروض عليه أن يفقد من يحبهم سواء بوفاتهم أو وفاتنا، وعبر كل
القرون لاحظ العلماء والفلاسفة والأدباء والشعراء والفنانون وغيرهم هذه الحقيقة
المرة للوجود الإنساني.. لكن على الأطباء دون الناس جميعا بحكم مهنتهم تجاوز
هذه المقولة في أحداث وجودهم اليومي وممارستهم المهنية، ومن ثم عليهم أن
يستطيعوا ابتكار القدرة على مسح نهاية الحياة المطلقة مع أي مريض.
كلي أمل أن أكون قد وفقت لتقديم ما هو جدير بالزمن الذي سيبدد أثناء
قراءة هذا الكتاب.
هذا كتاب جيد، كتبه مؤلفه العالم الفاضل، باللغة العربية، من واقع ثقافتنا
الخاصة، لعلنا نتذكر معه أننا نفرح بالعربية، ونحزن بالعربية ، ونحب
بالعربية، ونمرض بالعربية، ونشفى بالعربية،
فورشيرد
http://adf.ly/DzZah
الارشيف
http://adf.ly/E59s5
ميديافير
http://adf.ly/EB1Bm
خلال حالات الفقد التي قد يتعرض لها خلال مسيرة حياته منذ الطفولة وحتى
الشيخوخة وانتهاء بالوفاة..
فالمراجع العربية في هذا المجال نادرة على فرض وجودها، فمن خلال
متابعتي خلال ما يقارب العقدين من الزمن لمعظم ما ينشر باللغة العربية عن
العلوم النفسية لم أوفق بالعثور على مرجع في هذا المجال، رغم أهميته البالغة
للباحث والمختص في ميدان العلوم النفسية إضافة إلى كل من الطبيب وطالب
الطب والتربية والمعلم وقبل كل هؤلاء الأهل والأسرة..
وهو فقد Real بشكل عام يتظاهر الفقد بعدة مظاهر، فهناك الفقد الحقيقي
،Threatened شخص معين ذو أهمية خاصة بالنسبة إلينا. وهناك الفقد المهدد
وهو ظرف الإنسان الذي يتعامل مع خطورة وفاة شخص هام بالنسبة إليه. وعند
الإنسان فقط من بين كل الكائنات يوجد ما يمكن أن ندعوه الفقد الرمزي
فليس الفقد هنا لإنسان بل لاعتقاد أو فكرة أو طريقة حياة أو حتى ،Symbolic
إذ يتعامل Fantasied لبلد. وهناك أيضا ما يمكن أن ندعوه الفقد الخيالي
الأشخاص كما لو أن هناك فقداً مع أنه لا يوجد سبب واضح لهذا الاعتقاد.
سبق أن تحدثت في كتابي "كيف نفهم الطفل والمراهق" عن تطور الكائن
البشري من الولادة وحتى المراهقة ورأينا كثرة أنواع الفقد والحرمان التي
تفرضها الظروف التطورية المختلفة: فقد الطفل لوحدته مع أمه، وفقد الطفل
الدارج لصورة أمه المهتمة بشؤونه، ونلاحظ فيما بعد فقد متوسط السن والمتقدم
في السن للشباب والصحة الجسدية. وفي الحقيقة، يمكن أن نعتبر كل دورة الحياة
من الولادة إلى الوفاة، كتغيرات في موضوع الحرمان والفردية والفقد..
إضافة لهذه الحرمانات الأساسية المتعلقة بالنمو والتطور، هناك حرمانات أقل
توقعاً مثل الحرمان غير العكوس لوفاة شخص مهم، يمكن للشخص أن يختبر فقداً
دائماً في ظروف الطلاق أو أي نوع من الافتراق يصبح بعد الشخص فيه طويلاً.
وقد يشعر الإنسان بتغير في علاقات الحب، فزوجة كانت معتادة على حب زوجها
لها وإظهار هذا الحب، سوف تشعر بنوع من الفقد عند انشغاله بعمله.
