المؤلف الدكتور محمد طه
دار النشر : المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب ـ الكويت
تاريخ النشر : 2006
عدد الصفحات: 335
يحاول مؤلف الكتاب الدكتور محمد طه أن يرصد تاريخ الاهتمام بالذكاء الإنساني، والذي أشار في بداية الكتاب أن أول محاولة لقياس لذكاء والقدرات تمت في القرن الثاني قبل الميلاد على أيدي الصينيين، وهو تاريخ يعود إلى حوالي 2000 عام قبل بزوغ المحاولات الغربية في هذا المجال على يد العالم التربوي الفرنسي ألفرد بنيه ،كما كان للعرب والمسلمين دور في بارز في تحديد بعض جوانب مفهوم الذكاء.
القدرات العقلية
ويشير مؤلف الكتاب إلى أنه في الحضارة الإغريقية قدم أفلاطون على لسان أستاذه سقراط، في محاورة "الجمهورية"، نظرية حول القدرات العقلية، وتفترض هذه النظرية أنه يمكن تقسيم البشر إلى ثلاث فئات : الحكام ـ الفلاسفة وهم في أعلى سلم القدرات العقلية، يليهم القادة العسكريون، ويأتي العمال والفلاحون في أدنى السلم.
وحسب هذه النظرية، فإن هذا التقسيم محدد وراثيًا ، ويتحدد بشكل نهائي عند الميلاد وغير قابل للتغير كطبيعة المعادن ، فالحكام مصنوعون من الذهب، والقادة مصنوعون من الفضة، أما العمال والفلاحون فمصنوعون من الحديد.
كذلك ربط أرسطو بين الوظائف العقلية والمخ ، وقدم تصورًا للذكاء يقوم على افتراض أنه يتكون من ثلاثة جوانب: الجانب الأول نظري يتعلق بفهم الجوانب المجردة، أما الثاني فهو عملي يتصل بالمهارة في الحياة العملية، وجانب إنتاجي يتعلق بالقدرة على الإبداع والابتكار.
أما في الحضارة العربية والإسلامية، فربما كانت أكثر محاولات دراسة الذكاء مباشرة وعمومية هي دراسات ابن الجوزي عن الذكاء، وذلك في كتابه عن "الأذكياء"، واستأثر جانبين رئيسين باهتمام ابن الجوزي عند دراسته للذكاء: الأول هو الذكاء اللفظي، وهو ما يتجلى في الاهتمام بمعاني المفردات وإدراك الفروق الدقيقة بينها، وكيفية التلاعب بالألفاظ، والقدرة على معرفة المعني الواحد باختلاف الكلمات المعبرة عنه.
ومن ذلك ما أورده بسنده من حديث مالك ، إذ قال :"جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم يستحمله (أي يطلب منه أن يحمله على دابة بغرض الغزو والجهاد ) فقال إني حاملك على ولد الناقة . قال يا رسول الله وما أصنع بولد الناقة ؟ قال : وهل تلد الإبل إلا النوق".
أما الجانب الثاني الذي اهتم به ابن الجوزي فكان الذكاء العملي، أو قدرة حل المشكلات والتي تعتمد على إدراك المشكلة وسرعة الاستجابة لها، ومن ذلك ما أورده ابن الجوزي من رواية الأصمعي عن أبيه من أنه أُتي عبد الملك بن مروان برجل كان مع بعض من خرج عليه فقال : اضربوا عنقه. فقال يا أمير المؤمنين ما كان هذا جزائي منك. قال : وما جزاؤك ؟ قال : والله ما خرجت مع فلان إلا بالنظر إليك، وذلك أني رجل مشؤوم ما كنت مع رجل قط إلا غُلب وهُزم. وقد بان لك صحة ما ادعيت وكنت خيرًا لك من مائة ألف معك . فضحك وخلى سبيله".
أما الغرب، إبان العصور الوسطى، فقد اقتصر ما يتعلق بالذكاء على دراسة طبيعة وإدراك العالم، وهنا لا يتجاوز الأمر جهودًا متفرقة من بعض الفلاسفة الذين اهتموا بطبيعة العلاقة بين العقل والدين ، وكيفية استخدام العقل في معرفة الله ، وهي جهود كانت في مجملها متأثرة بالفكر الأرسطي مثل أفكار توما الأكويني (1225 ـ 1274) .
