لعلنا يجب أن ننبه إلى أن نموذج سوبر وليفنسون في النمو المهني، لهما طابعهما الثقافي، ولا يقبلان النقل أو الانتقال إلى الثقافات الأخرى، ومنها الثقافة المصرية، فتحديد سن الثامنة عشرة مثلًا بداية للحياة المهنية الحقيقية، يتفق مع نظام اجتماعي يعتبر التعليم الأساسي شاملًا لمرحلة ما قبل التعليم الجامعي "أي: حتى نهاية المرحلة الثانوية"، وهو حال التعليم في الولايات المتحدة الأمريكية.
ومن ناحية أخرى، نود أن ننبه أيضًا إلى أننا أشرنا إلى أن العمل هو أهم مؤشرات الرشد، ولعل هذا هو الافتراض الأساسي وراء اعتبار سوبر سن الحادية والعشرين "وهو سن الرشد في معظم النظم القانونية المعاصرة"، هو العمر الذهبي للدخول الفعلي في عالم العمل, والسؤال الآن: ماذا عن تطور الحياة المهنية في ثقافتنا المصرية؟
وللإجابة على هذا السؤال قام فؤاد أبو حطب "1996" بدراسة تناول فيها قضيتين من أخطر قضايا المجتمع المصري المعاصر، هما: عمالة الصغار، وبطالة الكبار.
عمالة الصغار: لقد شغلت قضية عمالة الأطفال الاهتمام على المستوى الدولي، عقب إنشاء منظمة العمل الدولية عام 1919، حيث توالت -منذ ذلك الحين- الاتفاقيات الدولية، التي تنظم اشتغال صغار السن في الأنشطة المختلفة, وابتداءً من عام 1973، أصبح سن الخامسة عشرة، هو الحد الأدنى لتشغيل الأحداث في كافة الأنشطة الاقتصادية، وإن أجازت تخفيضه إلى الرابعة عشرة في الدول النامية، وحرَّمَت تشغيل الأحداث الذين لم يتجاوزوا الثامنة عشرة، في الأعمال التي تشكل خطورة على الصحة أو الأخلاق.
وقد أجازت منظمة العمل الدولية للسلطات الوطنية منح تراخيص عمل،
للأحداث فيما بعد 13-15عامًا، للقيام بالأعمال الخفيفة، بشرط عدم الإضرار بصحة الطفل، أو نموّه الجسمي والعقلي، أو عرقلة مواظبته على الدراسة في مرحلة التعليم الأساسي.
ومع ذلك، فإن تقارير منظمة العمل الدولية، تشير إلى التزايد المستمر في ظاهرة عِمالة الأطفال، وخاصةً في الدول النامية، ومن ذلك التقرير الصادر عام 1988، الذي يقدر عدد الأطفال العاملين تحت السن القانونية، بحوالي مائة مليون طفل، معظمهم من الدول النامية، ويرجع ذلك بالطبع إلى ما تعانيه هذه البلدان من مشكلات اجتماعية واقتصادية وتعليمية صعبة.
وقد أُجْرِيَتْ في مصر دراسة هامة، حول عِمَالة الأطفال، قام بها المركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية، بالاشتراك مع منظمة اليونيسيف، صدرت عام 1991, وفي هذه الدراسة، قُدِّرَتْ أعداد الأطفال المصريين العاملين من سن 6-15عامًا، بحوالي مليون ونصف مليون طفل، كما تشير الإحصاءات الرسمية, ويذكر التقرير أن هذه الأعداد تتزايد بشكلٍ مُطَّرِدٍ، بلا تخطيط أو توجيه، وساعد على ذلك مجموعة من العوامل، لعل أهمها:
1- التضخم وارتفاع الأسعار.
2- هجرة العمالة المدربة إلى سوق العمل العربية.
3- التسرب من التعليم.
4- تهافت أصحاب الورش الصغيرة على تشغيل الصغار.
ويرجع تفضيل أصحاب الورش الصغيرة لتشغيل الصغار دون الكبار، إلى انخفاض أجورهم، وبساطة ما يقومون به من أعمال، تتناسب وطاقتهم المحدودة وغير المدربة "المركز القومي للبحوث الاجتماعية1991، ص10".