ونوع كبير من الفقد لأي شخص هو عند تعرضه لمرض جسدي. وبالطبع
فإن عمليات البتر أو أي عمليات أخرى فيها ضياع لأقسام من الجسم هي مصدر
كبير لشعورنا بالفقد. وقد يشعر الإنسان بالفقد عند اضطراب عمل أ ي عضو من
الأعضاء، أو اضطراب كلي كما يحدث في سن اليأس عند المرأة.
إن أي مرض عضوي يعطي بعض الفقد للآلية الصحية للفرد، فهذا يبدو
صحيحاً تماماً في الأمراض المزمنة حيث يشكل العلاج أيضاً نوعاً من الفقد.
مثال ذلك، شخص عنده داء قلبي رثوي سيطلب منه تحديد نشاطه، ولكن بتقدم
الجراحة القلبية وإمكان إجراء العمل سيعود إلى الشخص استطاعته القيام بحيويته
الكاملة تقريباً، وعندها سيشعر ببعض الفقد لحياته السابقة المحددة. وعلى الرغم
من أنه عاد صحيحاً لكنه يستصعب عودة التلاؤم لطريقته القديمة في معاملة
الناس، وهذا قد يشكل تعقيداً أكبر.
هناك أيضاً أنواع أخرى من الفقدان تسبب ارتكاس حرمان مثل فقد المركز
الاجتماعي، فقد العضوية في تجمع أو جماعة معينة، فقد بيت معين، فقد وظيفة،
فقد ممتلكات شخصية معينة. وشوهدت حالات حرمان في الأشخاص الذين
اضطروا لتطور مدني معين، عندها لم يكتفوا بتغيير سكنهم إلى قسم آخر في
المدينة مثلاً، أو تغيير المدينة أو هجرها، ولكن أيضاً افتقدوا طريقة حياتهم
السابقة. ومن أنواع الفقد المعروفة الدلال. وأكثر من ذلك عديد من الأشخاص
أصيبوا بالانعزال والانسحاب الاجتماعي ليس من فقد إنساناً إنما أيضا قد يكون
من فقد حيوانات أليفة عندهم وشاهدت حالات كثيرة لأناس تعرضوا لارتكاس
شديد من الأسى لفقد حيوان أليف أو طائر.
هذا الكتاب لن يتحدث عن كل هذا الكم الهائل من أنواع الفقد الذي يتعرض
له الإنسان من لحظة ولادته وحتى وفاته، وإنما سيتطرق إلى أهم أنواع الفقد
فقط، وهو استجابة لرغبة العديد من الأصدقاء والزملاء وكذلك استجابة لرغبة
الكثير من أهالي الأطفال والمراهقين ليتعرفوا كيف يمكنهم تفهم الطفل والمراهق
وكيف يمكنهم تفهم الآباء في سنوات الكهولة والشيخوخة من خلال حالات الفقد
الرئيسية، وكيف يمكنهم التعامل مع هذه الحالات بأيسر السبل وأفضل الطرق
وهذا ما حاولت جاهدا أن أعرضه بأسلوب تحليلي مبسط قدر الإمكان، ولا أدري
نصيبي من التوفيق فيما ذهبت إليه.
عرضت في القسم الأول من هذا الكتاب عبر فصوله الأربع نظرتنا للحياة
والمعاني الاجتماعية للمرض، من خلال مفهوم المرض ودور الحضارة
المعاصرة في مساندة العلوم الطبية، وأدوار كل من الطبيب والمريض وثقافة
المشافي والمراكز الطبية الحديثة المنتشرة في عصرنا.
في القسم الثاني من خلال فصليه عرضت ارتكاس الأطفال للمرض
والاستشفاء والجراحة والعجز الجسدي وارتكاس العائلة والكادر الطبي للضغوط
والشدة..
