بسم الله الرحمن الرحيم
لقد أحسن الدكتور فؤاد سزكين، مدير معهد العلوم العربية و الإسلامية
في ألمانيا، صنعاً حينما قام بتصوير مخطوطة (مصالح الأبدان و الأنفس)
القيمة لأبي زيد البلخي. فلا يكاد المتخصص في الطب النفسي و علم
النفس العيادي أو الاكلينيكي الحديثين أن يصدق بصره وهو يتنقل بين
صفحات هذا السفر المدهش الذي يضم بين دفتيه أحدث ما توصل إليه
علم النفس العلاجي المعاصر.
فلا يشك المرء عند قراءته لفهرست المخطوط أنه لكتاب حديث في
الصحة النفسية و العلاج النفسي. وإنني لأؤكد القول الذي ذهبت إليه في
The Malaysian بحثي المنشور في الدورية الطبية النفسية الماليزية
في عام 1998 ، بأن النفسانيين المسلمين لو Journal of Psychiatry
قرؤوا مخطوطة البلخي بتدبر لكانوا هم الر واد للعلاج السلوكى
و للثورة المعرفية الحديثة في ميدان العلاج (Behaviour therapy)
و لما أضاعوا عشرات السنين في التقليد (cognitive therapy) النفسي
الأعمى لنظريات وممارسات غربية فاشلة أو قليلة الجدوى قامت على
الفكر الإلحادي الرافض لروحانية الإنسان والتصورات المادية الآلية
لطبيعته من مثل السلوكية المتطرفة و التحليل النفسي الفرويدي الذي
سيطر على نظريات العلاج النفسي و تطبيقاته في الغرب لأكثر من سبعين
سنة. وعندما كشفت الدراسات النفسية الحديثة عن قصور نظريات
التحليل النفسي الكلاسيكي و أساليبه العلاجية، و بزغت نجوم العلاج
السلوكي و المعرفي و كأنها اكتشافات جديدة، اتجه النفسانيون العرب و
المسلمون إلى تبنيها دون أن يدركوا أن العلماء و الأطباء المسلمين من
أجدادهم قد استخدموها منذ قرون مضت.
فأول ما يدهش القارئ لهذه المخطوطة قدرة البلخي في التفريق بين
و المرض العقلي أو ما تعارف ، (Neurosis) المرض النفسي أو العصاب
ثم تركيزه الشديد على دور (Psychosis) " الناس على تسميته "بالجنون
العوامل النفسية في الصحة و المرض النفسي و الجسمي و كأنه من
Psychosomatic ) متخصصي الطب السيكوسوماتي و الشمولي الحديثين
.(and holistic medicine
و قبل أن يحدثنا بأ ن كتابه سوف يركز على الأعراض النفسية،
يوضح بلغة العالم بأسرار النفس بأ ن النشاط النفساني للإنسان متشعب وله
أوجه كثيرة منها النافع و الضار و منها المحمود والمذموم . أستمع إليه و
هو يحدثك عن هذه المسألة بلغته السهلة المبينة فيعرفك تعريفاً علمياً و
و بتأثير ه النفسي و الجسمي على (emotion) عملياً بمفهوم الانفعال
الإنسان:
"إن الأشياء التي تنسب إلى النفس كثيرة منها قوى فاضلة كالعقل و
cognition or
أخلاق محمودة كالعفة و السخاء و الكرم و الأخرى مذمومة مضادة لها و
منها أشياء عارضة تقع وترتفع ..كالغضب و الفزع و ما أشبههما. و
المقصود منا فيما نصفه مما يضاف إلى الأنفس إنما هو الشيء الأخير ،
نعني الأعراض التي تحدث و تزول لأنها هي التي تتصل أسبابها بأسباب
البدن فتقلقه و تغيره تغييراً ظاهراً قوياً مثل الغضب الشديد..و الفزع و
الخوف حتى يسخن البدن عن ذلك أو يبرد و يحدث فيه أحداث موحشة
(88- المناظر ." (صفحة 287
ليس هذا فحسب بل إنه لينتقد أطباء عصره لإهمالهم لأهمية النواحي
النفسية في مرضاهم، رغم قدرتها على إحداث أعراض جسمية، كما
ينعى عليهم المبالغة في دقائق تشخيص الأعراض العضوية والاكتفاء
بعلاجها و كأن الإنسان جسم بلا روح أو نفس، وكأنه في ذلك يتحدث
عن أطباء اليوم. فبالرغم مما تشير إليه البحوث المعاصرة بأن حوالي
%80 من الأعراض الجسمية التي يشكو منها المرضى هي في الحقيقة
ذات أصول نفسية و نفسجسمية (سيكوسوماتية) إلا أن معظم الأطباء حتى
اليوم لا ينظرون إلا إلى الأعراض العضوية و علاجها بالعقاقير و
الجراحة وما شابههما من أنواع العلاج الجسمي. و بنظره الثاقب يلقي
البلخي اللوم في ذلك على طرق تدريب الأطباء و كتبهم، فما أشبه الليلة
بالبارحة. فكتب الأطباء كما يذكر في صفحة 272 تحصر نفسها في
مصالح الأبدان و "معالجات العلل العارضة لها..لأن معالجات الأمراض
النفسية ليست من جنس ما يتعاطونه من الفصد وسقي الأدوية" .
و يستطرد في صفحتي 270 و 272 من كتابه بشرح ميسر لعملية
التفاعل بين النواحي النفسية و الجسمية بقوله:
أنه لما …" كان (الإنسان) مركباً من بدن و نفس صار يوجد له من
قبل كل منهما صلاح و فساد و صحة و مرض (لذلك) .. فإن إضافة
مصالح الأنفس إلى تدبير مصالح الأبدان أمر صواب..لاشتباك أسباب
الأبدان بأسباب الأنفس".
ولا شك في أن اختياره لاصطلاح "الاشتباك " دليل على عمق
ملاحظته الإكلينيكية و قدرته اللفظية الراقية. ثم يشرح مفهوم هذا
الاشتباك بأسلوبه السهل الممتنع فيقول بأن البدن إذا سقم منع قوى النفس
من الفهم و المعرفة ، كما أن النفس إذا اعتلت منعت صاحبها من التلذذ
بمتع الحياة، بل- كما سطر في مخطوطته - "ربما أداه تحامل الآلام
النفسية إلى الأمراض البدنية " .
ولا يظّنن أحد أن البلخي حين ذكر أ ن الإنسان مركب من نفس و بدن
أنه يستخدم لفظ "النفس" بمفهوم علم النفس الحديث. فتشابه اللفظ يجب ألا
يجعلنا نخلط بين النفس بمعناها الروحي الإسلامي الذي لا يحيد عن
الإيمان به مسلم في ذلك الزمان، و النفس بمفهومها العلماني السيكولوجي
المادي المعاصر. يجب علينا أن نف رق بين الحقيقة الإسلامية بأن الله
خلق الإنسان من طين و نفخة إلهية روحية و أ ن هذه النفس لطيفة ربانية
تفارق الجسد عند الموت، وبين التصور المادي بأن للإنسان نفس ليست
لها كيان مستقل محدد بل هي بمثابة شعوره بذاته أو أنها نواة لشخصيته
أو أي تصور علماني آخر . ولا يشك أحد في أن البلخي أسس فكره
الطبي و النفسي على هذه القاعدة الإسلامية بالرغم من أنه لم يعرف
بانتمائه لطائفة العباد و المتصوفين، لذلك فأّنه لم يبالغ في التفسيرات
الدينية في كتابه. ففي ذلك الزمان الطيب لم يكن هناك منكر لروحانية
النفس سوى بعض الزنادقة و الكفار.