وقد أجريت الدراسة على عينة من صغار السن، الذين يعملون في الورش الصناعية الصغيرة، من الذكور والإناث، ومن الفئة العمرية 12-15سنة، وهي الفئة التي يمنع القانون اشتغالها بالأعمال ذات الطبيعة الشاقة, وقد اختيرت العينة من القاهرة الكبرى بمحافظاتها الثلاث: القاهرة والجيزة والقليوبية، ومن الريف والحضر. وفي صناعاتٍ تمثل استغلالًا للطفل، وخطورةً عليه في سنه المبكرة، وقورنت بعينة ضابطة.
وقد كشفت الدراسة عن أهم العوامل المؤدية لعمالة الأطفال وهو: الفشل في التعليم الأساسي "80%" أو ممن لم يلتحقوا به أصلًا "20%".
ولعل من أهم النتائج النفسية التي توصل إليها البحث، أن الأطفال العاملين يعانون من سوء التوافق الاجتماعي، وسوء التوافق العام، بالمقارنة بالعينة الضابطة, وفَسَّرَ الباحثون ذلك بأن هؤلاء الصغار "يلعبون أدوارًا اجتماعية، تحتاج إلى متطلباتٍ لم تخلق أساسًا لذوي الأعمار الصغيرة، كما أن إحساسهم بالمسئولية الاجتماعية والاقتصادية، عن أسرٍ تحتاج إلى دعمهم الماديّ، قد خلق نوعًا من الصراع بين رغبتهم في أن يعيشوا حياةً مناسبة لحياة الصغار، بما فيها من لعبٍ وانطلاق، وممارسة هواية محببة إلى نفوسهم من يماثلون في العمر, وصراعٌ آخر يتمثل في كونهم يتحمَّلون مهام العمل، على ما فيها من تبعاتٍ ومشاقٍ" المركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية، 1991، ص84.
إلّا أن الطريف حقًّا أن نشير إلى أن هؤلاء العاملين للصغار، يشعرون بالرضا عن أنفسهم لمساعدة الأهل, فقد أكد ذلك حوالي 92% من أطفال العينة، ويتفق ذلك مع ما أظهروه من توافقٍ شخصيٍّ، لا يختلف عن أطفال العينة الضابطة.
وعلى الرغم من أن هذه النتيجة قد تبدو إيجابية، إلّا أنها يجب ألّا تصرفنا عن النتائج السلبية في معظمها، التي كشف عنها هذا البحث، وأهمها -من الناحية النفسية- نقص ذكاء الأطفال الصغار العاملين، بالمقارنة بأطفال العينة الضابطة، والذي يُعَدُّ -في ذاته- مؤشرًا على سوء بيئة العمل لهؤلاء الأطفال، ونقص القدرة والدافعية لمواصلة التعليم, وانخفاض المستوى الاقتصادي والثقافي للبيئة الأسرية والمجتمعية المباشرة لهؤلاء الأطفال.
أما النتيجة التي تخص رضا الأطفال العاملين عن أدائهم وتكيفهم الشخصي، فلعلها تكشف لنا عن المردود السيكولوجي للعمل -حتى في أصعب الظروف- على الذات، ويمكن استثمار هذه النتيجة في تطوير منظومة التعليم، بحيث يصبح "للتمهين" وجود حقيقي, ولعلَّنَا لا نكون قد نسينا أن فلسفة التعليم الأساسي، هي -في جوهرها- توفير فرص "للتهيئة المهنية" للأطفال.
بطالة الكبار: لعل من أهم الظواهر التي تكشف لنا عن قيمة العمل، وموضعه في حياة الإنسان، دراسة سيكولوجية اللاعمل، ونخص بالذكر حالتيين، هما البطالة unempolyment والتقاعد
ونتناول في هذا القسم سيكولوجية البطالة، ثم نتناول سيكولوجية التقاعد في الباب التالي:
ومن تحصيل الحاصل، أن نقول: إن البطالة ذات أثر خطير، ليس فقط على الفرد، وإنما على المجتمع بأسره، ولم يشعر الناس بأثرها إلّا في المجتمع الصناعي الحديث، سواء أكان هذا الأثر اقتصاديًّا أم سيكولوجيًّا.
