ارتبكت اكتأبت تشوشت وانتهت إلى مواجهة الحائط أمامها بإعلان نتائج الجولة الأولى للانتخابات
الرئاسية التي انتهت بمرشحين أولهما د.مرسي ممثل التيار الديني،والفريق شفيق ولقبضة الدولة
العميقة بكل أذرعها الأخطبوطية، من أمن الدولة وفخاخ الحزب الوطني المنحل وأباطرة الفساد في
كل ثغرة وكل قصر، وكل ع ّ شة من أرض مصر.
الشخصية المصرية مارد خارج من القمقم يبحث عن اتجاه، وعن طريق بعد أن نام في شوارعها
ال مضمخة بالدماء، وبات في سجونها مع زينة شبابها، ورغم هيبة هذا المارد وجبروته وعنفوانه إلا
أنه بالفعل (تعبان وغلبان) .. وكما قالت إحدى الصحف الفرنسية هذا المارد مضطرلأن يختار ما
بين الكوليرا والطاعون، ومن ثم لا يختار وإن اختار، سيمضي بكل إرادته إلى التيه، ويصبح
كالضفدع في الأرض الخراب.
بعد أن نام في العسل دهو را، وبعد أن استوعبت شخصيته الغزاة والطامعين، أدرك هذا الشعب
الرائع عظمته بإدراكه الحقيقة وكسره للطوق، وسط عالم ملئ بالمتناقضات، عالم مر ّ كب، معقد،
صعب التكهن به وبمعطياته، وصار كل هذا وذاك أكبر مصدر للتشوش وحالة الإجهاد والانهاك
والإعياء، بين طوابير العيش وأنابيب الغاز والانفلات الأمني، والجو النفسي العقابي جزا ءا له على
تمرده على نعمة الصمت الغبي والاستقرار المزيف، في عهود من ج روه إلى هدر المال والأرض
والانسان في اليمن وسيناء وداخل عبارة السلام ، 98 وعلى شواطئ الهجرة غير الشرعية.
لكن هذه الشخصية الطموح كما المارد، ض مت جروحها ولملمت أطرافها، لم تنكفئ على ذاتها
وأخرجت أحلى وأقذر ما فيها، صوتت وتقيأت وتهيأت،للضابط الذي قد يفهم والضابط المتنمر الذي
يتوق إلى رقبة أخيه المصري ليقبض روحه، وإذا تطرقنا عميقًا إلى تعقد تركيبة الشخصية المصرية
بقدر ما يدور حولها من غموض، وما يحاك لها من خطط شيطانية لتدميرها،ولا يتم فهم ما يدور
وما يدار إ ّ لا بتصور وضع كل القوى رغب ً ة أو عنوة على أريكة التحليل النفسي، وتحدي دا هؤلاء
الذين يمثلون وجه مصر ثلاثي الأبعاد العسكر، التيار الديني، والثوار.
المصري واقفا على قدميه وسط تيارات مضطربة كموج بحر عاصف يقف مارد الهوى جهنمي
الهوية بمعنى قدرته البارعة على الحفاظ على استقلاليته، محافظًا على ذاته حرة بعيدًا عن كل ما
يدور من خبائث بمعنى (الثوري الخالص) أو (العسكري المخلص) أو (المحافظ اليميني الوطني
البراجماتي البار) أو (المنتمي روحًا وعقيدة للتيار الديني ) ... وبين كل هؤلاء لا هذا ولا ذلك يمثل
نفسه ونفسه تلك ليست بالهينة إطلاقًا لكنها تضع حدودها الواضحة، والحيز حول المصري مهم
وأهميته تكمن أيضًا في وضوح خطة الفاصل وحدوده الحادة كفصل السيف وفي نفس الوقت هذه
الحدود بين المصري وبين الآخر لها وظيفتين، ان تكون له علاقة طيبة مع عالم الآخر (عدم كان أم
حبيب) أصبح المصري يسعى لمعرفة عالم الآخر الجديد الذي ظهر أمامه فجأة في واقع أكثر من
جديدية هذه (Novelty) مختلف، هنا جاء التنظيم الذاتي لشخصية المصري طبيعيا، تلقائيا، تفهم
الأرض التي حرثتها الثورة بعيون أبنائها وأطرافهم وأشلائهم وروتها بدمائهم، غذى هذا واقعًا
مختلفًا بكل ما فيه من احباط من عدم تحقق الدولة الحديثة التي تغدق الخير كله على كل الناس
وتفتح أبواب العمل وتحل المشاكل كلها دون عقبات.
بزوغ الشخصية المصرية من تحت الجلد لم يكن ظهور الشخصية جديدة بقدر ما كان كشفًا
وجلا ءا ومس حاللتراب الذي غطى الجوهرة بكل مالها وما عليها، فثورة 25 يناير لم تكن ثورة على
الأب بقدر ما كانت ثورة على البيت والأرض، وشكل العلاقات في التداول والتجارة التعامل
والتبادل والتواصل الانساني بين البشر، بينهم وبين الزمان والمكان، ثورة على النموذج النمطي في
البيئة المحيطة؛ فعندما آن أوان الزرع كان البذر والحرث والري، وعندما آن أوان الحصاد كان
السعي والهضم والافراز، وإخراج السموم كل السموم، والفضلات.
استعاد الشعب الثقة بنفسه من خلال مراحل تطور شخصيته، في مواجهة عصابات القتل والخطف
والتعذيب، النهب المنظم، سرقة الروح وإفسادها والهيمنة على ثروات الوطن وعلى أغلى وظائفه
وأراضيه لصالح خفافيش الدولة العميقة، من ضباط أمن دولة ورجال أعمال فاسدين وميشيليات مسلحة
في شكل حراسات وقوى أمنية خاصة، وكذلك في تنظيمات البلطجة المعروفة والتي يملك قاعدة بياناتها
أفراد بعينهم في عمق الدولة العميقة،يحميهم ويدللهم مجموعات الحزب الوطني المنحل.