لكن المتخصص الحديث قد يجد نفسه منبهراً أش د الانبهار بهذا السفر
القيم عندما يقرأ تصنيف البلخي الدقيق لأهم أنواع الأمراض النفسية. فهو
يرتب الأعراض النفسية تحت أربعة أصناف ، ألا و هي الغضب ثم
الخوف و الفزع ثم الحزن و الجزع و رابعها الوسواس. فإذا تدبرنا في
هذه الأصناف الأربعة نجدها تحوي أهم الفصول التي يدرسها طلاب علم
النفس المرضي و علم نفس الشواذ في الجامعات المعاصرة تحت باب
(Anxiety disorders) الاضطرابات العصابية المعروفة باضطرابات القلق
و العصاب الوسواسي القهري (Phobias) كالمخاوف المرضية
كما يشتمل تصنيفه فوق ذلك ، (Obsessive-compulsive disorders)
بأنواعه المعروفة. و لم يسبق البلخي عالم ( Depression ) على الاكتئاب
في دقة هذا التصنيف ولم يأت أحد بمثله إلا بعد أكثر من تسعة قرون من
نشر كتابه. و كان البلخي يعلم علم اليقين بأنه أول من كتب عن
الاضطرابات النفسية بهذه الدقة و الوضوح . فهو يؤكد بأنه لا يعرف أحداً
قبله أنجز دراسة لتدبير مصالح الأنفس توخى فيها " قولاً
مشروحاً وافياً بقدر الحاجة " (ص 275 ) . و هذا قول تسنده دراسات
تاريخ الطب النفسي . فكل ما كتبه فلاسفة الإغريق و علماء المسلمين
القدامى و أطباؤهم لا يعدو أن يكون شذرات مختصرة متفرقة في بطون
كتب الطب و الفلسفة .
و مما يمتاز به هذا السفر القيم تص ور البلخي الوقائي المتفائل للمرض
النفسي وعلاجه ، فالأبواب الثلاثة الأولى للمخطوط هي بمثابة مقدمة يؤيد
فيها أحدث الاتجاهات التي تنتقد المتخصصين المعاصرين الذين ربطوا
العلاج النفسي و الإرشاد النفسي بالنموذج الطبي المرضي. قد يتعجب
المتخصص النفساني كثيراً عندما يقرأ الباب الأول بعنوان "مبلغ الحاجة
إلى تدبير مصالح الأنفس" و الباب الثاني "في تدبير حفظ صحة الأنفس
عليها" ثم الباب الثالث "في تدبير إعادة صحة الأنفس إذا فقدت". فهذا
تسلسل وقائي يركز على حفظ الصحة النفسية بدلاً عن إهمال الوقاية و
بذل الجهد في تصنيف الأمراض النفسية و كيفية علاجها بعد وقوعها كما
يفعل المتخصصون في الطب النفسي و علم النفس العيادي اليوم. بل إ ن
البلخي لا يتحدث في هذه الأبواب عن المضطربين نفسياً على أنهم
"مرضى" كما يفعل اليوم أكثر أطباء النفس و معالجيها، بل يعتبرهم
أشخاصاً عصفت بهم انفعالاتهم إلى أعراض منعتهم من السكينة و التلذذ
بمباهج الحياة و متابعة أعمالهم اليومية.
و هذه الانفعالات، كما يؤكد في كتابه، هي ذاتها التي تجنح بالناس
كافّة بصورة أقل من حيث حدتها ودوامها فتصيبهم بالاختلال النفسي المؤقت
. فالفرق بين المضطرب نفسياً و الشخص العادي المنفعل عند البلخي هو
إذ ن اختلاف درجة و ليس اختلاف نوع، يجعل من هذا مريضاً ومن ذاك
صحيحاً. لذلك يعتبر البلخي الاهتمام بمصالح الأنفس أهم بكثير من الاهتمام
71 ما نصه: - بمصالح الأبدان ، فيقول في صفحتي 270
".. الأعراض النفسانية هي مثل الغضب و الغم و الخوف و
الجزع و ما أشبهها..هي ألزم للإنسان و أكثر اعتراء له من
الأعراض البدنية، و ذلك أ ن الأعراض البدنية قد يسلم الواحد
منها حتى لا يكاد يعرض له في أكثر أيام عمره منها أو من
عا متها شيء. فأما الأعراض النفسانية فإن الإنسان مدفوع في
أكثر أوقاته إلى ما يتأذى به منها إذ ليس يخلو في كافة أحواله
من استشعار غ م أو غضب أو حزن."
ويذكرني البلخي في ذلك بثورة الطبيب النفسي الأمريكي
انتقد Instead of Therapy الذي ألف كتاباً جيداً بعنوان Tom Rusk
فيه بشدة ما فعله فرويد من حبسه لمفاهيم العلاج النفسي في قمقم النموذج
الطبي المحدود وتبعه في ذلك جميع أطباء النفس و المعالجين النفسانيين.
وفيما يلي أترجم للقارئ بعض الفقرات مما كتبه هذا الطبيب النفسي
الأمريكي عن هذا المفهوم المضاد للنموذج الطبي في مقدمة كتابه حيث
يقول:
"على الرغم من أنني طبيب نفسي إلا أنني ما عدت أعتقد
بأن لغة العلم التجريبي ولا الطب يمكن استخدامهما في تفسير
ما أقوم به من علاج و إرشاد نفسي لمن يطلبون ذلك مني من
الأشخاص . فأنا واحد من أولئك النفر القليل من المتخصصين
الذين يعتقدون الآن أ ن العلاج النفسي لم يكن في يوم من الأيام
جزءاً من العلوم الطبية و يجب أن لا ينظر إليه اليوم من هذه
الزاوية الضيقة.
إ ن الهدف الأساسي لأ ي نوع من أنواع العلاج النفسي هو
تعليم العميل و تدريبه لكي يغير معاملته لنفسه و للآخرين. و
إن هذا النوع من التعلم لا يختلف في نظري عن تعلم أ ي شئٍ
آخر . لذلك كان من الأفضل أن نعتبر تعديل سلوك العميل
و فكره عملية "تعلمية" و تربوية و ليست علاجية من منطلق
طبي. إ ن هذا الخطأ الفادح كان له آثار سيئة بالنسبة لمعاملة
العملاء و بالنسبة لسوء استخدام النفسانيين لتخصصاتهم" .
فإذا انتقلنا إلى الوسائل العلاجية للاضطرابات النفسية في مخطوطة
البلخي لدهشنا للتشابه الواضح بين الطرق التي استخدمها أو اقترحها
لتعديل سلوك المصابين بالتوتر و القلق و الغضب المزمن و الاكتئاب
التي توصل إليها علم (Cognitive therapy) وبين أحدث الوسائل المعرفية
النفس العلاجي المعاصر بعد رحلة طويلة شاّقة، زادت على السبعين
سنة، ج رب خلالها كثيراً من الأساليب الفاشلة أو تلك التي نجحت في
إطار محدود. و هذا التشابه بين البلخي و المعاصرين من النفسانيين يبدو
و (Behaviour therapy) أكثر وضوحاً عند مقارنته بالعلاج السلوكي
Rational emotive العلاج المنطقي أو العقلاني للاضطرابات الانفعالية
و ذلك المعروف بالعلاج (therapy)
.(Rational behaviour therapy) السلوكي العقلاني أو المنطقي
و رغم الاختلافات الطفيفة بين النفسانيين العاملين في مجال العلاج
Aaron و إيرون بك Abert Ellis المعرفي من مثل ألبرت إليس
David Burns و ديفد بيرنز Maxie Maultsby و ماكسي مولتسبي Beck
إ ّ لا أنهم جميعاً يرفضون التصور الميكانيكي لطبيعة الإنسان الذي نادى به
السلوكييون الذين ركزوا على المثيرات البيئية الخارجية و استجاباتها التي
يمكن ملاحظتها و أهملوا نشاط العمليات العقلية الداخلية و التفكير
الشعوري، و كأ ن الإنسان آلة صماء تأتي فيها المثيرات باستجابات
فورية مباشرة. كما أّنهم جميعاً يرفضون تصورات فرويد التحليلية القائلة
بتحكم الدوافع اللاشعورية الجنسية و العدوانية على السلوك الشعوري
للإنسان واستخدامه للحيل الغامضة لتفسير السلوك العادي و المرضي.