ونود أن ننبه -منذ البداية- إلى أن البطالة تحدث في ظروف الرخاء الاقتصادي، كما تحدث في ظروف الشدة الاقتصادية، إلّا أن أثرها -في ظروف العسر- أشد وأقسى؛ ففي دراسة أجريت في الولايات المتحدة أكدت أن البطالة لم تفارق المجتمع الأمريكي طوال القرن العشرين، ولم يقل معدلها -في جميع الأحوال- عن 50% من قوة العمل, ويشمل تعريف البطالة هنا أولئك الذين يتركون العمل لفتراتٍ قصيرةٍ عند تغيير العمل، وأولئك اللذين يجبرون على ترك العمل فترات أطول، بسبب التغيرات الموسمية، وأولئك الذين لا يدخلون سوق العمل أصلًا، بسبب الانكماش الاقتصادي.
وقد تناول علماء النفس ظاهرة البطالة بالدراسة والبحث، واقترحت نماذج نظرية لتفسير سلوك الشخص المتعطل، ومن أهم هذه النماذج نموذج بلم Blum، الذي يقترح أن سلوك البطالة يمر بثلاثة مراحل أساسية، هي:
1- شعور بالصدمة، حتى ولو كان هناك تحذير مبكر بفقدان العمل، أو عدم توافر فرصة, وفي هذه المرحلة، يسترجع المرء متوالية الأحداث التي أدت به إلى البطالة، ويبرر الحكمة في ترك العمل، أو عدم الدخول فيه أساسًا "سوء بيئة العمل، سوء التعليم، إلخ". وسرعان ما يستقر على رأي، أنه يمكنه الاستفادة من إجازة أو راحة، هو في حاجة إليها "بعد فترة عمل أو تعليم طويلة", ويتبع ذلك تقدير لقدراته، وصياغة خطط للسعي نحو الحصول على عمل.
2- البحث الجدي والنشط عن عمل، وعادةً ما يبدأ معظم المتعطلين في البحث عن عملٍ أفضل من عملهم السابق، أو البحث عن عملٍ مشابهٍ له إذا أعيتهم الحيل واستمرت البطالة, ومع مرور الوقت وضغط الحاجة إلى العمل يبدأون في البحث عن أيّ عمل, وفي هذه الفترة، يعاني المرء من مشاعر الفشل والإحباط والتعاسة، ومع ذلك فإنه لا يفقد الأمل في النجاح.
- المرحلة النهائية أو مرحلة الانهيار، فمع استمرار الفشل في الحصول على عمل، بعد طول البحث عنه، يبدأ المرء في الوقوع في أسر مشاعر القلق والتشاؤم وفقدان الأمل.
وبعض الأشخاص يمرون بهذه المراحل بسرعة أو ببطء، ويتوقف ذلك على خبرات النجاح والفشل في كل مرحلة منها، كما أن المشاعر السلبية تزداد لدى أولئك اللذين لديهم خبرات نجاح في الماضي "مهنيًّا أو تعليميًّا"، أكثر من خبرات للفشل، ولعل هذا يدعم الدعوة إلى التزام الدولة بتعيين أوائل الخريجين.
ماذا عن الآثار النفسية للبطالة؟ فيما يلي، نلخص نتائج البحوث التي أجريت في هذا الصدد:
1- فقدان الشعور بالأمن اقتصاديًّا وسيكولوجيًّا.
2- التوجه أولًا نحو لوم الذات على الحال التي عليها المتعطل، ثم الانتقال إلى تكوين اتجاهٍ عدوانيٍّ نحو الظروف التي أنشأت هذه الحال.
3- المعاناة من مشكلة معالجة الوقت، فالشخص العامل تتمركز أنشطته اليومية حول العمل الذي يستغرق القسط الأكبر من وقت نشاطه، أما المتعطل فإن الوقت يُعَدُّ عبئًا ثقيلًا عليه.
4- اختلال النظام اليومي للحياة الأسرية، فتضطرب مواقيت النوم واليقظة والأكل، مع شعور بالضياع والخسران.