إن تطور الشخصية المصرية في العقدين الأخيرين، بل تحدي دا في الإثنى عشر سنة الماضية،
قد م ر بمراحل تُعرف في علم النفس الاجتماعي بالثماني مراحل للتطور (الصحي والطبيعي)
بحسب نظريات إريكسون؛ فالمرحلة الأولى: الآمال ويحكمها ذلك الصراع بين جدلية الثقة واللائقة
آمال التحرر من قبضة الديكتاتورية التي أسستها جمهورية عبدالناصر بإلقاء الدستور في سلة
المهملات في 1954 ، ونشر الحكم الفردي المتغطرس في مؤسسات الدولة منذ أواخر الخمسينيات
وسيطرتهم على المؤسسات على الأرض والناس، مما أفقد الناس الأمل في حياة حرة كريمة خارج
ذلكالإطار الديكتاتوري المرتدي بزة وطنية وشعارات وطنية، كسرتها هزيمة 1967 لكن لم تؤثر
على هيمنتها بقدر ما ع ززت وجودها المهترئ، ليفقد المصري كل ثقته في المؤسسة العسكرية
برموزها كلها، واستمرارها بالسادات، ثم بترسيخها وتغ ولها في عهد مبارك، بل أنها ع مقت فجوة
الشك وعدم الأمان؛ فالناس كالأطفال إذا منعت الأم عنهم لبنها خاصموها، ولم يتمكنوا من مصالحة
العالم بعد ذلك، هل يمكنني أنا المصري من الوثوق في حال الدنيا بأم الدنيا مصر بعد كل هذه
الانتفاضات من المحلة الكبرى في 6 ابريل 2006 إلى اضرابات اسمنت السويس إلى حركة كفاية
وصبرها واصرارها، هل يمكنني الوثوق بثورتي التي رفعت رأسي وحررتني من أغلالي، أم أنني
عائد بصندوق انتخابات خبيث لا تطمئن له القلوب، ولحكم مهد الأرض وأنهك الناس لكي يطل
عليهم رجل مبارك الأولبأصوات أكثر.
يقتضي أمر الوثوق بأي فصيل وطني أو ديني يقدم نفسه على أنه المنقذ جهدًا كبيرًا، ويحتاج
المصري في إطار تطوره الجديد إلى أن يثق بنفسه وبقدراته، ليس بقدراته على الحشد فقط؛ وانما
على الاستمرار والعناد، وأن يظل متمر سا يستحيل أكل لحمه الم ر.
لم تعرف الشخصية المصرية تفاع ً لا مع الآخر، مثلما حدث في الفترة الأخيرة منذ اندلاع ثورة 25
يناير 2011 وحتى الآن، على كافة المستويات وفي المدن الكبرى كالعاصمة القاهرة، الاسكندرية
والسويس، وإن غاب الصعيد وإن تفتت الأصوات؛ فإن المصري اكتسب لنفسه ولصوته ولشخصيه،
عمقًا آخر جدي د اقويا شامخًا، وفي نفس الحين فإن شخصية المصري الانتهازي فاسد الروح
الجبان القلب، تع مقت وتجّذرت أكثر واتخذت أساليب جديدة، فيها دهاء واستخدام جديد للتكنولوجيا،
توجيه للإعلام ولشرائه بعنف لا يكبح جماحه الثوار، لضيق الذات اليد، ولطهارة الروح ونقائها.
ما يحكم الانسان المصري في تكوين شخصيته، يعتمد في الأساس على إحساسه بما يسمى ب "عدم
فهذا أمر فيصل، لأن السنوات الأولى للحياة هي الفترة ،Parental Insecurity الأمان الوالدي
الحساسة لتكوين الشخصية، فإذا افتقد فيها الطفل أمانه الوالدي بسفر أحدهما جلبا للمال، أو انشغال أمه
بالعمل وتحقيق ذاتها العملية والأكاديمية في وجه الغول الاستهلاكي وفي وجه إهمال الزوج والمجتمع،
مما يؤدي إلى التضحية بالنشء والإلقاء بهم إلى الخادمات الأجنبيات والحضانات الفاقدة للضمير
والتربية، أو للجدة التي تدلل ونتيجة لفارق السن القاسي بين الجدود والأحفاد، يفقد الولد أو البنت هويته
ثم ،Bullying ويترك نهبا لكلاب السكك، فيتعرض للتحرش الجنسي والاعتداء البدني والترهيب
لاحقًا في سنوات الجامعة، نتيجة لضعف الأنا لديه، ولافتقاده ذلك الأمان خرسانة الشخصية
الأساسية يعوج لسانه، تتبعثر شخصيته وتتشظى، وتظهر عيوبه جلية، رغم تفوقه وتخرجه من
الجامعة الأمريكية بالقاهرة مث ً لا (حالة من العيادة النفسية) .. ينكفئ على ذاته، يجرع الخمر دون هوادة
ودون استمتاع، يقضي الليل والنهار مع بائعات الهوى بحثًا عن أمان،ولكنه يفصح في جلسة
السيكودراما (مسرح علاجي نفسي بدون نص يج سد شخصية المصري في حيرته)، يعرب عن ضياع
هويته وعدم قدرته على الإمساك بها؛ فيقول صائ حاودون خوف (أنا أفضل الهجرة إلى إسرائيل عن
المكوث على أرض مصر) .. ومثله آخر انهارت على مقربة منه عمارة في مدينة نصر، لم يتمكن
من الإمساك بدينه، افترق والداه بالطلاق وعاش معذبا في خضم الضلالات وعنف الاكتئاب.
