د توالت وتعددت النعوت التي وصف بها هذا العصر الذي نعيش فيه، فهو عصر الآلة، وعصر القلق، وعصر الذرة، وعصر الكومبيوتر، وآخر هذه النعوت، وليس أقلها دلالة، هو عصر الشيزوفرينيا. ذلك أن الإنسان المعاصر قد أخذ يظهر من مظاهر السلوك والتفكير ما له أن يكشف عن الخلل والإضطراب في حياته النفسية والعقلية، وقد لا يكون ذلك من طبيعة العقل الإنساني، بقدر ما هو تعبير عن وطأة الحياة المعاصرة وصعوبة التكيف على مقتضياتها والتعايش مع متطلباتها. ويرى الكثيرون، كما نرى، بأن صراع الإنسان من أجل تقرير وتأكيد هويته وذاته في وجه ما لا يتحمل من فروض الواقع وضغوطه، قد أخذ يفيض عن مقدرة الإنسان على تحمله، وهو لذلك قد أصبح بالضرورة أقل ثقة بنفسه، وأكثر إنطواء عليها، وأسرع مطاوعة لدوافع العنف، وأقل عاطفة وتعاطفاً مع الغير، وأقل إهتماماً وإكتراثاً بما يجري حوله، أو توجهاً نحو المستقبل والإعداد له، وهو يتصرف في الكثير من الأحيان بصورة غير مألوفة وغير متوقعة، وبدون التقيد بالقدر الكافي من العقلانية، وجميعها مظاهر تتم عن عدم التماسك والترابط، إن لم يكن الإنقسام والتكسر في مقوماته النفسية والعقلية، وهذه حالة فيها الكثير من أوجه الشبه مع الفرد الشيزوفريني، والذي يجد في واقع حياته أكثر مما يستطيع تقبله وملاقاته وتحمله، وهو بذلك يصدف عنه، ويخلق لنفسه عالماً آخر من أحلامه مما هو أقل وطأة وخطراً وإرهاقاً. ومع أن هذا الواقع لا يعني بالضرورة بأن الحالات المرضية الشيزوفرينية هي في هذا العصر أكثر وقوعاً مما مضى من العصور، إلا أن الحالات المرضية الشيزوفرينية هي في أن هذا العصر أكثر وقوعاً مما مضى من العصور، ألا أن الحالات الحدودية منها والتي تقع بين حدود الصحة والمرض، هي الآن أكثر مما كانت عليه في أي وقت مضى، مما يؤكد الرأي بأن الإنسان المعاصر أصبح يعيش فترة حرجة في حياته، وبأن نفسه قد انقسمت من داخلها، وهو بسبب ذلك قد أصبح إلى حد كالشيزوفريني، لا يستطيع القول بأنه "هو"، وحتى لو قال؛ فإنه كالذي ينظر إلى وجهه في مرآة مكسرة، لا يستطيع تبين هويته بوضوح.