5- السعي نحو إخفاء حالة التعطل في البداية، فيُلَاحَظُ على المتعطل أنه يغادر منزله في موعد العمل اليومي، يعود إليه في موعد العودة المعتاد، ويستغل وقته إما في البحث عن عمل، أو التجول العشوائي, ومن الطريف أن البحوث التي أجريت على المتعطلين في بريطانيا -أثناء فترة الانكماش الاقتصادي الكبير "في أوائل الثلاثينات"- لوحظ أنهم لم يكونوا يترددون على المقاهي والبارات، وهي خالية خلال ساعات العمل، وإنما في أوقات الذروة، مع خروج العاملين من أعمالهم.
6- إنفاق العاطلين يتم بطريقة غير معقولة، ومعظم الإنفاق يكون على الكماليات، وهو نوعٌ من سلوك المجازفة أو المخاطرة تتسم به جميع الحالات الحرجة "المرضى، المستويات الاقتصادية/ الاجتماعية المنخفضة" والتي تسمى at risk cases.
- اللجوء إلى الخيال وأحلام اليقظة، كحيلٍ دفاعية، أو الهرب من الموقف، من خلال الأمراض السيكوسوماتية, وقد يلجأ البعض إلى المصارف غير القانونية، وقد يتحول البعض إلى التطرف في السلوك، ونادرًا ما يلجأون إلى الانتحار أو الإدمان, ومع ذلك فإن أغلبية المتعطلين، يظلون مواطنين صالحين.
8- زيادة حِدَّةِ البطالة لدى عضو الأسرة المسئول عن الإنفاق عليها، فعادةًَ ما يشعر بالمشاعر السلبية "كالإكتئاب" إذا تغيرت اتجاهات المحيطين به من الأهل والأقارب والأصدقاء، من التعاطف والفهم، إلى النقد والرفض "باعتباره كاسب لقمة العيش".
9- تكثيف العادات اليومية للمتعطل، والتي تُعَدُّ تغيرًا سيكولوجيًّا هامًّا، فالقارئ -أثناء العمل- يزداد قراءة أثناء التعطل، والمتدين يزداد تدينًا، وهكذا.
10- انعكاس البطالة على شعور الأطفال بعدم الأمن والقلق، مما ينعكس -بدوره- على رب الأسرة المتعطل، على نحوٍ يؤدي إلى خفض معنوياته، وضعف سلطته الوالدية.
11- من أهم التغيرات في شخصية المتعطل، انخفاض الروح المعنوية، ونقص التوازن الانفعالي، وزيادة التعصب والتحامل "مع ظاهرة كبش الفداء", وزيادة مشاعر النقص.
ومن ناحية أخرى، نود أن ننبه أيضًا إلى أننا أشرنا إلى أن العمل هو أهم مؤشرات الرشد، ولعل هذا هو الافتراض الأساسي وراء اعتبار سوبر سن الحادية والعشرين "وهو سن الرشد في معظم النظم القانونية المعاصرة"، هو العمر الذهبي للدخول الفعلي في عالم العمل, والسؤال الآن: ماذا عن تطور الحياة المهنية في ثقافتنا المصرية؟
وللإجابة على هذا السؤال قام فؤاد أبو حطب "1996" بدراسة تناول فيها قضيتين من أخطر قضايا المجتمع المصري المعاصر، هما: عمالة الصغار، وبطالة الكبار.
عمالة الصغار: لقد شغلت قضية عمالة الأطفال الاهتمام على المستوى الدولي، عقب إنشاء منظمة العمل الدولية عام 1919، حيث توالت -منذ ذلك الحين- الاتفاقيات الدولية، التي تنظم اشتغال صغار السن في الأنشطة المختلفة, وابتداءً من عام 1973، أصبح سن الخامسة عشرة، هو الحد الأدنى لتشغيل الأحداث في كافة الأنشطة الاقتصادية، وإن أجازت تخفيضه إلى الرابعة عشرة في الدول النامية، وحرَّمَت تشغيل الأحداث الذين لم يتجاوزوا الثامنة عشرة، في الأعمال التي تشكل خطورة على الصحة أو الأخلاق.
وقد أجازت منظمة العمل الدولية للسلطات الوطنية منح تراخيص عمل،
للأحداث فيما بعد 13-15عامًا، للقيام بالأعمال الخفيفة، بشرط عدم الإضرار بصحة الطفل، أو نموّه الجسمي والعقلي، أو عرقلة مواظبته على الدراسة في مرحلة التعليم الأساسي.