إن الطفل الذي تذوق طعم الفساد من والديه الفاسدين أص ً لا، أو تم افسادهم عبر عمليات تلقائية تعليمية
من البيئة المحيطة، هذا الطفل نما وش ب على الُقبح، وهناك ما يسمى (الوصفة) في تحويل الولد إلى
(فت وة) أو (بلطجي)، فهذا الفتى الأصغر من 13 سنة (مث ً لا) .. أبواه ذا مزاج عصبي وأسلوب خشن
في التربية، ويذهب إلى مدرسة تتسم بالعنف، الهروب، تعاطي المخدرات، قلة الأدب، الفشل والتحدي
الاعتراضي، الانتماء لشّلة التعدي على المدرسين أو التحرش بهم،في مدرسة تتسم بفقدان الضبط
والربط، تسير بالواسطة والمجاملات والهدايا والرشاوي وقهر الضعيف، هذا الفتى يكثر من لعب
(البلاي استيشن) التي يتلذذ فيها بالقتل والتحطيم والتدمير؛ وكذلك فإنه يذهب للنادي أو الجيم المحلي،
يهتم بجسده أكثر من عقله، يعلمه أبوه وخاله أن العالم خطر والفتوة والبلطجي هو الذي يشق طريقه
بنجاح، وتعلمه أمه أن يكبت انفعالاته فلايبكي إذا احتاج لأن يبكي؛ فيكبت في نفسه؛ فتتورم ذاته
ويصبح مكتو ما منفوخ العضلات سيئ الخلق، إذا اشتكى منه الناس في الح ي والمدرسة أيده أهله،
واختلقوا له الأعذار (لازم استفزوك)، يلبس زي سوبرمان وسبيدرمان، ويتخذ علامات الوشم الخاصة
بالمصارعيين قبيحي الشكل شديدي القبضة، هذا هو نموذج تكوين وتطور الشخصية التي تستحلي
وتستمرئ طعم الفساد في الأكل، والنهم في الفلوس التي لا أول لها ولا آخر، نموذج يأخذ ولا يعطي،
يعتمد على سطوته في يده سنجته مطوته سلاحه وعصابته ولسانه الطويل، هذا النموذج المنتشر في
مصر يكذب ويسرق ولا يندم، نموذج لم نره في ميدان التحرير ولا في تجمعات الثورة الشريفة، لكنه
انتشر في تجمعات البلطجية المعروفين للداخلية والمخابرات، وزادهم هؤلاء الجدد الذين أفرزهم انتقام
الانفلات الأمني بالظهور من عباءة نواديهم وأسرهم، ثم استغلال هذا الشكل القبيح هنا وهناك، لكن
هؤلاء ليسوا خشني المظهر والأيدي، وذوي وجوه سمراء معفرة بالتراب، إنهم أيضًا بيض البشرة
رائعي الهندام مهندمي المظهر، يرتدون أروع البذلات الايطالية والنظارات الشمسية الفخمة ويضعون
البارفانات الباريسية ويتزينون بأروع أربطة العنق ومعهم لاب توب و(كاش كثير)، هم أحيانا بكروش
وسيجار.. هؤلاء هم النموذج الآخر المعادي للثورة، نموذج موجود من زمان ارتسم في فصيل
معروف للناس (بلطجية مصر في هذا الزمان للناس اللي فوق والناس اللي تحت)، السادة والعبيدة،
وسادة العبيد الذين يصيرون سادة. هؤلاء يمثلون جانبًا شديد الأهمية للبعد الأكثر شرًا في الشخصية
المصرية، بعد عصابي التشكيل، لا يتورع عن الترشيح لتمثيل الشعب أو لتبوأ مناصب حساسة مثل
رئاسة الجامعة أو الوزارة أو حتى الجمهورية.
عمليات الأيض أي الأكل .. التناول .. الهضم والتمثيل الغذائي .. تمثل في تصورنا (ميتافور)..
استعارة للفهم النفسي لما يدور حولنا، وكأن المصريون يقضمون قطعًا متساوية من كعك العيد، وفي
نفس الوقت في خضم الثورة وبعدها وحتى الآن يأخذون ويعطون في علاقاتهم مع بعضهم البعض
على عكس ما قبل الثورة، صاروا يختلفون وينتقدون، يدافعون سويا ويتسامرون لي ً لا بالأسلحة،
مدافعين عن البيت والعرض، صاروا أكثر حميمية وصاروا يتندرون ويغنون ويتداخلون أكثر من
الأول، نشأت بينهم ومعهم، علاقات في طوابير الانتخابات أيا كانت نتائجها، في المواصلات العامة
والخاصة اقتسموا الخبز والماء وحتى اللحظات الأخيرة مثل كتابة هذه السطور وزعت السيدات
على الرجال تحت الشمس ما ءا يروي عطشهم.. سمحوا للكبير والعاجز، بالتقدم صاحت النسوة
بالاعتراض على زيارة المشير للموقع الانتخابي، صار الناس أعلى صوتًا وأكثر كرامة وازدادوا
بها ءا وزه وا .. تقاسموا الحلوى وتبادلوا اللقمة والفكرة، دندنوا بالأغنية والتهبت أكفهم بالتصفيق
سويا، مسحوا دموع بعضهم البعض، وانصهروا في بوتقة الثورة، لتَخرج لنا شخصية مصرية
أكثر نضجًا ووعيأ وجما ً لا ورونقًا وإبداعًا. وكأنهم وهم يمضغون كعك الأعياد الدينية وكعك
الثورة وفطيرة الرحمة للشهداء المبللة بالعرق والدم، والمزينة بصور الجرافيتي، وعيون الأبطال
مقابل ذلك السام والضار الذي عرفوه وحفظوه، وعاهدوا الله والوطن على أن يحاربوه وأن ينبذوه،
للأبد .. بل وأقسموا على أن يقتصوا منه، قصا صا عاد ً لا.
أخذ المصريون في صدورهم كل هذا العبق والغذاء والنداء وتساموا به في عقولهم، فصاروا على
اختلاف مشاربهم أقوى وأكثر صب را واحتما ً لا.
تعلموا التفسير والتأويل، المواجهة، التحدي والتصدي لكل حيل أعدائهم أيا كانوا، من خدعوهم
بحمايتهم، أو من طمعوا في طيبتهم، أو من قتلوا أولادهم واقتنصوا عيونهم وذبحوا بنيهم في
مباريات كرة القدم.
هنا تبلورت الشخصية المصرية، وبدت في روعتها أكثر تألقًا، صار قرارها مه ً ما وتذوقها جمي ً لا،
له طعم خاص ونكهة خاصة .. صارت أكثر وضو حاللعالم تحت الشمس، تسير في خيلاء رغم كل
شيء، استوعبت الشخصية المصرية تاريخها من الشارع، تعّلمت فيه ومنه .. من أزيز الرصاص
ورائحة الدخان وصوت القنابل، وسوءات الجنود وحيل البلطجية وعقم الساسة على كراسيهم.