ولم تبدأ دراسة طبيعة الذكاء في الغرب إلا على يد اثنين من الأطباء النفسيين الفرنسيين في أواخر القرن الثامن عشر وأوائل القرن التاسع عشر وهما جان اتيين إسكوريل 1772 ـ 1840، وجان مارك إيتارد 1775 ـ 1838 ، فقد كان إسكوريل أول من ميز بين المرض النفسي والتخلف العقلي ، وحاول أن يضع تصنيفًا لفئات التخلف العقلي بدلاً من اعتباره ظاهرة كلية متجانسة ، كما تنبه مبكرًا إلى أهمية الجوانب اللغوية في الذكاء فاعتبر أن القصور اللغوي ، وليس المشاكل الحسية أو الجسدية أهم مؤشرات الضعف العقلي .
الفص الجبهي
ويرى المؤلف أن المنحى البيولوجي يحاول تحديد علاقة الذكاء بالجوانب البنيوية للمخ مثل حجم المخ وعلاقة الذكاء بالأجزاء التشريحية المختلفة في المخ، ولعل أحد أقدم الاكتشافات في هذا الصدد يدور حول دور الفص الجبهي في الذكاء وهو اكتشاف يرجع كما يقول غراي وتومسون إلى أكثر من 125 عامًا مضت ومازالت تدعمه الدراسات الحديثة. ويقدم المرضى الذين يتعرضون لعطب في هذا الجزء المهم من المخ فرصة مهمة لدراسة أثره في الذكاء .
ومن ناحية أخرى أعادت بعض الدراسات التأكيد على علاقة الذكاء بحجم المخ . فمثلاً وجد ويلرمان وزملاؤه معامل ارتباط بين الذكاء وحجم المخ يبلغ 0.65 بالنسبة إلى الذكور و0.35 بالنسبة إلى الإناث، و0.51 للجنسين معًا ، وذلك بعد تثبيت أثر حجم الجسم.
كما أظهرت نتائج هذا الفريق البحثي أن حجم النصف الأيسر من المخ لدى الرجال يشير إلى ارتفاع المهارات اللفظية كما يقيسها مقياس وكسلر ، بينما يشير كبر حجم هذا النصف لدى النساء إلى ارتفاع المهارات المكانية غير اللفظية.
أنواع الذكاء
ويتطرق الكاتب إلى أنواع الذكاء ،حيث يرى أن هناك ثمانية أنواع من الذكاء في نظرية الذكاء المتعدد لهوارد غاردنر الأستاذ بجامعة هارفارد بكتابه "أطر العقل"، على النحو التالي :
1- الذكاء اللغوي : ويتضمن التمكن من مهارات فهم اللغة من خلال القراءة أو الاستماع ومهارات إنتاج اللغة من خلال الكتابة والكلام، وهي المهارات التي يوجد مركزها في منطقة بروكا في النصف الأيسر من المخ
2- الذكاء المنطقي ـ الرياضي : ويشمل القدرة على إدراك الأنماط والاستدلال وعلى التفكير المنطقي، كما يشمل التمكن من العمليات الرياضية والتعامل بالأرقام . ويمكن القول أن كلاً من الذكاء اللغوي والذكاء المنطقي ـ الرياضي متضامنان بقوة في الأداء في اختبارات التحصيل المدرسي وفي اختبارات الذكاء التقليدية.
3- الذكاء المكاني : وهو القدرة على التعامل مع المكان والانتقال من مكان إلى آخر، وهذا الذكاء يتضمن القدرة على الإبحار في البحر أو الجو ، فهو ذلك الذكاء الذي يتوافر لدى الملاحين الجويين أو البحريين، وكذلك لدى فناني الفنون البصرية ولاعبي الشطرنج المحترفين . وهو يوجد في المنطقة الأمامية في النصف الأيمن من المخ.
4- الذكاء الموسيقي: ويتضمن التمكن من المهارات الموسيقية مثل الغناء والعزف والتأليف الموسيقي، بالإضافة إلى القدرة على تقدير هذه المهارات مع الاستمتاع بها . وغالبًا ما توجد هذه المهارات في النصف الأيمن من المخ وإن كانت غير محددة لموضع بشكل دقيق.