ومع ذلك، فإن تقارير منظمة العمل الدولية، تشير إلى التزايد المستمر في ظاهرة عِمالة الأطفال، وخاصةً في الدول النامية، ومن ذلك التقرير الصادر عام 1988، الذي يقدر عدد الأطفال العاملين تحت السن القانونية، بحوالي مائة مليون طفل، معظمهم من الدول النامية، ويرجع ذلك بالطبع إلى ما تعانيه هذه البلدان من مشكلات اجتماعية واقتصادية وتعليمية صعبة.
وقد أُجْرِيَتْ في مصر دراسة هامة، حول عِمَالة الأطفال، قام بها المركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية، بالاشتراك مع منظمة اليونيسيف، صدرت عام 1991, وفي هذه الدراسة، قُدِّرَتْ أعداد الأطفال المصريين العاملين من سن 6-15عامًا، بحوالي مليون ونصف مليون طفل، كما تشير الإحصاءات الرسمية, ويذكر التقرير أن هذه الأعداد تتزايد بشكلٍ مُطَّرِدٍ، بلا تخطيط أو توجيه، وساعد على ذلك مجموعة من العوامل، لعل أهمها:
1- التضخم وارتفاع الأسعار.
2- هجرة العمالة المدربة إلى سوق العمل العربية.
3- التسرب من التعليم.
4- تهافت أصحاب الورش الصغيرة على تشغيل الصغار.
ويرجع تفضيل أصحاب الورش الصغيرة لتشغيل الصغار دون الكبار، إلى انخفاض أجورهم، وبساطة ما يقومون به من أعمال، تتناسب وطاقتهم المحدودة وغير المدربة "المركز القومي للبحوث الاجتماعية1991، ص10".
وقد أجريت الدراسة على عينة من صغار السن، الذين يعملون في الورش الصناعية الصغيرة، من الذكور والإناث، ومن الفئة العمرية 12-15سنة، وهي الفئة التي يمنع القانون اشتغالها بالأعمال ذات الطبيعة الشاقة, وقد اختيرت العينة من القاهرة الكبرى بمحافظاتها الثلاث: القاهرة والجيزة والقليوبية، ومن الريف والحضر. وفي صناعاتٍ تمثل استغلالًا للطفل، وخطورةً عليه في سنه المبكرة، وقورنت بعينة ضابطة.
وقد كشفت الدراسة عن أهم العوامل المؤدية لعمالة الأطفال وهو: الفشل في التعليم الأساسي "80%" أو ممن لم يلتحقوا به أصلًا "20%".
ولعل من أهم النتائج النفسية التي توصل إليها البحث، أن الأطفال العاملين يعانون من سوء التوافق الاجتماعي، وسوء التوافق العام، بالمقارنة بالعينة الضابطة, وفَسَّرَ الباحثون ذلك بأن هؤلاء الصغار "يلعبون أدوارًا اجتماعية، تحتاج إلى متطلباتٍ لم تخلق أساسًا لذوي الأعمار الصغيرة، كما أن إحساسهم بالمسئولية الاجتماعية والاقتصادية، عن أسرٍ تحتاج إلى دعمهم الماديّ، قد خلق نوعًا من الصراع بين رغبتهم في أن يعيشوا حياةً مناسبة لحياة الصغار، بما فيها من لعبٍ وانطلاق، وممارسة هواية محببة إلى نفوسهم من يماثلون في العمر, وصراعٌ آخر يتمثل في كونهم يتحمَّلون مهام العمل، على ما فيها من تبعاتٍ ومشاقٍ" المركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية، 1991، ص84.
إلّا أن الطريف حقًّا أن نشير إلى أن هؤلاء العاملين للصغار، يشعرون بالرضا عن أنفسهم لمساعدة الأهل, فقد أكد ذلك حوالي 92% من أطفال العينة، ويتفق ذلك مع ما أظهروه من توافقٍ شخصيٍّ، لا يختلف عن أطفال العينة الضابطة.