اتخذت الشخصية المصرية في تطورها من اللجان الشعبية، إلى مشاهدي الشاشات الصغيرة شك ً لا
جديدًا، سمح ميدان التحرير كرمز لميادين مصر كلها بعملية دمج خطيرة، بين الأرض والناس،
وصارت هناك مسارات وعيون وجداول، بين روح الثورة وبين المصريين في ذاكرتهم في أحلامهم
في نومهم، صور الشهداء الصور ذات المعنى والدلالة، كل تلك المشاهد التي هي في حد ذاتها
راسمة لملامح الشخصية، كتلك المحجبة التي تصيح رافعة علامة النصر وذلك الذي يرفع راية
النصر في وجه النار ولم تسلم تلك الصور من دلالات.
تحت عنوان (البطرياركية العربية والفطام المحرم وجهات نظر العدد 87 - أبريل 2006
للكاتب خيري منصور) .. صورة كاريكاتيرية رسمها بدقة بالغة سعد الدين شحاتة، لجنرال حاكم
متجهم متغطرس مفعم بالأوسمة والأسلحة، يرضع طف ً لا مهم ً لا مرّتق الثياب ر ّ ث المظهر، يرضعه
حليب الخوف والصمت والانكسار والتعذيب،جنرال له شوارب مفتولة ويدخن سيجارًا ضخمًا.
وعلى الرغم من أن الطرح جدير بالفهم العميق المتأني، لا لشيئ إلا أنه ببساطة يرى تلك الأبوية
فى نماذجها العربية، معاد ً لا عضويا للوصاية وتأجيل سن الرشد، ويحدد ما قد نراه صحي حا للغاية.
إن ما يضاعف خطر الديمومة لتلك البطرياركية العربية هو إدمانها شعبيًا، وتأقلم الأجيال معها،
إلى درجة أنها كانت قد أوشكت أن تتحول إلى قدر (بعد ثورة 25 يناير 2012 أن الشعب بدا ولو
وقتيا قد تخّلى عن إدمانه لتلك الأبوة العقيمة، تحداها ورفضها رف ضا قاط عا، ويرى فى توصيف
رائع حالة الامتثال والقبول بمواصلة الرضاعة، (حتي فى الشيخوخة)، وبالتالي تحريم الفطام...
يقابلها حالة الانفصال التي يعيشها مثقفون وفنانون، كالعودة إلى رضاعة الأصبع الجاف غير الواعد
بقطرة حليب واحدة كمقابل لمحاولة الفطام بما تحوي من تردد وعدم حسم وعدم يقين، وعدم نمو
واكتمال الشخصية المصرية.
عن (ملامح الشخصية المصرية)، وليس هناك أوقع من ثلاث حالات حقيقية لشباب نهضوا من
سرير النوم والمرض والخوف والاكتئاب والوسواس ليصرخوا في وجه الظلم والظلام وليشفوا تماما
من أمراضهم.
الأول:
شاب قبطي عمرة 24 سنة درس الهندسة وقرض الشعر، عمل بالعمل العام، صال وجال وتاه
واعترض واستسلم وعانى من اضطراب الخوف المرضى المعروف باسم (الفوبيا) المصحوب بنوبات
الهلع أي الرهاب بمعنى الخوف غير المبرر من الخروج من الغرفة، من البيت، من الشارع، من
الحي، من المنطقة، حتى لو داخل سيارة، باختصار كان يعانى من إعاقة حياتية شديدة حالت بينة وبين
أمور كثيرة كلقيا الأصدقاء أو الذهاب لحفلة أو للكلية، عاود معالجين و أطباء نفسيين كثيرين، تناول
العقاقير المطمئنة والمضادة للخوف، حضر جلسات العلاج بالتمثيل المسرحي (السيكودراما)، نام على
الشيزلونج وباح بمعظم أسرارة لمعالجيه وجسد صراعاته ومثل خوفه في رعب وهول شديدين، نهض
من فراشه، جلس على مكتبه وعزفت أنامله على الكيبورد سيمفونية التحرير، كان منتميا بعراقة،
أصيلا بجسارة، وكما قالوا نقل واقعه الافتراضى على الفيسبوك إلى الميدان وتلقى 63 شظية من
الخرطوش في الجمعة 28 يناير 2011 ، قاد المظاهرات في وجه الظلم والفساد والطغيان، كنت وما
زلت متواصلا معه بشكل يومي، لمست فيه الغضب والثورة والابداع غنينا ترانيمه في قداس أحد
التحرير، هذا الجميل يمتد كالنخلة ويرمى بالثمار حوله، ناوشه الاكتئاب عندما هدأت الدنيا، لكنه
ضحك منه وعليه وما زال البطل يرتاد الساحة الفيسبوكية، يغنى ويرقص بانتظام
الثانى:
كان هلعا يخشى الموت وكأنه أقرب منه من زوجته وأولاده، حقن وتناول الأقراص والعلاج
المعرض السلوكي بالمنطق والفهم، مثل دوره في (السيكودراما) داخل تابوت، ارتعش غطى العرق
جسده وكأنه المطر في الغابات الاستوائية، مضي إلى مكان عمله قرب الميدان، قال الإمام في ختام
الصلاة: السلام عليكم ورحمه الله وبركاته على اليمين، وإلى اليسار أدار وجه مع جموع المصلين،
وقال السلام عليكم ولم يكمل ورحمة الله وبركاته، فلقد باغتته القنابل ذات الوجوه الثلاث، واحدة
نراها دائما بدخان كثيف ثعباني أبيض يسيل الدموع، الثانية تفرقع ثم تصمت وغالبا تسرب غازا
يبعث بالدوخة، أما الثالثة فهي تقفز هنا وهناك محدثة أصوات مخيفة للغاية، خرج الذي هو
المفروض مريض بالخوف وصدره أمامه للقوات الآثمة بعد صلاة جمعة الغضب في 28 يناير
والثالثة عليها نجمة داوود. U.S.A 2011 ولاقاني ومعه ثلاث فوارغ اثنان مصنوعتان في
أما الثالث:
فكان موسو سا بالفكرة الزنانة، لم تعجبه البلد ولم يعجبه النظام، لو وجد قمامة داراها بعينيه، ولو
شاهد حريقًا صغيرا حاول إطفاءه قدر إمكانه ومن حوله ينظرون إليه في بلاهة. انتظر عشرة أيام
ثم نزل إلى الميدان طي ر في الهواء علب دوائه ووساوسه وآلامه واحباطاته، صرخ في الموبايل (ما
أحلى الحرية، تشفى، ما أجمل الثورة تصلب العود وترفع الهامة) .