5- الذكاء الجسمي ـ الحركي: ويتضمن القدرة على استخدام الجسم ككل أو أجزاء منه لحل المشكلات أو للإنتاج الإبداعي كما في الأداء الفني الرياضي، وهذا الذكاء ينمو بوجه خاص لدى الرياضيين والممثلين وكذلك الجراحين. ويوجد مركزه في القشرة الحركية في النصفين الكرويين من المخ.
6- ذكاء العلاقات مع الآخرين: ويتضمن القدرة على التعرف على نوايا ومشاعر ودوافع الآخرين، وهو مهم للسياسيين ومندوبي المبيعات والمعالجين النفسيين والمدرسين.
7- ذكاء فهم الذات: قدرة الشخص على فهم ذاته وعلى استخدام هذا الفهم في تنظيم حياته وتحديد أهدافه وعلاقته بالآخرين . ويمكن القول إن كلاً منذكاء العلاقات مع الآخرين وذكاء فهم الذات يوازيان ما يعرف بالذكاء الانفعالي.
8- الذكاء الطبيعي: وهو النوع من الذكاء الذي قدمه العالم غارنر لأول مرة في العام 1998، ويتضمن القدرة على إدراك وتصنيف أنماط الموجودات وأنواعها في الطبيعة . ويمثل تشارلز داروين عالم الأحياء البريطاني الشهير وصاحب نظرية التطور مثال غاردنر الرئيسي لتوضيح هذا النوع من الذكاء.
الخبرة والتعلم
ويوضح الكاتب أن الذاكرة تعتبر إحدى أهم عمليات الذكاء ، فهي العملية التي يمكن عن طريقها الاحتفاظ بنواتج الخبرة والتعلم، واستخدام هذه النواتج في حل المشكلات الجديدة التي قد تطرأ في المستقبل، ووفق أحد الأبحاث أظهرت أن الأطفال في سن مبكرة للغاية (من خمسة إلى ستة أشهر) أنهم قادرون على تذكر معلومات وأحداث لمدد طويلة نسبيًا، ويمكن توضيح ذلك باستخدام ما يعرف بأسلوب التعود، الذي استخدمه جوزيف فاغان لأول مرة في منتصف السبعينيات من القرن الماضي، لدراسة الذاكرة لدى الأطفال.
ويشير إلى أن الباحثين بدأوا في السنوات الأخيرة في التخلي عن الصورة التبسيطية التي سادت عن تطور الذكاء بعد انتهاء مراحل الطفولة وعند بدء مرحلة الرشد، فالتصور الشائع هو أن الذكاء والقدرات العقلية يستمران في التحسن والنمو حتى العشرينيات أو الثلاثينيات من العمر، ثم تبدأ في عملية تدهور تدريجية تصل ذروتها في مرحلة الشيخوخة، ومع ذلك، فقد تراكمت في السنوات الأخيرة العديد من الأدلة التي أقنعت كثيرًا من الباحثين أن عمليات النمو المعرفي في مرحلة الرشد بالغة الثراء والتعقيد.
ويرى د. محمد طه إلى أن تعقد مهارات الذكاء والتفكير مع التقدم في العمر يعكس نمو مجموعة من المهارات الاجتماعية والعملية ذات الأساس الثقافي، أو ما يطلق عليه الجوانب العملية للنشاط المعرفي ، ويشكل بناء هذه الشبكات المعرفية المعقدة الضرورية للتوافق مع احتياجات الحياة المتغيرة الجانب الأساسي في الوصول إلى الحكمة، فالحكمة تقتضي في رأي بعض الباحثين تكاملاً بين الأنواع المختلفة من المعارف والمهارات حول القضايا العملية والأخلاقية في الحياة . فهي مزيج أو تكامل بين الجوانب المعرفية والانفعالية، بما يؤدي إلى تحقيق أفضل توافق ممكن في الحياة.
الذكاء العملي
ويشكل الذكاء العملي واحدًا من ثلاثة مكونات رئيسية في نظرية الذكاء الثلاثي لسترنبرغ ـ كما يوضحه المؤلف ـ فوفقًا لهذه النظرية ، توجد ثلاثة أنواع مختلفة من الذكاء: الأول هو الذكاء التحليلي analytical ، وهو القدرة على تحليل وتقييم الأفكار وحل المشكلات، والثاني وهو الذكاء الإبداعي creative ، ويتضمن القدرة على إنتاج أفكار جديدة أو الاستخدام غير التقليدي للأفكار .