كذلك نجد أنهم جميعاً قد تأثروا بالثورة الإلكترونية الحديثة في عالم
الكومبيوتر . فأهم خصائص الإنسان عندهم هي قدراته التي تشابه
البدنية
فيجمعها و يستودعها خزائنه إلى أن يعرض له عارض من
الأمراض و الأوجاع في وقت لا يحضره فيه طبيب يعالجه
فيتناولها لينتفع بها و ينزع أذى العارض عن نفسه .. "
إ ن المتخصص في العلاج السلوكى إذا تع مق في هذا النص ليجد فيه
Systematic ) اتجاهاً وقائياً جديداً في التحصين التدريجي
هذا النوع من العلاج السلوكى الذي نجح كثيراً في . (desensitization
يقوم فيه النفساني ( Phobias ) التخلص من أعراض المخاوف المرضية
بمساعدة المريض على الاسترخاء النفسي و البدني وتخيل المناظر
والخبرات التي تجلب له السرور ثم يطلب منه تخيل الشيء الذي يخافه أو
يزعجه و يحزنه بالتدريج، حيث يبدأ بالمسائل الصغيرة و يترقى
بالمريض حتى يبلغ عظائم المزعجات. وتكرر العملية حتى يعتاد المريض
على مواجهة هذه المخاوف و المزعجات في فكره وخياله، فإذا به يجد
نفسه قادراً على مواجهتها في واقع الأمر . لقد استطاع البلخي أن يقدم لنا
تصوراً سلوكياً لم يسبق إليه حينما نصحنا ببناء حصن من الأفكار و
المشاعر الصحية في حالة استرخاء أبداننا و سكون أنفسنا قبل أن نواجه
المواقف التي قد تأتينا بالأعراض المرضية . و في مواقع أخرى من
الكتاب نراه يوصي بالتدرج في تقديم المثيرات المزعجة و المخيفة في
نفس الوقت الذي نستثير فيه عند المريض الأحاسيس المضادة التي تأتي
بالسرور و الاسترخاء، و يسمي ذلك باسم "العلاج بالضد" وهو
الذي وضعه ولبي (Reciprocal inhibition) نفس الاصطلاح
رائد العلاج السلوكي في الخمسينيات من القرن العشرين . Wolpe
وكما يتحدث المعالجون بالأساليب المعرفية المعاصرون عن أن
معظم الأفكار التي تسبب الانفعالات المرضية لا تقوم على تصورات
عقلانية حقيقية و أن ما يخافه المضطرب نفسياً أو يحزن أو يغضب منه
إنما هو من نسج الأفكار المغلوطة . نقرأ للبلخي نفس المفاهيم و لكن بلغة
بليغة و أمثلة طريفة . ففي صفحتي 306 و 307 يقول:
"..إن توقع كثير من المكاره ربما كان أشد من وقوعه، فإ ن
المخاوف أكثرها غير ضار، و لذلك قالوا أكثر ما تخافه لا
يضرك، و قيل أكثر الروع باطله. و لذلك شبه الحكماء الأمور
المخوفة التي يهاب الإنسان الاندفاع إليها بالضباب الذي يتولد
على وجه الأرض فيخيل للإنسان من بعد أّنه جسم كثيف ليس
فيه متنفس ولا عمل للبصر في إدراك شيء من الأشخاص التي
في حيزه، فإذا داخله وجده شبيهاً بالهواء الذي فارقه "
لا شك في أن مثال الضباب هذا هو من أروع الأمثلة التي تضرب
للعرب الذين فتحوا البلاد الباردة، و كثير منهم ربما رأى الضباب لأول
مرة في حياته. كذلك نقرأ للبلخي في صفحة 309 و هو يشبه الأفكار و
المشاعر المرضية التي لا تستند إلى واقع منطقي بمخاوف الطفل
الصغير من المثيرات الجديدة من الألوان و الأصوات التي لو تعرف على
مصدرها أو تع ود عليها بالتكرار لزالت مخاوفه.
إذن فالعلاج من الأعراض النفسية عند البلخي هو اتباع نفس
الأساليب المعرفية الحديثة التي تعتمد على كشف
أخطاء تفكير المصاب و تناقضاته مع
الواقع حتى تتبدل انفعالاته. و نجد في هذا الجانب
العلاجي أحد أهم إسهامات للبلخي في هذه المخطوطة
القيمة . ففي "باب صرف الغضب و قمعه" يقدم للمعالج كثيراً من الحيل
الفكرية التي يمكن استخدامها من الخارج، أ ي من شخص يقوم بوعظ
الغضبان و تهدئته، أو من الداخل بمعاونة المصاب بالغضب المزمن و
العمليات الداخلية للحاسب الإلكتروني، أي تحليل و تصنيف المعلومات و
و تخزينها في الذاكرة ثم استعادتها عند الحاجة إليها ( coding) ترميزها
في حلّ المشكلات التي تطرأ في المستقبل. لذلك كان الهدف الأساسي
أو التفكير ( software ) للعلاج المعرفي هو تغيير البرنامج الداخلي
المغلوط غير المنطقي الذي يستعمله المريض واستبداله بفكر عقلاني
سليم يعيد مشاعره و انفعالاته إلى صوابها.
و لأدلل على هذا التشابه المذهل بين ما توصل إليه عبقري مسلم ملهم
قبل عشرة قرون و بين ما أنجزه علماء القرن العشرين عن طريق
التجارب الطويلة و المحاولة و الخطأ، فسأترجم للقارئ بعض الفقرات من
كتاب أحد مؤسسي هذه الوسائل المعرفية الحديثة لمقارنتها بما كتبه
البلخي. و الكتاب للطبيب النفسي المعروف
أحد أهم هؤلاء الرواد و عنوانه Aaron Beck إيرون بك
ويمتاز هذا الكتاب . Cognitive therapy and the emotional disorders
بالوضوح وبتلخيصه للجوانب التي يتفق عليها أكثر المعالجين المعرفيين.
يقول بك:
"إ ن إصابة الناس باضطرابات نفسية لا تأتي بسبب عوامل
غامضة (لاشعورية) كما يزعم فرويد في نظرياته التحليلية، بل
بسبب مسائل عادية مثل تعلم و اكتساب العادات المرضية أو
الاستنتاجات الخاطئة من معلومات غير صحيحة. و هذه
العوامل تؤدي بالشخص حتماً إلى التفكير المغلوط غير
المنطقي، و ذلك بدوره يؤدي إلى الانفعالات النفسية المرضية
كالقلق و الاكتئاب . هذا لأ ن انفعال المرء تابع لتفكيره و لما
يقوله لنفسه. لذلك فإ ن الدور الأساسي للمعالج النفسي المعرفي
هو مساعدة المريض على استخدام قدراته الطبيعية في حلّ
المشكلات للتعرف على تصحيح فكره و التخلص من سيطرة
الأفكار السلبية وأن يستبدل بها أفكاراً و مشاعر عقلانية متسقة
مع الواقع المعاش. وبما أن هذا التعديل لا يتم إلا بتعاون الفكر
و الأحاسيس و الانتباه و التذكر و التخيل، وكلها عمليات عقلية
عليا، سمينا هذا النمط من العلاج بالعلاج المعرفي (ملخص من
27 و 28 من كتابه).
عندما نتصفح مخطوطة البلخي نجده ينحو نفس النحو الذي يؤكد أ ن
التفكير الخاطئ وما يتبعه من تصورات وانفعالات منحرفة هو المسؤول
الأول عن إصابة الناس بالأعراض النفسية. وأن تبديل هذا الفكر هو الذي
يتم عن طريقه العلاج و إراحة المضطربين من أعراضهم . ولاهتمامه
الواضح بالناحية الوقائية، لا يكتفي البلخي بتصحيح الأفكار و التصورات،
بل يذهب بعيداً حينما يقدم النصح للأسوياء و الأصحاء بأن يخ زنوا في
عقولهم الوصايا الفكرية الصحية في حال سكينتهم و صحتهم النفسية
ليستفيدوا منها إذا أل مت بهم بعض الأعراض النفسية. و يقارن بين هذه
الأفكار المستودعة في الذاكرة و بين خزانة العقاقير و الأدوية التي يضعها
الأصحاء في بيوتهم ليستخدموها إذا أصابهم طارئ من مرض أو حادث،
أي ما نسميه اليوم بخزانة الإسعافات الأولية . وهذا لعمري هو
من أبدع ما يمكن أن يتصور بالنسبة لأهمية التفكير في جلب
الاضطرابات الانفعالية و في علاجها. يجد القارئ هذا النص في صفحة
286 وهو كالآتي:
"فإّنه ليس يستغني مع ذلك عن معونة تلحقه من داخل
(نفسه) بوصايا فكرية تتهيأ أن يقمع بها الأعراض النفسانية إذا
هاجت ، فيجمعها في نفسها في وقت صحتها وسكون قواها
ويستودعها قوة الحفظ منها ليخطرها بباله و يعظ بها نفسه إذا لم
يحضره واعظ مذكر من خارج كما يفعله المحتاط في الأعراض
السلوك العدواني على تغيير تفكيره. فمن ذلك مثلاً أن يفكر الملوك و
غيرهم من أصحاب الشأن فيما جنى الغضب على بعض م ن هم في
مقامهم فأقدموا على أمور جرت عليهم أعظم الضرر في دينهم و دنياهم .