ُترى ما الذي حدث ؟؟أطلقت الثورات كل الطاقات المكبوتة !
لكن هل بالفعل كثير من الناس الذين خرجوا ليس في الميادين وحده كانوا يعانون من آلام
جسدية ونفسية ج مة خرجت مع الهتاف والصراخ والدعابة. الثورة كانت على النفس أولا على فكر
الهزيمة.
من خلال كل عمليات أكل كعك عيد الثورة وأفكارها حريتها وهضمه وتمثيله جلوكوز وأكسوجين،
ومايليه من طرد السموم والفضلات، يصل المصري إلى (الاتزان النفسي) (التوازن في النفس مه م
جدًا، كما هو مه م في كلّ شيء؛ كما أ ن أدنى اختلال في توازن الأشياء قد يؤدي إلى تح ّ طمها أو
خرابها، فكذلك الحال مع النفس بوصف السيد صادق الحسيني).إنها الايقاع الطبيعي الذي يحكم
العلاقات القائمة بين الطبيعة والانسان من جهة، وبين الإنسان ونفسه من جهة ثانية، من هنا تتأكد
أهمية التوازن للأشياء وللانسان م عا، وأن أي اختلال في هذا الجانب، سينعكس على سلوك الفرد ثم
على المجتمع بر مته، لهذا يدخل جانب التوازن النفسي بوضوح في البناء المجتمعي السليم، كما يؤكد
الحسيني(إ ن النفس الإنسانية دقيقة ج دا وسريعة التأثر إلى درجة كبيرة، فهي كالنابض الذي يهبط
لأدنى ضغط ويرتفع بارتفاعه بسرعة، مثلما لو تب سم َ ت في وجه شخ ٍ ص ما، فسوف تنبسط أساريره
ويتعامل معك باّتزان، ث م لو عبست في وجهه بعد ذلك، تراه يفقد وعيه ويختلّ توازنه ولا تعود
معاملته لك كما كانت آنفًا، ولا يعذرك أو يحتمل وجود سبب ما لعبوسك).. وهذا بالضبط ما حدث
وما تم قيل وإبان وبعد ثورة 25 يناير 2012 بين المصري والآخر، في الميادين والبيوت
والشوارع وأماكن العمل، غير أن الاتزان سرعان ما عاد في مواقف شّتى أدت إلى الاحباط والتخّلى
ولو مرحليا عن روح وأخلاق الميدان.
ولا ينحصر التوازن في جانب محدد، بشري أو سواه، بل هناك حالة من التناغم والانسجام سادت
بين الانسان ونفسه من جهة، وبين الانسان وما يقع خارجه من كائنات أو أشياء أخرى، لأن
الاختلال في عملية التوازن تقود الى نتائج مؤسفة بل و مدمرة أحيانًا، ليس على مستوى الأفراد
فحسب وانما على مستوى المجتمعات أيضا، وهذا ما رأيناه في مشاهد عدة ومظاهر
خطيرة
تحميل الملف كاملا
http://adf.ly/FrMPF
الرئاسية التي انتهت بمرشحين أولهما د.مرسي ممثل التيار الديني،والفريق شفيق ولقبضة الدولة
العميقة بكل أذرعها الأخطبوطية، من أمن الدولة وفخاخ الحزب الوطني المنحل وأباطرة الفساد في
كل ثغرة وكل قصر، وكل ع ّ شة من أرض مصر.
الشخصية المصرية مارد خارج من القمقم يبحث عن اتجاه، وعن طريق بعد أن نام في شوارعها
ال مضمخة بالدماء، وبات في سجونها مع زينة شبابها، ورغم هيبة هذا المارد وجبروته وعنفوانه إلا
أنه بالفعل (تعبان وغلبان) .. وكما قالت إحدى الصحف الفرنسية هذا المارد مضطرلأن يختار ما
بين الكوليرا والطاعون، ومن ثم لا يختار وإن اختار، سيمضي بكل إرادته إلى التيه، ويصبح
كالضفدع في الأرض الخراب.
بعد أن نام في العسل دهو را، وبعد أن استوعبت شخصيته الغزاة والطامعين، أدرك هذا الشعب
الرائع عظمته بإدراكه الحقيقة وكسره للطوق، وسط عالم ملئ بالمتناقضات، عالم مر ّ كب، معقد،
صعب التكهن به وبمعطياته، وصار كل هذا وذاك أكبر مصدر للتشوش وحالة الإجهاد والانهاك
والإعياء، بين طوابير العيش وأنابيب الغاز والانفلات الأمني، والجو النفسي العقابي جزا ءا له على
تمرده على نعمة الصمت الغبي والاستقرار المزيف، في عهود من ج روه إلى هدر المال والأرض
والانسان في اليمن وسيناء وداخل عبارة السلام ، 98 وعلى شواطئ الهجرة غير الشرعية.
لكن هذه الشخصية الطموح كما المارد، ض مت جروحها ولملمت أطرافها، لم تنكفئ على ذاتها
وأخرجت أحلى وأقذر ما فيها، صوتت وتقيأت وتهيأت،للضابط الذي قد يفهم والضابط المتنمر الذي
يتوق إلى رقبة أخيه المصري ليقبض روحه، وإذا تطرقنا عميقًا إلى تعقد تركيبة الشخصية المصرية
بقدر ما يدور حولها من غموض، وما يحاك لها من خطط شيطانية لتدميرها،ولا يتم فهم ما يدور
وما يدار إ ّ لا بتصور وضع كل القوى رغب ً ة أو عنوة على أريكة التحليل النفسي، وتحدي دا هؤلاء
الذين يمثلون وجه مصر ثلاثي الأبعاد العسكر، التيار الديني، والثوار.