أما النوع الثالث من الذكاء ـ وفقًا لنظرية سترنبرغ ـ فهو الذكاء العملي practical وهو قدرة الفرد على المواءمة بين قدراته وحاجاته من ناحية ، وبين متطلبات البيئة من ناحية أخرى.
وعلى هذا الأساس حدد سترنبرغ وغريغورينكو ثلاث خصائص للمعرفة الضمنية:
1- يكتسب الإنسان المعرفة الضمنية اعتمادًا على الخبرة اليومية وبشكل غير منتظم .
2- المعرفة الضمنية هي معرفة متخصصة تتعلق بمجال معين ، وإجرائية تتعلق بكيفية العمل في ظرف معين.
3- المعرفة الضمنية هي بالأساس معرفة ذات قيمة عملية وذات توجه نحو الفعل ، فهي معرفة تهدف إلى تحقيق هدف معين عن طريق تحديد فعل معين يستخدم لتحقيق هذا الهدف .
كما ذكر د. محمد طه في هذا الإطار البرنامج الذي تبناه المفكر الفنزويلي لويس ألبرتو ماكادو ، بعد تعيينه وزير دولة لتنمية الذكاء في بلاده، حول الذكاء ، وتضمنت الوحدات الأساسية المكونة للبرنامج :
1- أسس الاستدلال: وتشمل الملاحظة والتصنيف والترتيب والاستدلال المكاني .
2- فهم اللغة : تتناول الاهتمام بعلاقات الكلمات وبنية اللغة والقراءة لفهم المعنى .
3- حل المشكلات: وتؤكد على أنواع تمثيلات المشكلات والمحاولة والخطأ بغرض حل المشاكل .
4- اتخاذ القرار: وتشمل الأساليب المنظمة لجمع وتقييم المعلومات اللازمة للوصول إلى قرار صائب .
5- التفكير الإبداعي: وتشمل رفع مستوى وعي الدارسين بالإبداعات حولهم وبالاستراتيجيات المستخدمة في التصميمات الإبداعية .
وقد وجد أن نسبة الذكاء لدى نسبة كبيرة من المشاركين زادت لديهم ، ومع ذلك لا توجد دراسات تشير إلى الأثر طويل المدى للبرنامج نظرًا إلى أن تغير الظروف السياسية في فنزويلا حال دون استمرار البرنامج على الرغم من النتائج الواعدة التي ظهرت في التطبيقات الأولى له .
الذكاء الصناعي
وأشارت الدراسة إلى إمكانات الآلات وخاصة آلات الروبوت أو الإنسان الآلي في المستقبل ؛ حيث هناك نوعين من أنواع البحوث في الذكاء الاصطناعي: الأول الذكاء الاصطناعي القوي لا يفترض فقط أن الآلة (الكمبيوتر) قد تقوم بأفعال تتسم بالذكاء ، بل يفترض هذا الاتجاه أن الآلة نفسها عقلاً يتسم بالذكاء . وبالتالي يفترض هذا الاتجاه نوعًا من التماثل بين عمل المخ وعمل الكمبيوتر، ويفترض أن الآلة على هذا الأساس فد تكتسب القدرة على الشعور والانفعال.
ويتركز العمل في اتجاه الذكاء الاصطناعي القوي في الساحل الشرقي للولايات المتحدة، وخاصة في معهد ماساتشوتستس للتكنولوجيا وجامعة كارنيغي ميلون وهو ـ أي هذا الاتجاه ـ يسعى إلى إنتاج برامج شاملة قادرة على حل مشكلات عامة ذات نطاق عريض وتركز على الاستدلال وحل المشكلات.
أما الاتجاه الثاني، وهو اتجاه الذكاء الاصطناعي "الضعيف" فلا يفترض أن الآلة قد تستطيع أن تمتلك ذكاء حقيقيًا ، بل يقف عند افتراض أن الآلة قد تتصرف بطريقة تتسم بالذكاء، وهو محدود بمجال معين، وتهدف جهود الباحثين في هذا الاتجاه إلى بناء أجهزة أكثر قدرة من المخ البشري على تخزين وتصنيف المعلومات والتعامل معها؛ لكنها تظل آلات وليست عقولاً، بمعنى أنها وسائل تستخدم لتأدية أغراض معينة ؛ ولكنها لا تكتسب استقلالاً أو وعيًا ذاتيًا، كما أن المخ هو الصورة البيولوجية للعقل له .