في القسم الثالث من خلال فصوله الأربعة عرضت مفهوم الفقد والأسى
والحداد عند الأطفال ومراحل الحداد عند الأطفال والهجر والاكتساب في
المراحل التطورية والحداد المرضي عند الأطفال.
كما عرضت في القسم الرابع من خلال فصوله السبعة المنظورات الأخلاقية
والمنظورات السريرية للطفل والمراهق المحتضر، وتحدثت عن فقدان جزء
من الجسم، وفقدان شقيق، وفقدان أحد الوالدين، وفقدان زميل، وموت
المراهق..
أما في القسم الخامس فعرضتُ من خلال فصوله الفقد والأسى والحداد عند البالغين
ومراحل الحداد والأسى الطبيعي والحداد المرضي والطبيب ودوره في الحداد..
في القسم السادس عرضت من خلال فصوله الاحتضار عند البالغ وعرضت
لمحة تاريخية دينية إضافة إلى التطورات المعاصرة للعناية الطبية بالمحتضر
ومراحل الاحتضار عند البالغ وتفرد تجربة الاحتضار..
وفي الختام عرضت ملخصاً.. ثم ختمت الكتاب بمقاطع مطولة من رسالة
التي شرحت فيها تجربة ارتكاسها من Thunberg أستاذة الطب النفسي الدكتورة
خلال ما عانته نتيجة إصابتها ميلانو كارسينوما..
بقي أن أقول.. لا يمكنني اعتبار هذا الكتاب تأليفا صرفاً أو إعداداً وتأليفاً أو
حتى ترجمة، فالتأليف يجب أن يكون بالمجيء بشيء غير مسبوق، والإعداد
والتأليف اعتدت في كتبي أن يكون على الأقل ما يزيد على نصف الكتاب تأليفاً
وما يقل عن النصف الآخر إعداداً، والترجمة هي نقل شيء من لغة إلى لغة
أخرى، وهذا الكتاب لا تنطبق عليه أي من تلك الحالات..
لكن فيه من كل ما ذكرت وهو مط عم بخبرتي السريرية ورؤيتي التحليلية
وهي مختلفة إلى حد كبير عن الطرق والأساليب التحليلية المتعارف عليها.. لقد
حاولت أن أعرِض بطريقة وأسلوب مبسطين قدر الإمكان محتواه العلمي، ولكن
لا يصل ذلك إلى مستوى التأليف الصرف، وفيه من الإعداد والترجمة، ولكن
بطريقة وأسلوب وفق ما وفقت من فهم وخبرة،.. وكنتُ مجبراً على الاعتماد
بشكل كامل على الأبحاث الأجنبية لأن الأبحاث العربية في هذا المجال لم تزل
في مراحلها الأولى على أحسن تقدير،.. وبشكل عام هذه الأبحاث جرت في
بيئات ومجتمعات ومفاهيم وثقافات جميعها مختلفة عن بيئة مجتمعنا ومفاهيمه
وثقافته،.. ومع ذلك حرصت بكل ما استطعت على الدقة وعلى الأمانة العلمية
وبما لا يسيء للحرفية والمهنية..
إن الكثير من اللوحات الموجودة في متن هذا الكتاب هي للفنانة الألمانية
1867-1945 ) هذه اللوحات رغم أنها اعتبرت برأي النقاد ) Käthe Kollwitz
إبداعا فنيا يجلب السعادة لكل من يشاهدها، فان هذه الرسامة الكبيرة عاشت بؤساً
فظيعاً، إذ قُتلَ ابنها بيتر في الحرب العالمية الأولى، وعندما وصل هتلر إلى
الحكم عام 1933 اعتبرت أعمالها خارجة على القانون من قبل النازيين،
وأُجبرت على التقاعد من أكاديمية الفنون البروسية، وسحبت أعمالها من كل
المتاحف الألمانية، وهددت بالسجن من قبل الغستابو وكذلك زوجها الطبيب كارل
كولفيتس الذي كرس حياته للاهتمام بالفقراء، مات زوجها في الحرب العالمية
الثانية، وقتل حفيدها على الجبهة الروسية، وتهدم منزلها في برلين، وفي النهاية
كانت مستعدة لنداء الموت وهي لوحتها الأخيرة التي رسمتها عام 1935 وانتهت
منها عام 1945 وهي بعمر 78 عاما.