المصري واقفا على قدميه وسط تيارات مضطربة كموج بحر عاصف يقف مارد الهوى جهنمي
الهوية بمعنى قدرته البارعة على الحفاظ على استقلاليته، محافظًا على ذاته حرة بعيدًا عن كل ما
يدور من خبائث بمعنى (الثوري الخالص) أو (العسكري المخلص) أو (المحافظ اليميني الوطني
البراجماتي البار) أو (المنتمي روحًا وعقيدة للتيار الديني ) ... وبين كل هؤلاء لا هذا ولا ذلك يمثل
نفسه ونفسه تلك ليست بالهينة إطلاقًا لكنها تضع حدودها الواضحة، والحيز حول المصري مهم
وأهميته تكمن أيضًا في وضوح خطة الفاصل وحدوده الحادة كفصل السيف وفي نفس الوقت هذه
الحدود بين المصري وبين الآخر لها وظيفتين، ان تكون له علاقة طيبة مع عالم الآخر (عدم كان أم
حبيب) أصبح المصري يسعى لمعرفة عالم الآخر الجديد الذي ظهر أمامه فجأة في واقع أكثر من
جديدية هذه (Novelty) مختلف، هنا جاء التنظيم الذاتي لشخصية المصري طبيعيا، تلقائيا، تفهم
الأرض التي حرثتها الثورة بعيون أبنائها وأطرافهم وأشلائهم وروتها بدمائهم، غذى هذا واقعًا
مختلفًا بكل ما فيه من احباط من عدم تحقق الدولة الحديثة التي تغدق الخير كله على كل الناس
وتفتح أبواب العمل وتحل المشاكل كلها دون عقبات.
بزوغ الشخصية المصرية من تحت الجلد لم يكن ظهور الشخصية جديدة بقدر ما كان كشفًا
وجلا ءا ومس حاللتراب الذي غطى الجوهرة بكل مالها وما عليها، فثورة 25 يناير لم تكن ثورة على
الأب بقدر ما كانت ثورة على البيت والأرض، وشكل العلاقات في التداول والتجارة التعامل
والتبادل والتواصل الانساني بين البشر، بينهم وبين الزمان والمكان، ثورة على النموذج النمطي في
البيئة المحيطة؛ فعندما آن أوان الزرع كان البذر والحرث والري، وعندما آن أوان الحصاد كان
السعي والهضم والافراز، وإخراج السموم كل السموم، والفضلات.
استعاد الشعب الثقة بنفسه من خلال مراحل تطور شخصيته، في مواجهة عصابات القتل والخطف
والتعذيب، النهب المنظم، سرقة الروح وإفسادها والهيمنة على ثروات الوطن وعلى أغلى وظائفه
وأراضيه لصالح خفافيش الدولة العميقة، من ضباط أمن دولة ورجال أعمال فاسدين وميشيليات مسلحة
في شكل حراسات وقوى أمنية خاصة، وكذلك في تنظيمات البلطجة المعروفة والتي يملك قاعدة بياناتها
أفراد بعينهم في عمق الدولة العميقة،يحميهم ويدللهم مجموعات الحزب الوطني المنحل.
إن تطور الشخصية المصرية في العقدين الأخيرين، بل تحدي دا في الإثنى عشر سنة الماضية،
قد م ر بمراحل تُعرف في علم النفس الاجتماعي بالثماني مراحل للتطور (الصحي والطبيعي)
بحسب نظريات إريكسون؛ فالمرحلة الأولى: الآمال ويحكمها ذلك الصراع بين جدلية الثقة واللائقة
آمال التحرر من قبضة الديكتاتورية التي أسستها جمهورية عبدالناصر بإلقاء الدستور في سلة
المهملات في 1954 ، ونشر الحكم الفردي المتغطرس في مؤسسات الدولة منذ أواخر الخمسينيات
وسيطرتهم على المؤسسات على الأرض والناس، مما أفقد الناس الأمل في حياة حرة كريمة خارج
ذلكالإطار الديكتاتوري المرتدي بزة وطنية وشعارات وطنية، كسرتها هزيمة 1967 لكن لم تؤثر
على هيمنتها بقدر ما ع ززت وجودها المهترئ، ليفقد المصري كل ثقته في المؤسسة العسكرية
برموزها كلها، واستمرارها بالسادات، ثم بترسيخها وتغ ولها في عهد مبارك، بل أنها ع مقت فجوة
الشك وعدم الأمان؛ فالناس كالأطفال إذا منعت الأم عنهم لبنها خاصموها، ولم يتمكنوا من مصالحة
العالم بعد ذلك، هل يمكنني أنا المصري من الوثوق في حال الدنيا بأم الدنيا مصر بعد كل هذه
الانتفاضات من المحلة الكبرى في 6 ابريل 2006 إلى اضرابات اسمنت السويس إلى حركة كفاية
وصبرها واصرارها، هل يمكنني الوثوق بثورتي التي رفعت رأسي وحررتني من أغلالي، أم أنني
عائد بصندوق انتخابات خبيث لا تطمئن له القلوب، ولحكم مهد الأرض وأنهك الناس لكي يطل
عليهم رجل مبارك الأولبأصوات أكثر.
يقتضي أمر الوثوق بأي فصيل وطني أو ديني يقدم نفسه على أنه المنقذ جهدًا كبيرًا، ويحتاج
المصري في إطار تطوره الجديد إلى أن يثق بنفسه وبقدراته، ليس بقدراته على الحشد فقط؛ وانما
على الاستمرار والعناد، وأن يظل متمر سا يستحيل أكل لحمه الم ر.