وعلى الرغم من أن هذه النتيجة قد تبدو إيجابية، إلّا أنها يجب ألّا تصرفنا عن النتائج السلبية في معظمها، التي كشف عنها هذا البحث، وأهمها -من الناحية النفسية- نقص ذكاء الأطفال الصغار العاملين، بالمقارنة بأطفال العينة الضابطة، والذي يُعَدُّ -في ذاته- مؤشرًا على سوء بيئة العمل لهؤلاء الأطفال، ونقص القدرة والدافعية لمواصلة التعليم, وانخفاض المستوى الاقتصادي والثقافي للبيئة الأسرية والمجتمعية المباشرة لهؤلاء الأطفال.
أما النتيجة التي تخص رضا الأطفال العاملين عن أدائهم وتكيفهم الشخصي، فلعلها تكشف لنا عن المردود السيكولوجي للعمل -حتى في أصعب الظروف- على الذات، ويمكن استثمار هذه النتيجة في تطوير منظومة التعليم، بحيث يصبح "للتمهين" وجود حقيقي, ولعلَّنَا لا نكون قد نسينا أن فلسفة التعليم الأساسي، هي -في جوهرها- توفير فرص "للتهيئة المهنية" للأطفال.
بطالة الكبار: لعل من أهم الظواهر التي تكشف لنا عن قيمة العمل، وموضعه في حياة الإنسان، دراسة سيكولوجية اللاعمل، ونخص بالذكر حالتيين، هما البطالة unempolyment والتقاعد
ونتناول في هذا القسم سيكولوجية البطالة، ثم نتناول سيكولوجية التقاعد في الباب التالي:
ومن تحصيل الحاصل، أن نقول: إن البطالة ذات أثر خطير، ليس فقط على الفرد، وإنما على المجتمع بأسره، ولم يشعر الناس بأثرها إلّا في المجتمع الصناعي الحديث، سواء أكان هذا الأثر اقتصاديًّا أم سيكولوجيًّا.
ونود أن ننبه -منذ البداية- إلى أن البطالة تحدث في ظروف الرخاء الاقتصادي، كما تحدث في ظروف الشدة الاقتصادية، إلّا أن أثرها -في ظروف العسر- أشد وأقسى؛ ففي دراسة أجريت في الولايات المتحدة أكدت أن البطالة لم تفارق المجتمع الأمريكي طوال القرن العشرين، ولم يقل معدلها -في جميع الأحوال- عن 50% من قوة العمل, ويشمل تعريف البطالة هنا أولئك الذين يتركون العمل لفتراتٍ قصيرةٍ عند تغيير العمل، وأولئك اللذين يجبرون على ترك العمل فترات أطول، بسبب التغيرات الموسمية، وأولئك الذين لا يدخلون سوق العمل أصلًا، بسبب الانكماش الاقتصادي.
وقد تناول علماء النفس ظاهرة البطالة بالدراسة والبحث، واقترحت نماذج نظرية لتفسير سلوك الشخص المتعطل، ومن أهم هذه النماذج نموذج بلم Blum، الذي يقترح أن سلوك البطالة يمر بثلاثة مراحل أساسية، هي:
1- شعور بالصدمة، حتى ولو كان هناك تحذير مبكر بفقدان العمل، أو عدم توافر فرصة, وفي هذه المرحلة، يسترجع المرء متوالية الأحداث التي أدت به إلى البطالة، ويبرر الحكمة في ترك العمل، أو عدم الدخول فيه أساسًا "سوء بيئة العمل، سوء التعليم، إلخ". وسرعان ما يستقر على رأي، أنه يمكنه الاستفادة من إجازة أو راحة، هو في حاجة إليها "بعد فترة عمل أو تعليم طويلة", ويتبع ذلك تقدير لقدراته، وصياغة خطط للسعي نحو الحصول على عمل.
2- البحث الجدي والنشط عن عمل، وعادةً ما يبدأ معظم المتعطلين في البحث عن عملٍ أفضل من عملهم السابق، أو البحث عن عملٍ مشابهٍ له إذا أعيتهم الحيل واستمرت البطالة, ومع مرور الوقت وضغط الحاجة إلى العمل يبدأون في البحث عن أيّ عمل, وفي هذه الفترة، يعاني المرء من مشاعر الفشل والإحباط والتعاسة، ومع ذلك فإنه لا يفقد الأمل في النجاح.