ومن هذه الحيل أن يفكر المرء في فضيلة الحلم و أنه من أشرف المناقب
و لها أجرها العظيم عند الله تعالى. ومنها أن يتجنب مقابلة الشخص الذي
أغضبه حتى تسكن ثائرته، ومنها أن يتفكر و يتذكر الأخطاء المشابهة التي
ارتكبها هو في ماضي حياته من مثل التي أغضبته الآن. فمثل هذه
الأساليب العلاجية، كما يقول البلخي، كمثل الماء البارد الذي يصب على
قدر يفور غلياناً فيسكنه.
لذا يؤكد البلخي ،خلافاً لبعض المدارس النفسية المعاصرة، أ ن التنفيس
عن الغضب لا يساعد على تخفيف هذا العرض بل يزيد ناره حطباً. و هذا
هو التصور الحديث لعلم النفس المعرفي. ويشبه البلخي إهمال الفرد تغيير
أفكاره و مشاعره الغضوبة في بداية الأمر بالشخص الذي أهمل اشتعال
النار وهي خفيفة في بدايتها و تركها حتى عظمت و صعب إطفاؤها.
نفس الاقتراحات القيمة والأفكار المبتكرة نجدها في فصل " تسكين
الخوف و الفزع"، ومن أهمها تغيير تفكير الخائف القلق بتكرار الخبرات
المفزعة عليه في ظروف يجد فيها السكينة و التشجيع حتى يعتاد عليها،
ويضرب لذلك مثلاً بالآتي:
إ ن الذين" لم تقع أبصارهم على الحروب و القتلى و
الجرحى متى نظروا في بادئ أمرهم إلى شيء منها هالهم ذلك
هولاً شديداً..وإذا طالت ممارستهم للحروب و صاروا من أهلها
قلّ ارتياعهم. ومن هذا النوع أمر الأطباء الذين يباشرون أثر
القروح و الجراحات و البطَّ و الكي، فإنهم متى اعتادوا مباشرة
ذلك و مرنت أبصارهم عليه لم يرعهم ما يروع الذين لم يسبق
لهم عادة بالنظر إلى شيء من تلك المناظر الموحشة. ."
(11- (صفحة 310
و من أروع ما ذكره البلخي في هذا الفصل استخدامه لانفعالٍ
"مرضي" لعلاج تفكيرٍ أكثر منه
اضطراباً ! فيضرب لنا مثلاً باستعمال انفعال الغضب، مع كونه من
الأعراض التي أفرد فصلاً لعلاجها ، في تغيير تفكير الخائف المذعور
حيث يستثير الغضب على نفسه حتى يستحيي من خوفه في مجابهة
المخوف. استمع إليه يقول:
"يستظهر (الخائف) على نفسه في دفع آفة الخوف عنها بقوة
الغضب و هو أن يفكر في أ ن إظهار الخوف والفزع من
خور النفس و فشلها و أنه أمر خاص لضعاف الأنفس من
النساء و الصبيان و أشباههم، فيغضب على نفسه ويأنف لها
من أن توجد عند حضور المخاوف في مثل أحوال الذين لا
.( يوجد عندهم جلادة ولا صرامة " (صفحة 308
أما الفصل السابع المعنون "في تدبير دفع الحزن و الجزع" فقد قام
البلخي فيه بتصنيف أنواع الحزن و الاكتئاب بتفصيل ينم عن حسٍ
إكلينيكي سبق فيه عصره بأكثر من عشرة قرون. فهو يتحدث أولاً عن
الحزن و الاكتئاب العادي الذي يصيب جميع الناس بين الفينة و الفينة ولا
يمكن تجنبه كلياً لأنه كما يقول: " موجود في طباع الدنيا و بنيتها فليس
في ذلك حيلة". ثم هو بعد ذلك يقسم الحزن إلى نوعين أو ضربين كالآتي:
"أحدهما ما يكون معروف السبب كإنسان يعرض له الحزن
من فقد محبوب من أهل أو مال أو شيء خا ص الموقع منه ، و
الآخر مجهول السبب و هو غ مة يجدها الإنسان على قلبه في
عامة الأوقات تمنعه من النشاط و إظهار السرور و
صدق الاستمتاع بشيء من اللذات و الشهوات من غير أن
يعرف لهذا الفتور و الانكسار اللذين يجدهما شيئاً يخيل بهما
عليه. فأما الحزن المجهول السبب فإنه يرجع إلى الأعراض
البدنية و تولده إنما يكون من قلة صفاء الدم. وحيلة دفعه إما
عن طريق العلاج الجسماني..من الأغذية و الأدوية، و أما من
طريق العلاج النفساني فبالتلطف لاجتلاب السرور إلى النفس
بالمحادثة و المؤانسة و الاستماع بما تطيب النفس به."
(17- (صفحتي 316
يتحدث هذا العبقري الملهم إذن عن ثلاثة أنواع من الحزن و
الاكتئاب. أولها الاكتئاب أو الحزن العادي وهو ما يسميه
DSM- أحدث تصنيف للأمراض النفسية ( - 111
ثم ذلك النوع .(Normal depression) باصطلاح (R
المعروف باسم الاكتئاب الاستجابي أو
العصابي الذي يحدث بسببٍ بيئيٍ معروف كفقد عزيزٍ
. (Reactive or neurotic depression) أو مالٍ أو وظيفة
(Endogenous أما النوع الثالث فهو ذلك الاكتئاب أو الحزن الداخلي
الذي يحدث أساساً بسبب اختلال كيميائي في هورمونات depression)
الدماغ. وقد ينزل هذا النوع من الحزن على صاحبه دون مقدمات
كنزول السحابة السوداء بدون أن يعرف لهذا الحزن و الغمة و قلة النشاط
و فقدان الشهية للطعام سبباً أو قد يكون السبب تافهاً بالنسبة لعظم
الإصابة. وهذا النوع من الاكتئاب يحتاج إلى علاج عقاقيري مركز و في
بعض الحالات الشديدة إلى علاج كهربائي.
إ ن التفريق بين الاكتئاب الخارجي أو الاستجابي المعروف السبب و
الداخلي العضوي أمر تثبته الأبحاث في ميادين كيمياء الدماغ العضوية و
الوراثة و حتى الدراسات الإحصائية الوصفية مما جعل الأطباء النفسانيين
في كثيرٍ من البلدان يتمسكون بهذا التفريق رغم محاولة التصنيف
الأمريكي الجديد التقليل من أهميته.
إن اكتشاف البلخي لهذه الفروق الدقيقة بين هذه الأنواع الثلاثة للحزن
و الاكتئاب قبل أكثر من عشرة قرون لأمر يدعو إلى الدهشة و الإعجاب
الشديدين. فلم يتحدث عالم شرقي أو غربي عن مرض نفسي أو عقلي
تظهر أعراضه خارجياً بسبب العوامل البيئية أو داخلياً بسبب اختلال في
داخل الجسم إلا في أواخر القرن التاسع عشر الميلادي و أوائل القرن
تصنيفه المشهور Emil Kraepelin العشرين عندما نشر إميل كريبلين
للأمراض النفسية و العقلية.
ويبدو واضحاً من كتاب البلخي أنه لا يحبذ العلاج النفسي المعرفي
للحزن و الاكتئاب الداخلي بل يترك علاجه للطب الجسماني بالأدوية و
الأغذية. ولئن استخدم العلاج النفسي لهذا النوع من الحزن الداخلي السبب
فالتركيز إنما يكون على ما يجلب السرور من المؤانسة و السماع، أي
الاستماع إلى الأغاني و الألحان الشجية التي تحرك الوجدان و تدخل
السرور إلى القلوب المكلومة.
و أما علاج الحزن الاستجابي الذي تظهر أسبابه، فينصح فيه بنفس
خطة العلاج التي اتبعها بالنسبة لتسكين الخوف و الفزع: علاج خارجي
بالوعظ و التذكير، و علاج داخلي معرفي يقوم على تبديل تفكير الحزين
حتى يقتنع بأ ن مبالغته في الحزن تقوم على فكر خاطئٍ قد يكون وبالاً
عليه إذا لم يغيره. فيفكر فيما يمكن أن يجلب عليه الحزن من الأمراض
الجسمية ، فإن كانت نفسه التي بين جنبيه أع ز عليه من أ ي شيء آخر
كان من الحماقة أن يتلفها من أجل محبوب غاب عنه. ثم يوقن بأ ن الجزع
مصيبة عليه أكثر مما فقده و أّنه من صفات النساء و ضعاف النفوس.