لم تعرف الشخصية المصرية تفاع ً لا مع الآخر، مثلما حدث في الفترة الأخيرة منذ اندلاع ثورة 25
يناير 2011 وحتى الآن، على كافة المستويات وفي المدن الكبرى كالعاصمة القاهرة، الاسكندرية
والسويس، وإن غاب الصعيد وإن تفتت الأصوات؛ فإن المصري اكتسب لنفسه ولصوته ولشخصيه،
عمقًا آخر جدي د اقويا شامخًا، وفي نفس الحين فإن شخصية المصري الانتهازي فاسد الروح
الجبان القلب، تع مقت وتجّذرت أكثر واتخذت أساليب جديدة، فيها دهاء واستخدام جديد للتكنولوجيا،
توجيه للإعلام ولشرائه بعنف لا يكبح جماحه الثوار، لضيق الذات اليد، ولطهارة الروح ونقائها.
ما يحكم الانسان المصري في تكوين شخصيته، يعتمد في الأساس على إحساسه بما يسمى ب "عدم
فهذا أمر فيصل، لأن السنوات الأولى للحياة هي الفترة ،Parental Insecurity الأمان الوالدي
الحساسة لتكوين الشخصية، فإذا افتقد فيها الطفل أمانه الوالدي بسفر أحدهما جلبا للمال، أو انشغال أمه
بالعمل وتحقيق ذاتها العملية والأكاديمية في وجه الغول الاستهلاكي وفي وجه إهمال الزوج والمجتمع،
مما يؤدي إلى التضحية بالنشء والإلقاء بهم إلى الخادمات الأجنبيات والحضانات الفاقدة للضمير
والتربية، أو للجدة التي تدلل ونتيجة لفارق السن القاسي بين الجدود والأحفاد، يفقد الولد أو البنت هويته
ثم ،Bullying ويترك نهبا لكلاب السكك، فيتعرض للتحرش الجنسي والاعتداء البدني والترهيب
لاحقًا في سنوات الجامعة، نتيجة لضعف الأنا لديه، ولافتقاده ذلك الأمان خرسانة الشخصية
الأساسية يعوج لسانه، تتبعثر شخصيته وتتشظى، وتظهر عيوبه جلية، رغم تفوقه وتخرجه من
الجامعة الأمريكية بالقاهرة مث ً لا (حالة من العيادة النفسية) .. ينكفئ على ذاته، يجرع الخمر دون هوادة
ودون استمتاع، يقضي الليل والنهار مع بائعات الهوى بحثًا عن أمان،ولكنه يفصح في جلسة
السيكودراما (مسرح علاجي نفسي بدون نص يج سد شخصية المصري في حيرته)، يعرب عن ضياع
هويته وعدم قدرته على الإمساك بها؛ فيقول صائ حاودون خوف (أنا أفضل الهجرة إلى إسرائيل عن
المكوث على أرض مصر) .. ومثله آخر انهارت على مقربة منه عمارة في مدينة نصر، لم يتمكن
من الإمساك بدينه، افترق والداه بالطلاق وعاش معذبا في خضم الضلالات وعنف الاكتئاب.
إن الطفل الذي تذوق طعم الفساد من والديه الفاسدين أص ً لا، أو تم افسادهم عبر عمليات تلقائية تعليمية
من البيئة المحيطة، هذا الطفل نما وش ب على الُقبح، وهناك ما يسمى (الوصفة) في تحويل الولد إلى
(فت وة) أو (بلطجي)، فهذا الفتى الأصغر من 13 سنة (مث ً لا) .. أبواه ذا مزاج عصبي وأسلوب خشن
في التربية، ويذهب إلى مدرسة تتسم بالعنف، الهروب، تعاطي المخدرات، قلة الأدب، الفشل والتحدي
الاعتراضي، الانتماء لشّلة التعدي على المدرسين أو التحرش بهم،في مدرسة تتسم بفقدان الضبط
والربط، تسير بالواسطة والمجاملات والهدايا والرشاوي وقهر الضعيف، هذا الفتى يكثر من لعب
(البلاي استيشن) التي يتلذذ فيها بالقتل والتحطيم والتدمير؛ وكذلك فإنه يذهب للنادي أو الجيم المحلي،
يهتم بجسده أكثر من عقله، يعلمه أبوه وخاله أن العالم خطر والفتوة والبلطجي هو الذي يشق طريقه
بنجاح، وتعلمه أمه أن يكبت انفعالاته فلايبكي إذا احتاج لأن يبكي؛ فيكبت في نفسه؛ فتتورم ذاته
ويصبح مكتو ما منفوخ العضلات سيئ الخلق، إذا اشتكى منه الناس في الح ي والمدرسة أيده أهله،
واختلقوا له الأعذار (لازم استفزوك)، يلبس زي سوبرمان وسبيدرمان، ويتخذ علامات الوشم الخاصة
بالمصارعيين قبيحي الشكل شديدي القبضة، هذا هو نموذج تكوين وتطور الشخصية التي تستحلي
وتستمرئ طعم الفساد في الأكل، والنهم في الفلوس التي لا أول لها ولا آخر، نموذج يأخذ ولا يعطي،
يعتمد على سطوته في يده سنجته مطوته سلاحه وعصابته ولسانه الطويل، هذا النموذج المنتشر في
مصر يكذب ويسرق ولا يندم، نموذج لم نره في ميدان التحرير ولا في تجمعات الثورة الشريفة، لكنه
انتشر في تجمعات البلطجية المعروفين للداخلية والمخابرات، وزادهم هؤلاء الجدد الذين أفرزهم انتقام
الانفلات الأمني بالظهور من عباءة نواديهم وأسرهم، ثم استغلال هذا الشكل القبيح هنا وهناك، لكن
هؤلاء ليسوا خشني المظهر والأيدي، وذوي وجوه سمراء معفرة بالتراب، إنهم أيضًا بيض البشرة
رائعي الهندام مهندمي المظهر، يرتدون أروع البذلات الايطالية والنظارات الشمسية الفخمة ويضعون
البارفانات الباريسية ويتزينون بأروع أربطة العنق ومعهم لاب توب و(كاش كثير)، هم أحيانا بكروش
وسيجار.. هؤلاء هم النموذج الآخر المعادي للثورة، نموذج موجود من زمان ارتسم في فصيل
معروف للناس (بلطجية مصر في هذا الزمان للناس اللي فوق والناس اللي تحت)، السادة والعبيدة،
وسادة العبيد الذين يصيرون سادة. هؤلاء يمثلون جانبًا شديد الأهمية للبعد الأكثر شرًا في الشخصية
المصرية، بعد عصابي التشكيل، لا يتورع عن الترشيح لتمثيل الشعب أو لتبوأ مناصب حساسة مثل
رئاسة الجامعة أو الوزارة أو حتى الجمهورية.
