تداول الناس كثيراً في أحاديثهم كلمة الانتحار، حتى ليمكن الظن بأن معناها معروف من الجميع، وأن تعريفها لا طائل منه. غير أن كلمات اللغة المستعملة، مثلها مثل المفاهيم التي تعبر عنها غالباً ما يشوبها الغموض في الواقع. لذا فإن العالم الذي يستعملها مثلما يسمعها من ألسن الناس،دون أن يخضعها لتمثيلات أخرى يتعرض لأفدح الالتباسات. ليس فقط لأن مفهومها فضفاض يصعب تحديده، حيث أنه يتغير من حالة إلى أخرى بحسب مقاصد الكلام، بل لأن التصنيف الذي تنتج عنه لا يصدر عن تحليل منهجي أيضاً ولكنه ينقل فقط انطباعات مبهمة لدى العامة من الناس، وهو ما يفضي دوماً إلى جمع طائفة من الظواهر متباينة أشد التباين تحت عنوان واحد، دونما تمييز، أو إلى تسمية وقائع ذات طبيعة واحدة بأسماء شتى. فإذا انسقنا إذن وراء المفهوم الشائع فنحن نجازف بأن نميز ما ينبغي أن يكون ملتبساً، أو نغلف بالغموض ما ينبغي أن يكون متميزاً، فنهمل على هذا النحو القرابة الحقيقية بين الأشياء، ونسيء بالتالي، فهم طبيعتها. فنحن لا نفسر الأشياء إلا عن طريق المقارنة بينها. لذا فإن أي بحث علمي لا يمكنه بلوغ غايته إلا إذا استند إلى حوادث قابلة للمقارنة، وهو لا يدرك النجاح إلا بقدر ما يكون أكثر ضماناً لجمع كافة الحوادث التي يمكن مقارنتها، بعضها ببعض، بنحوناجح. غير أن تلك القرابة الطبيعية بين الكائنات يتعذر الوصول إليها وفهمها بنحو يقيني عبر معاينة سطحية على غرار تلك التي ينتج عنها المصطلح العامي الشائع. وهكذا فإن العالم لا يسعه أن يتخذ، كموضوعات لأبحاثه مجموعات الحوادث التامة التكوين حسبما تتداولها كلمات اللغة الشائعة ولكنه ملزم بأن يكوّن هو نفسه مجموعات الحوادث التي يرغب بدراستها، ابتغاء أن يمنحها المجانسة والخصوصية اللازمتين لها كي يتمكن من معالجتها معالجة علمية. على هذا الغرار، فإن عالم النبات، حين يتحدث عن الأزهار أو الثمار، وعالم الحيوان حينما يتحدث عن الأسماك أو الحشرات يختاران مختلف تلك الألفاظ بالمعاني التي كان عليهما تحديدها مسبقاً.