التحميل
مركز الخليج
http://adf.ly/Oqbte
ميديافير
http://adf.ly/Oqbwe
لقد أحسن الدكتور فؤاد سزكين، مدير معهد العلوم العربية و الإسلامية
في ألمانيا، صنعاً حينما قام بتصوير مخطوطة (مصالح الأبدان و الأنفس)
القيمة لأبي زيد البلخي. فلا يكاد المتخصص في الطب النفسي و علم
النفس العيادي أو الاكلينيكي الحديثين أن يصدق بصره وهو يتنقل بين
صفحات هذا السفر المدهش الذي يضم بين دفتيه أحدث ما توصل إليه
علم النفس العلاجي المعاصر.
فلا يشك المرء عند قراءته لفهرست المخطوط أنه لكتاب حديث في
الصحة النفسية و العلاج النفسي. وإنني لأؤكد القول الذي ذهبت إليه في
The Malaysian بحثي المنشور في الدورية الطبية النفسية الماليزية
في عام 1998 ، بأن النفسانيين المسلمين لو Journal of Psychiatry
قرؤوا مخطوطة البلخي بتدبر لكانوا هم الر واد للعلاج السلوكى
و للثورة المعرفية الحديثة في ميدان العلاج (Behaviour therapy)
و لما أضاعوا عشرات السنين في التقليد (cognitive therapy) النفسي
الأعمى لنظريات وممارسات غربية فاشلة أو قليلة الجدوى قامت على
الفكر الإلحادي الرافض لروحانية الإنسان والتصورات المادية الآلية
لطبيعته من مثل السلوكية المتطرفة و التحليل النفسي الفرويدي الذي
سيطر على نظريات العلاج النفسي و تطبيقاته في الغرب لأكثر من سبعين
سنة. وعندما كشفت الدراسات النفسية الحديثة عن قصور نظريات
التحليل النفسي الكلاسيكي و أساليبه العلاجية، و بزغت نجوم العلاج
السلوكي و المعرفي و كأنها اكتشافات جديدة، اتجه النفسانيون العرب و
المسلمون إلى تبنيها دون أن يدركوا أن العلماء و الأطباء المسلمين من
أجدادهم قد استخدموها منذ قرون مضت.
فأول ما يدهش القارئ لهذه المخطوطة قدرة البلخي في التفريق بين
و المرض العقلي أو ما تعارف ، (Neurosis) المرض النفسي أو العصاب
ثم تركيزه الشديد على دور (Psychosis) " الناس على تسميته "بالجنون
العوامل النفسية في الصحة و المرض النفسي و الجسمي و كأنه من
Psychosomatic ) متخصصي الطب السيكوسوماتي و الشمولي الحديثين
.(and holistic medicine
و قبل أن يحدثنا بأ ن كتابه سوف يركز على الأعراض النفسية،
يوضح بلغة العالم بأسرار النفس بأ ن النشاط النفساني للإنسان متشعب وله
أوجه كثيرة منها النافع و الضار و منها المحمود والمذموم . أستمع إليه و
هو يحدثك عن هذه المسألة بلغته السهلة المبينة فيعرفك تعريفاً علمياً و
و بتأثير ه النفسي و الجسمي على (emotion) عملياً بمفهوم الانفعال
الإنسان:
"إن الأشياء التي تنسب إلى النفس كثيرة منها قوى فاضلة كالعقل و
cognition or
أخلاق محمودة كالعفة و السخاء و الكرم و الأخرى مذمومة مضادة لها و
منها أشياء عارضة تقع وترتفع ..كالغضب و الفزع و ما أشبههما. و
المقصود منا فيما نصفه مما يضاف إلى الأنفس إنما هو الشيء الأخير ،
نعني الأعراض التي تحدث و تزول لأنها هي التي تتصل أسبابها بأسباب
البدن فتقلقه و تغيره تغييراً ظاهراً قوياً مثل الغضب الشديد..و الفزع و
الخوف حتى يسخن البدن عن ذلك أو يبرد و يحدث فيه أحداث موحشة
(88- المناظر ." (صفحة 287
ليس هذا فحسب بل إنه لينتقد أطباء عصره لإهمالهم لأهمية النواحي
النفسية في مرضاهم، رغم قدرتها على إحداث أعراض جسمية، كما
ينعى عليهم المبالغة في دقائق تشخيص الأعراض العضوية والاكتفاء
بعلاجها و كأن الإنسان جسم بلا روح أو نفس، وكأنه في ذلك يتحدث
عن أطباء اليوم. فبالرغم مما تشير إليه البحوث المعاصرة بأن حوالي
%80 من الأعراض الجسمية التي يشكو منها المرضى هي في الحقيقة
ذات أصول نفسية و نفسجسمية (سيكوسوماتية) إلا أن معظم الأطباء حتى
اليوم لا ينظرون إلا إلى الأعراض العضوية و علاجها بالعقاقير و
الجراحة وما شابههما من أنواع العلاج الجسمي. و بنظره الثاقب يلقي
البلخي اللوم في ذلك على طرق تدريب الأطباء و كتبهم، فما أشبه الليلة
بالبارحة. فكتب الأطباء كما يذكر في صفحة 272 تحصر نفسها في
مصالح الأبدان و "معالجات العلل العارضة لها..لأن معالجات الأمراض
النفسية ليست من جنس ما يتعاطونه من الفصد وسقي الأدوية" .
و يستطرد في صفحتي 270 و 272 من كتابه بشرح ميسر لعملية
التفاعل بين النواحي النفسية و الجسمية بقوله:
أنه لما …" كان (الإنسان) مركباً من بدن و نفس صار يوجد له من
قبل كل منهما صلاح و فساد و صحة و مرض (لذلك) .. فإن إضافة
مصالح الأنفس إلى تدبير مصالح الأبدان أمر صواب..لاشتباك أسباب
الأبدان بأسباب الأنفس".
ولا شك في أن اختياره لاصطلاح "الاشتباك " دليل على عمق
ملاحظته الإكلينيكية و قدرته اللفظية الراقية. ثم يشرح مفهوم هذا
الاشتباك بأسلوبه السهل الممتنع فيقول بأن البدن إذا سقم منع قوى النفس
من الفهم و المعرفة ، كما أن النفس إذا اعتلت منعت صاحبها من التلذذ
بمتع الحياة، بل- كما سطر في مخطوطته - "ربما أداه تحامل الآلام
النفسية إلى الأمراض البدنية " .
ولا يظّنن أحد أن البلخي حين ذكر أ ن الإنسان مركب من نفس و بدن
أنه يستخدم لفظ "النفس" بمفهوم علم النفس الحديث. فتشابه اللفظ يجب ألا
يجعلنا نخلط بين النفس بمعناها الروحي الإسلامي الذي لا يحيد عن
الإيمان به مسلم في ذلك الزمان، و النفس بمفهومها العلماني السيكولوجي
المادي المعاصر. يجب علينا أن نف رق بين الحقيقة الإسلامية بأن الله
خلق الإنسان من طين و نفخة إلهية روحية و أ ن هذه النفس لطيفة ربانية
تفارق الجسد عند الموت، وبين التصور المادي بأن للإنسان نفس ليست
لها كيان مستقل محدد بل هي بمثابة شعوره بذاته أو أنها نواة لشخصيته
أو أي تصور علماني آخر . ولا يشك أحد في أن البلخي أسس فكره
الطبي و النفسي على هذه القاعدة الإسلامية بالرغم من أنه لم يعرف
بانتمائه لطائفة العباد و المتصوفين، لذلك فأّنه لم يبالغ في التفسيرات
الدينية في كتابه. ففي ذلك الزمان الطيب لم يكن هناك منكر لروحانية
النفس سوى بعض الزنادقة و الكفار.