بإنجاز هذا العمل تتحد الخطوط البسيطة بتناغم وتجانس لتش ّ كل لوحة تضج
بالحياة، إ ن عملي المتواضع هذا… ينبو ع تعانقت فيه قطرات صغيرة من جهود
غالية حتى أخرجته إلى النور.. فالورد والياسمين لكل من له يد بيضاء في عملي
هذا، ولكل من شاركني جهده.. ولكل العيون التي راقبتني.. وانتظرتني بحب...
كل الشكر والامتنان لعملاق الطب النفسي، أستاذ الأجيال وعميد الطب
النفسي العربي البروفيسور يحيى الرخاوي (مصر) هذا العالِم المبدع والمفكر
والأديب والشاعر الكبير.. وقبل كل ذلك.. الطبيب الإنسان... الذي شرفني -
رغم العمل الهائل بين يديه وضيق وقته- بتوشيح كتابي هذا بمقدمة أعتز وأقدر
وأحترم كل ما جاء فيها..
وإنني ممتن للصديق العزيز المفكر أ.د. جمال التركي (تونس) مؤسس شبكة
العلوم النفسية العربية ورئيسها.. هذه الشبكة التي قلت عنها سابقاً إنها غدت
أكاديمية شاملة في العلوم النفسية قدمت لعلماء النفس العرب وأطبائهم مالم تقدمه
أي جامعة.. وأقول الآن إن جمال التركي وحده غدا أكاديمية جامعة..
هذا الرجل يعمل بصمت.. ويعود الفضل إليه بإنشاء أضخم بوابة شاملة للعلوم
النفسية الأكاديمية على الانترنت.. وحقق التواصل السريع لأول مرة عبر التاريخ بين
علماء النفس العرب وأطبائهم ووضع أحدث الأبحاث بين أيديهم.. إضافة إلى إنجازه
معجم الشبكة العربية للعلوم النفسية الذي يضم 112000 مصطلح نفسي بثلاث لغات
(العربية، الانكليزية، الفرنسية) وهذا يفوق 5000 صفحة ورقية.
في الختام أقول: علينا أ ّ لا ننسى أن الحياة جميلة، ولكنها كئيبة في الوقت
نفسه، فكلنا مفروض عليه أن يفقد من يحبهم سواء بوفاتهم أو وفاتنا، وعبر كل
القرون لاحظ العلماء والفلاسفة والأدباء والشعراء والفنانون وغيرهم هذه الحقيقة
المرة للوجود الإنساني.. لكن على الأطباء دون الناس جميعا بحكم مهنتهم تجاوز
هذه المقولة في أحداث وجودهم اليومي وممارستهم المهنية، ومن ثم عليهم أن
يستطيعوا ابتكار القدرة على مسح نهاية الحياة المطلقة مع أي مريض.
كلي أمل أن أكون قد وفقت لتقديم ما هو جدير بالزمن الذي سيبدد أثناء
قراءة هذا الكتاب.
هذا كتاب جيد، كتبه مؤلفه العالم الفاضل، باللغة العربية، من واقع ثقافتنا
الخاصة، لعلنا نتذكر معه أننا نفرح بالعربية، ونحزن بالعربية ، ونحب
بالعربية، ونمرض بالعربية، ونشفى بالعربية،
فورشيرد
http://adf.ly/DzZah
الارشيف
http://adf.ly/E59s5
ميديافير
http://adf.ly/EB1Bm