- المرحلة النهائية أو مرحلة الانهيار، فمع استمرار الفشل في الحصول على عمل، بعد طول البحث عنه، يبدأ المرء في الوقوع في أسر مشاعر القلق والتشاؤم وفقدان الأمل.
وبعض الأشخاص يمرون بهذه المراحل بسرعة أو ببطء، ويتوقف ذلك على خبرات النجاح والفشل في كل مرحلة منها، كما أن المشاعر السلبية تزداد لدى أولئك اللذين لديهم خبرات نجاح في الماضي "مهنيًّا أو تعليميًّا"، أكثر من خبرات للفشل، ولعل هذا يدعم الدعوة إلى التزام الدولة بتعيين أوائل الخريجين.
ماذا عن الآثار النفسية للبطالة؟ فيما يلي، نلخص نتائج البحوث التي أجريت في هذا الصدد:
1- فقدان الشعور بالأمن اقتصاديًّا وسيكولوجيًّا.
2- التوجه أولًا نحو لوم الذات على الحال التي عليها المتعطل، ثم الانتقال إلى تكوين اتجاهٍ عدوانيٍّ نحو الظروف التي أنشأت هذه الحال.
3- المعاناة من مشكلة معالجة الوقت، فالشخص العامل تتمركز أنشطته اليومية حول العمل الذي يستغرق القسط الأكبر من وقت نشاطه، أما المتعطل فإن الوقت يُعَدُّ عبئًا ثقيلًا عليه.
4- اختلال النظام اليومي للحياة الأسرية، فتضطرب مواقيت النوم واليقظة والأكل، مع شعور بالضياع والخسران.
5- السعي نحو إخفاء حالة التعطل في البداية، فيُلَاحَظُ على المتعطل أنه يغادر منزله في موعد العمل اليومي، يعود إليه في موعد العودة المعتاد، ويستغل وقته إما في البحث عن عمل، أو التجول العشوائي, ومن الطريف أن البحوث التي أجريت على المتعطلين في بريطانيا -أثناء فترة الانكماش الاقتصادي الكبير "في أوائل الثلاثينات"- لوحظ أنهم لم يكونوا يترددون على المقاهي والبارات، وهي خالية خلال ساعات العمل، وإنما في أوقات الذروة، مع خروج العاملين من أعمالهم.
6- إنفاق العاطلين يتم بطريقة غير معقولة، ومعظم الإنفاق يكون على الكماليات، وهو نوعٌ من سلوك المجازفة أو المخاطرة تتسم به جميع الحالات الحرجة "المرضى، المستويات الاقتصادية/ الاجتماعية المنخفضة" والتي تسمى at risk cases.
- اللجوء إلى الخيال وأحلام اليقظة، كحيلٍ دفاعية، أو الهرب من الموقف، من خلال الأمراض السيكوسوماتية, وقد يلجأ البعض إلى المصارف غير القانونية، وقد يتحول البعض إلى التطرف في السلوك، ونادرًا ما يلجأون إلى الانتحار أو الإدمان, ومع ذلك فإن أغلبية المتعطلين، يظلون مواطنين صالحين.
8- زيادة حِدَّةِ البطالة لدى عضو الأسرة المسئول عن الإنفاق عليها، فعادةًَ ما يشعر بالمشاعر السلبية "كالإكتئاب" إذا تغيرت اتجاهات المحيطين به من الأهل والأقارب والأصدقاء، من التعاطف والفهم، إلى النقد والرفض "باعتباره كاسب لقمة العيش".
9- تكثيف العادات اليومية للمتعطل، والتي تُعَدُّ تغيرًا سيكولوجيًّا هامًّا، فالقارئ -أثناء العمل- يزداد قراءة أثناء التعطل، والمتدين يزداد تدينًا، وهكذا.
10- انعكاس البطالة على شعور الأطفال بعدم الأمن والقلق، مما ينعكس -بدوره- على رب الأسرة المتعطل، على نحوٍ يؤدي إلى خفض معنوياته، وضعف سلطته الوالدية.
11- من أهم التغيرات في شخصية المتعطل، انخفاض الروح المعنوية، ونقص التوازن الانفعالي، وزيادة التعصب والتحامل "مع ظاهرة كبش الفداء", وزيادة مشاعر النقص.