لكن المتخصص الحديث قد يجد نفسه منبهراً أش د الانبهار بهذا السفر
القيم عندما يقرأ تصنيف البلخي الدقيق لأهم أنواع الأمراض النفسية. فهو
يرتب الأعراض النفسية تحت أربعة أصناف ، ألا و هي الغضب ثم
الخوف و الفزع ثم الحزن و الجزع و رابعها الوسواس. فإذا تدبرنا في
هذه الأصناف الأربعة نجدها تحوي أهم الفصول التي يدرسها طلاب علم
النفس المرضي و علم نفس الشواذ في الجامعات المعاصرة تحت باب
(Anxiety disorders) الاضطرابات العصابية المعروفة باضطرابات القلق
و العصاب الوسواسي القهري (Phobias) كالمخاوف المرضية
كما يشتمل تصنيفه فوق ذلك ، (Obsessive-compulsive disorders)
بأنواعه المعروفة. و لم يسبق البلخي عالم ( Depression ) على الاكتئاب
في دقة هذا التصنيف ولم يأت أحد بمثله إلا بعد أكثر من تسعة قرون من
نشر كتابه. و كان البلخي يعلم علم اليقين بأنه أول من كتب عن
الاضطرابات النفسية بهذه الدقة و الوضوح . فهو يؤكد بأنه لا يعرف أحداً
قبله أنجز دراسة لتدبير مصالح الأنفس توخى فيها " قولاً
مشروحاً وافياً بقدر الحاجة " (ص 275 ) . و هذا قول تسنده دراسات
تاريخ الطب النفسي . فكل ما كتبه فلاسفة الإغريق و علماء المسلمين
القدامى و أطباؤهم لا يعدو أن يكون شذرات مختصرة متفرقة في بطون
كتب الطب و الفلسفة .
و مما يمتاز به هذا السفر القيم تص ور البلخي الوقائي المتفائل للمرض
النفسي وعلاجه ، فالأبواب الثلاثة الأولى للمخطوط هي بمثابة مقدمة يؤيد
فيها أحدث الاتجاهات التي تنتقد المتخصصين المعاصرين الذين ربطوا
العلاج النفسي و الإرشاد النفسي بالنموذج الطبي المرضي. قد يتعجب
المتخصص النفساني كثيراً عندما يقرأ الباب الأول بعنوان "مبلغ الحاجة
إلى تدبير مصالح الأنفس" و الباب الثاني "في تدبير حفظ صحة الأنفس
عليها" ثم الباب الثالث "في تدبير إعادة صحة الأنفس إذا فقدت". فهذا
تسلسل وقائي يركز على حفظ الصحة النفسية بدلاً عن إهمال الوقاية و
بذل الجهد في تصنيف الأمراض النفسية و كيفية علاجها بعد وقوعها كما
يفعل المتخصصون في الطب النفسي و علم النفس العيادي اليوم. بل إ ن
البلخي لا يتحدث في هذه الأبواب عن المضطربين نفسياً على أنهم
"مرضى" كما يفعل اليوم أكثر أطباء النفس و معالجيها، بل يعتبرهم
أشخاصاً عصفت بهم انفعالاتهم إلى أعراض منعتهم من السكينة و التلذذ
بمباهج الحياة و متابعة أعمالهم اليومية.
و هذه الانفعالات، كما يؤكد في كتابه، هي ذاتها التي تجنح بالناس
كافّة بصورة أقل من حيث حدتها ودوامها فتصيبهم بالاختلال النفسي المؤقت
. فالفرق بين المضطرب نفسياً و الشخص العادي المنفعل عند البلخي هو
إذ ن اختلاف درجة و ليس اختلاف نوع، يجعل من هذا مريضاً ومن ذاك
صحيحاً. لذلك يعتبر البلخي الاهتمام بمصالح الأنفس أهم بكثير من الاهتمام
71 ما نصه: - بمصالح الأبدان ، فيقول في صفحتي 270
".. الأعراض النفسانية هي مثل الغضب و الغم و الخوف و
الجزع و ما أشبهها..هي ألزم للإنسان و أكثر اعتراء له من
الأعراض البدنية، و ذلك أ ن الأعراض البدنية قد يسلم الواحد
منها حتى لا يكاد يعرض له في أكثر أيام عمره منها أو من
عا متها شيء. فأما الأعراض النفسانية فإن الإنسان مدفوع في
أكثر أوقاته إلى ما يتأذى به منها إذ ليس يخلو في كافة أحواله
من استشعار غ م أو غضب أو حزن."
ويذكرني البلخي في ذلك بثورة الطبيب النفسي الأمريكي
انتقد Instead of Therapy الذي ألف كتاباً جيداً بعنوان Tom Rusk
فيه بشدة ما فعله فرويد من حبسه لمفاهيم العلاج النفسي في قمقم النموذج
الطبي المحدود وتبعه في ذلك جميع أطباء النفس و المعالجين النفسانيين.
وفيما يلي أترجم للقارئ بعض الفقرات مما كتبه هذا الطبيب النفسي
الأمريكي عن هذا المفهوم المضاد للنموذج الطبي في مقدمة كتابه حيث
يقول:
"على الرغم من أنني طبيب نفسي إلا أنني ما عدت أعتقد
بأن لغة العلم التجريبي ولا الطب يمكن استخدامهما في تفسير
ما أقوم به من علاج و إرشاد نفسي لمن يطلبون ذلك مني من
الأشخاص . فأنا واحد من أولئك النفر القليل من المتخصصين
الذين يعتقدون الآن أ ن العلاج النفسي لم يكن في يوم من الأيام
جزءاً من العلوم الطبية و يجب أن لا ينظر إليه اليوم من هذه
الزاوية الضيقة.
إ ن الهدف الأساسي لأ ي نوع من أنواع العلاج النفسي هو
تعليم العميل و تدريبه لكي يغير معاملته لنفسه و للآخرين. و
إن هذا النوع من التعلم لا يختلف في نظري عن تعلم أ ي شئٍ
آخر . لذلك كان من الأفضل أن نعتبر تعديل سلوك العميل
و فكره عملية "تعلمية" و تربوية و ليست علاجية من منطلق
طبي. إ ن هذا الخطأ الفادح كان له آثار سيئة بالنسبة لمعاملة
العملاء و بالنسبة لسوء استخدام النفسانيين لتخصصاتهم" .
فإذا انتقلنا إلى الوسائل العلاجية للاضطرابات النفسية في مخطوطة
البلخي لدهشنا للتشابه الواضح بين الطرق التي استخدمها أو اقترحها
لتعديل سلوك المصابين بالتوتر و القلق و الغضب المزمن و الاكتئاب
التي توصل إليها علم (Cognitive therapy) وبين أحدث الوسائل المعرفية
النفس العلاجي المعاصر بعد رحلة طويلة شاّقة، زادت على السبعين
سنة، ج رب خلالها كثيراً من الأساليب الفاشلة أو تلك التي نجحت في
إطار محدود. و هذا التشابه بين البلخي و المعاصرين من النفسانيين يبدو
و (Behaviour therapy) أكثر وضوحاً عند مقارنته بالعلاج السلوكي
Rational emotive العلاج المنطقي أو العقلاني للاضطرابات الانفعالية
و ذلك المعروف بالعلاج (therapy)
.(Rational behaviour therapy) السلوكي العقلاني أو المنطقي
و رغم الاختلافات الطفيفة بين النفسانيين العاملين في مجال العلاج
Aaron و إيرون بك Abert Ellis المعرفي من مثل ألبرت إليس
David Burns و ديفد بيرنز Maxie Maultsby و ماكسي مولتسبي Beck
إ ّ لا أنهم جميعاً يرفضون التصور الميكانيكي لطبيعة الإنسان الذي نادى به
السلوكييون الذين ركزوا على المثيرات البيئية الخارجية و استجاباتها التي
يمكن ملاحظتها و أهملوا نشاط العمليات العقلية الداخلية و التفكير
الشعوري، و كأ ن الإنسان آلة صماء تأتي فيها المثيرات باستجابات
فورية مباشرة. كما أّنهم جميعاً يرفضون تصورات فرويد التحليلية القائلة
بتحكم الدوافع اللاشعورية الجنسية و العدوانية على السلوك الشعوري
للإنسان واستخدامه للحيل الغامضة لتفسير السلوك العادي و المرضي.
كذلك نجد أنهم جميعاً قد تأثروا بالثورة الإلكترونية الحديثة في عالم
الكومبيوتر . فأهم خصائص الإنسان عندهم هي قدراته التي تشابه
البدنية
فيجمعها و يستودعها خزائنه إلى أن يعرض له عارض من
الأمراض و الأوجاع في وقت لا يحضره فيه طبيب يعالجه
فيتناولها لينتفع بها و ينزع أذى العارض عن نفسه .. "
إ ن المتخصص في العلاج السلوكى إذا تع مق في هذا النص ليجد فيه
Systematic ) اتجاهاً وقائياً جديداً في التحصين التدريجي
هذا النوع من العلاج السلوكى الذي نجح كثيراً في . (desensitization
يقوم فيه النفساني ( Phobias ) التخلص من أعراض المخاوف المرضية
بمساعدة المريض على الاسترخاء النفسي و البدني وتخيل المناظر
والخبرات التي تجلب له السرور ثم يطلب منه تخيل الشيء الذي يخافه أو
يزعجه و يحزنه بالتدريج، حيث يبدأ بالمسائل الصغيرة و يترقى
بالمريض حتى يبلغ عظائم المزعجات. وتكرر العملية حتى يعتاد المريض
على مواجهة هذه المخاوف و المزعجات في فكره وخياله، فإذا به يجد
نفسه قادراً على مواجهتها في واقع الأمر . لقد استطاع البلخي أن يقدم لنا
تصوراً سلوكياً لم يسبق إليه حينما نصحنا ببناء حصن من الأفكار و
المشاعر الصحية في حالة استرخاء أبداننا و سكون أنفسنا قبل أن نواجه
المواقف التي قد تأتينا بالأعراض المرضية . و في مواقع أخرى من
الكتاب نراه يوصي بالتدرج في تقديم المثيرات المزعجة و المخيفة في
نفس الوقت الذي نستثير فيه عند المريض الأحاسيس المضادة التي تأتي
بالسرور و الاسترخاء، و يسمي ذلك باسم "العلاج بالضد" وهو
الذي وضعه ولبي (Reciprocal inhibition) نفس الاصطلاح
رائد العلاج السلوكي في الخمسينيات من القرن العشرين . Wolpe
وكما يتحدث المعالجون بالأساليب المعرفية المعاصرون عن أن
معظم الأفكار التي تسبب الانفعالات المرضية لا تقوم على تصورات
عقلانية حقيقية و أن ما يخافه المضطرب نفسياً أو يحزن أو يغضب منه
إنما هو من نسج الأفكار المغلوطة . نقرأ للبلخي نفس المفاهيم و لكن بلغة
بليغة و أمثلة طريفة . ففي صفحتي 306 و 307 يقول:
"..إن توقع كثير من المكاره ربما كان أشد من وقوعه، فإ ن
المخاوف أكثرها غير ضار، و لذلك قالوا أكثر ما تخافه لا
يضرك، و قيل أكثر الروع باطله. و لذلك شبه الحكماء الأمور
المخوفة التي يهاب الإنسان الاندفاع إليها بالضباب الذي يتولد
على وجه الأرض فيخيل للإنسان من بعد أّنه جسم كثيف ليس
فيه متنفس ولا عمل للبصر في إدراك شيء من الأشخاص التي
في حيزه، فإذا داخله وجده شبيهاً بالهواء الذي فارقه "
لا شك في أن مثال الضباب هذا هو من أروع الأمثلة التي تضرب
للعرب الذين فتحوا البلاد الباردة، و كثير منهم ربما رأى الضباب لأول
مرة في حياته. كذلك نقرأ للبلخي في صفحة 309 و هو يشبه الأفكار و
المشاعر المرضية التي لا تستند إلى واقع منطقي بمخاوف الطفل
الصغير من المثيرات الجديدة من الألوان و الأصوات التي لو تعرف على
مصدرها أو تع ود عليها بالتكرار لزالت مخاوفه.
إذن فالعلاج من الأعراض النفسية عند البلخي هو اتباع نفس
الأساليب المعرفية الحديثة التي تعتمد على كشف
أخطاء تفكير المصاب و تناقضاته مع
الواقع حتى تتبدل انفعالاته. و نجد في هذا الجانب
العلاجي أحد أهم إسهامات للبلخي في هذه المخطوطة
القيمة . ففي "باب صرف الغضب و قمعه" يقدم للمعالج كثيراً من الحيل
الفكرية التي يمكن استخدامها من الخارج، أ ي من شخص يقوم بوعظ
الغضبان و تهدئته، أو من الداخل بمعاونة المصاب بالغضب المزمن و
العمليات الداخلية للحاسب الإلكتروني، أي تحليل و تصنيف المعلومات و
و تخزينها في الذاكرة ثم استعادتها عند الحاجة إليها ( coding) ترميزها
في حلّ المشكلات التي تطرأ في المستقبل. لذلك كان الهدف الأساسي
أو التفكير ( software ) للعلاج المعرفي هو تغيير البرنامج الداخلي
المغلوط غير المنطقي الذي يستعمله المريض واستبداله بفكر عقلاني
سليم يعيد مشاعره و انفعالاته إلى صوابها.
و لأدلل على هذا التشابه المذهل بين ما توصل إليه عبقري مسلم ملهم
قبل عشرة قرون و بين ما أنجزه علماء القرن العشرين عن طريق
التجارب الطويلة و المحاولة و الخطأ، فسأترجم للقارئ بعض الفقرات من
كتاب أحد مؤسسي هذه الوسائل المعرفية الحديثة لمقارنتها بما كتبه
البلخي. و الكتاب للطبيب النفسي المعروف
أحد أهم هؤلاء الرواد و عنوانه Aaron Beck إيرون بك
ويمتاز هذا الكتاب . Cognitive therapy and the emotional disorders
بالوضوح وبتلخيصه للجوانب التي يتفق عليها أكثر المعالجين المعرفيين.
يقول بك:
"إ ن إصابة الناس باضطرابات نفسية لا تأتي بسبب عوامل
غامضة (لاشعورية) كما يزعم فرويد في نظرياته التحليلية، بل
بسبب مسائل عادية مثل تعلم و اكتساب العادات المرضية أو
الاستنتاجات الخاطئة من معلومات غير صحيحة. و هذه
العوامل تؤدي بالشخص حتماً إلى التفكير المغلوط غير
المنطقي، و ذلك بدوره يؤدي إلى الانفعالات النفسية المرضية
كالقلق و الاكتئاب . هذا لأ ن انفعال المرء تابع لتفكيره و لما
يقوله لنفسه. لذلك فإ ن الدور الأساسي للمعالج النفسي المعرفي
هو مساعدة المريض على استخدام قدراته الطبيعية في حلّ
المشكلات للتعرف على تصحيح فكره و التخلص من سيطرة
الأفكار السلبية وأن يستبدل بها أفكاراً و مشاعر عقلانية متسقة
مع الواقع المعاش. وبما أن هذا التعديل لا يتم إلا بتعاون الفكر
و الأحاسيس و الانتباه و التذكر و التخيل، وكلها عمليات عقلية
عليا، سمينا هذا النمط من العلاج بالعلاج المعرفي (ملخص من
27 و 28 من كتابه).
عندما نتصفح مخطوطة البلخي نجده ينحو نفس النحو الذي يؤكد أ ن
التفكير الخاطئ وما يتبعه من تصورات وانفعالات منحرفة هو المسؤول
الأول عن إصابة الناس بالأعراض النفسية. وأن تبديل هذا الفكر هو الذي
يتم عن طريقه العلاج و إراحة المضطربين من أعراضهم . ولاهتمامه
الواضح بالناحية الوقائية، لا يكتفي البلخي بتصحيح الأفكار و التصورات،
بل يذهب بعيداً حينما يقدم النصح للأسوياء و الأصحاء بأن يخ زنوا في
عقولهم الوصايا الفكرية الصحية في حال سكينتهم و صحتهم النفسية
ليستفيدوا منها إذا أل مت بهم بعض الأعراض النفسية. و يقارن بين هذه
الأفكار المستودعة في الذاكرة و بين خزانة العقاقير و الأدوية التي يضعها
الأصحاء في بيوتهم ليستخدموها إذا أصابهم طارئ من مرض أو حادث،
أي ما نسميه اليوم بخزانة الإسعافات الأولية . وهذا لعمري هو
من أبدع ما يمكن أن يتصور بالنسبة لأهمية التفكير في جلب
الاضطرابات الانفعالية و في علاجها. يجد القارئ هذا النص في صفحة
286 وهو كالآتي:
"فإّنه ليس يستغني مع ذلك عن معونة تلحقه من داخل
(نفسه) بوصايا فكرية تتهيأ أن يقمع بها الأعراض النفسانية إذا
هاجت ، فيجمعها في نفسها في وقت صحتها وسكون قواها
ويستودعها قوة الحفظ منها ليخطرها بباله و يعظ بها نفسه إذا لم
يحضره واعظ مذكر من خارج كما يفعله المحتاط في الأعراض
السلوك العدواني على تغيير تفكيره. فمن ذلك مثلاً أن يفكر الملوك و
غيرهم من أصحاب الشأن فيما جنى الغضب على بعض م ن هم في
مقامهم فأقدموا على أمور جرت عليهم أعظم الضرر في دينهم و دنياهم .
ومن هذه الحيل أن يفكر المرء في فضيلة الحلم و أنه من أشرف المناقب
و لها أجرها العظيم عند الله تعالى. ومنها أن يتجنب مقابلة الشخص الذي
أغضبه حتى تسكن ثائرته، ومنها أن يتفكر و يتذكر الأخطاء المشابهة التي
ارتكبها هو في ماضي حياته من مثل التي أغضبته الآن. فمثل هذه
الأساليب العلاجية، كما يقول البلخي، كمثل الماء البارد الذي يصب على
قدر يفور غلياناً فيسكنه.
لذا يؤكد البلخي ،خلافاً لبعض المدارس النفسية المعاصرة، أ ن التنفيس
عن الغضب لا يساعد على تخفيف هذا العرض بل يزيد ناره حطباً. و هذا
هو التصور الحديث لعلم النفس المعرفي. ويشبه البلخي إهمال الفرد تغيير
أفكاره و مشاعره الغضوبة في بداية الأمر بالشخص الذي أهمل اشتعال
النار وهي خفيفة في بدايتها و تركها حتى عظمت و صعب إطفاؤها.
نفس الاقتراحات القيمة والأفكار المبتكرة نجدها في فصل " تسكين
الخوف و الفزع"، ومن أهمها تغيير تفكير الخائف القلق بتكرار الخبرات
المفزعة عليه في ظروف يجد فيها السكينة و التشجيع حتى يعتاد عليها،
ويضرب لذلك مثلاً بالآتي:
إ ن الذين" لم تقع أبصارهم على الحروب و القتلى و
الجرحى متى نظروا في بادئ أمرهم إلى شيء منها هالهم ذلك
هولاً شديداً..وإذا طالت ممارستهم للحروب و صاروا من أهلها
قلّ ارتياعهم. ومن هذا النوع أمر الأطباء الذين يباشرون أثر
القروح و الجراحات و البطَّ و الكي، فإنهم متى اعتادوا مباشرة
ذلك و مرنت أبصارهم عليه لم يرعهم ما يروع الذين لم يسبق
لهم عادة بالنظر إلى شيء من تلك المناظر الموحشة. ."
(11- (صفحة 310
و من أروع ما ذكره البلخي في هذا الفصل استخدامه لانفعالٍ
"مرضي" لعلاج تفكيرٍ أكثر منه
اضطراباً ! فيضرب لنا مثلاً باستعمال انفعال الغضب، مع كونه من
الأعراض التي أفرد فصلاً لعلاجها ، في تغيير تفكير الخائف المذعور
حيث يستثير الغضب على نفسه حتى يستحيي من خوفه في مجابهة
المخوف. استمع إليه يقول:
"يستظهر (الخائف) على نفسه في دفع آفة الخوف عنها بقوة
الغضب و هو أن يفكر في أ ن إظهار الخوف والفزع من
خور النفس و فشلها و أنه أمر خاص لضعاف الأنفس من
النساء و الصبيان و أشباههم، فيغضب على نفسه ويأنف لها
من أن توجد عند حضور المخاوف في مثل أحوال الذين لا
.( يوجد عندهم جلادة ولا صرامة " (صفحة 308
أما الفصل السابع المعنون "في تدبير دفع الحزن و الجزع" فقد قام
البلخي فيه بتصنيف أنواع الحزن و الاكتئاب بتفصيل ينم عن حسٍ
إكلينيكي سبق فيه عصره بأكثر من عشرة قرون. فهو يتحدث أولاً عن
الحزن و الاكتئاب العادي الذي يصيب جميع الناس بين الفينة و الفينة ولا
يمكن تجنبه كلياً لأنه كما يقول: " موجود في طباع الدنيا و بنيتها فليس
في ذلك حيلة". ثم هو بعد ذلك يقسم الحزن إلى نوعين أو ضربين كالآتي:
"أحدهما ما يكون معروف السبب كإنسان يعرض له الحزن
من فقد محبوب من أهل أو مال أو شيء خا ص الموقع منه ، و
الآخر مجهول السبب و هو غ مة يجدها الإنسان على قلبه في
عامة الأوقات تمنعه من النشاط و إظهار السرور و
صدق الاستمتاع بشيء من اللذات و الشهوات من غير أن
يعرف لهذا الفتور و الانكسار اللذين يجدهما شيئاً يخيل بهما
عليه. فأما الحزن المجهول السبب فإنه يرجع إلى الأعراض
البدنية و تولده إنما يكون من قلة صفاء الدم. وحيلة دفعه إما
عن طريق العلاج الجسماني..من الأغذية و الأدوية، و أما من
طريق العلاج النفساني فبالتلطف لاجتلاب السرور إلى النفس
بالمحادثة و المؤانسة و الاستماع بما تطيب النفس به."
(17- (صفحتي 316
يتحدث هذا العبقري الملهم إذن عن ثلاثة أنواع من الحزن و
الاكتئاب. أولها الاكتئاب أو الحزن العادي وهو ما يسميه
DSM- أحدث تصنيف للأمراض النفسية ( - 111
ثم ذلك النوع .(Normal depression) باصطلاح (R
المعروف باسم الاكتئاب الاستجابي أو
العصابي الذي يحدث بسببٍ بيئيٍ معروف كفقد عزيزٍ
. (Reactive or neurotic depression) أو مالٍ أو وظيفة
(Endogenous أما النوع الثالث فهو ذلك الاكتئاب أو الحزن الداخلي
الذي يحدث أساساً بسبب اختلال كيميائي في هورمونات depression)
الدماغ. وقد ينزل هذا النوع من الحزن على صاحبه دون مقدمات
كنزول السحابة السوداء بدون أن يعرف لهذا الحزن و الغمة و قلة النشاط
و فقدان الشهية للطعام سبباً أو قد يكون السبب تافهاً بالنسبة لعظم
الإصابة. وهذا النوع من الاكتئاب يحتاج إلى علاج عقاقيري مركز و في
بعض الحالات الشديدة إلى علاج كهربائي.
إ ن التفريق بين الاكتئاب الخارجي أو الاستجابي المعروف السبب و
الداخلي العضوي أمر تثبته الأبحاث في ميادين كيمياء الدماغ العضوية و
الوراثة و حتى الدراسات الإحصائية الوصفية مما جعل الأطباء النفسانيين
في كثيرٍ من البلدان يتمسكون بهذا التفريق رغم محاولة التصنيف
الأمريكي الجديد التقليل من أهميته.
إن اكتشاف البلخي لهذه الفروق الدقيقة بين هذه الأنواع الثلاثة للحزن
و الاكتئاب قبل أكثر من عشرة قرون لأمر يدعو إلى الدهشة و الإعجاب
الشديدين. فلم يتحدث عالم شرقي أو غربي عن مرض نفسي أو عقلي
تظهر أعراضه خارجياً بسبب العوامل البيئية أو داخلياً بسبب اختلال في
داخل الجسم إلا في أواخر القرن التاسع عشر الميلادي و أوائل القرن
تصنيفه المشهور Emil Kraepelin العشرين عندما نشر إميل كريبلين
للأمراض النفسية و العقلية.
ويبدو واضحاً من كتاب البلخي أنه لا يحبذ العلاج النفسي المعرفي
للحزن و الاكتئاب الداخلي بل يترك علاجه للطب الجسماني بالأدوية و
الأغذية. ولئن استخدم العلاج النفسي لهذا النوع من الحزن الداخلي السبب
فالتركيز إنما يكون على ما يجلب السرور من المؤانسة و السماع، أي
الاستماع إلى الأغاني و الألحان الشجية التي تحرك الوجدان و تدخل
السرور إلى القلوب المكلومة.
و أما علاج الحزن الاستجابي الذي تظهر أسبابه، فينصح فيه بنفس
خطة العلاج التي اتبعها بالنسبة لتسكين الخوف و الفزع: علاج خارجي
بالوعظ و التذكير، و علاج داخلي معرفي يقوم على تبديل تفكير الحزين
حتى يقتنع بأ ن مبالغته في الحزن تقوم على فكر خاطئٍ قد يكون وبالاً
عليه إذا لم يغيره. فيفكر فيما يمكن أن يجلب عليه الحزن من الأمراض
الجسمية ، فإن كانت نفسه التي بين جنبيه أع ز عليه من أ ي شيء آخر
كان من الحماقة أن يتلفها من أجل محبوب غاب عنه. ثم يوقن بأ ن الجزع
مصيبة عليه أكثر مما فقده و أّنه من صفات النساء و ضعاف النفوس.
التحميل
مركز الخليج
http://adf.ly/Oqbte
ميديافير
http://adf.ly/Oqbwe