عمليات الأيض أي الأكل .. التناول .. الهضم والتمثيل الغذائي .. تمثل في تصورنا (ميتافور)..
استعارة للفهم النفسي لما يدور حولنا، وكأن المصريون يقضمون قطعًا متساوية من كعك العيد، وفي
نفس الوقت في خضم الثورة وبعدها وحتى الآن يأخذون ويعطون في علاقاتهم مع بعضهم البعض
على عكس ما قبل الثورة، صاروا يختلفون وينتقدون، يدافعون سويا ويتسامرون لي ً لا بالأسلحة،
مدافعين عن البيت والعرض، صاروا أكثر حميمية وصاروا يتندرون ويغنون ويتداخلون أكثر من
الأول، نشأت بينهم ومعهم، علاقات في طوابير الانتخابات أيا كانت نتائجها، في المواصلات العامة
والخاصة اقتسموا الخبز والماء وحتى اللحظات الأخيرة مثل كتابة هذه السطور وزعت السيدات
على الرجال تحت الشمس ما ءا يروي عطشهم.. سمحوا للكبير والعاجز، بالتقدم صاحت النسوة
بالاعتراض على زيارة المشير للموقع الانتخابي، صار الناس أعلى صوتًا وأكثر كرامة وازدادوا
بها ءا وزه وا .. تقاسموا الحلوى وتبادلوا اللقمة والفكرة، دندنوا بالأغنية والتهبت أكفهم بالتصفيق
سويا، مسحوا دموع بعضهم البعض، وانصهروا في بوتقة الثورة، لتَخرج لنا شخصية مصرية
أكثر نضجًا ووعيأ وجما ً لا ورونقًا وإبداعًا. وكأنهم وهم يمضغون كعك الأعياد الدينية وكعك
الثورة وفطيرة الرحمة للشهداء المبللة بالعرق والدم، والمزينة بصور الجرافيتي، وعيون الأبطال
مقابل ذلك السام والضار الذي عرفوه وحفظوه، وعاهدوا الله والوطن على أن يحاربوه وأن ينبذوه،
للأبد .. بل وأقسموا على أن يقتصوا منه، قصا صا عاد ً لا.
أخذ المصريون في صدورهم كل هذا العبق والغذاء والنداء وتساموا به في عقولهم، فصاروا على
اختلاف مشاربهم أقوى وأكثر صب را واحتما ً لا.
تعلموا التفسير والتأويل، المواجهة، التحدي والتصدي لكل حيل أعدائهم أيا كانوا، من خدعوهم
بحمايتهم، أو من طمعوا في طيبتهم، أو من قتلوا أولادهم واقتنصوا عيونهم وذبحوا بنيهم في
مباريات كرة القدم.
هنا تبلورت الشخصية المصرية، وبدت في روعتها أكثر تألقًا، صار قرارها مه ً ما وتذوقها جمي ً لا،
له طعم خاص ونكهة خاصة .. صارت أكثر وضو حاللعالم تحت الشمس، تسير في خيلاء رغم كل
شيء، استوعبت الشخصية المصرية تاريخها من الشارع، تعّلمت فيه ومنه .. من أزيز الرصاص
ورائحة الدخان وصوت القنابل، وسوءات الجنود وحيل البلطجية وعقم الساسة على كراسيهم.
اتخذت الشخصية المصرية في تطورها من اللجان الشعبية، إلى مشاهدي الشاشات الصغيرة شك ً لا
جديدًا، سمح ميدان التحرير كرمز لميادين مصر كلها بعملية دمج خطيرة، بين الأرض والناس،
وصارت هناك مسارات وعيون وجداول، بين روح الثورة وبين المصريين في ذاكرتهم في أحلامهم
في نومهم، صور الشهداء الصور ذات المعنى والدلالة، كل تلك المشاهد التي هي في حد ذاتها
راسمة لملامح الشخصية، كتلك المحجبة التي تصيح رافعة علامة النصر وذلك الذي يرفع راية
النصر في وجه النار ولم تسلم تلك الصور من دلالات.
تحت عنوان (البطرياركية العربية والفطام المحرم وجهات نظر العدد 87 - أبريل 2006
للكاتب خيري منصور) .. صورة كاريكاتيرية رسمها بدقة بالغة سعد الدين شحاتة، لجنرال حاكم
متجهم متغطرس مفعم بالأوسمة والأسلحة، يرضع طف ً لا مهم ً لا مرّتق الثياب ر ّ ث المظهر، يرضعه
حليب الخوف والصمت والانكسار والتعذيب،جنرال له شوارب مفتولة ويدخن سيجارًا ضخمًا.
وعلى الرغم من أن الطرح جدير بالفهم العميق المتأني، لا لشيئ إلا أنه ببساطة يرى تلك الأبوية
فى نماذجها العربية، معاد ً لا عضويا للوصاية وتأجيل سن الرشد، ويحدد ما قد نراه صحي حا للغاية.
إن ما يضاعف خطر الديمومة لتلك البطرياركية العربية هو إدمانها شعبيًا، وتأقلم الأجيال معها،
إلى درجة أنها كانت قد أوشكت أن تتحول إلى قدر (بعد ثورة 25 يناير 2012 أن الشعب بدا ولو
وقتيا قد تخّلى عن إدمانه لتلك الأبوة العقيمة، تحداها ورفضها رف ضا قاط عا، ويرى فى توصيف
رائع حالة الامتثال والقبول بمواصلة الرضاعة، (حتي فى الشيخوخة)، وبالتالي تحريم الفطام...
يقابلها حالة الانفصال التي يعيشها مثقفون وفنانون، كالعودة إلى رضاعة الأصبع الجاف غير الواعد
بقطرة حليب واحدة كمقابل لمحاولة الفطام بما تحوي من تردد وعدم حسم وعدم يقين، وعدم نمو
واكتمال الشخصية المصرية.
عن (ملامح الشخصية المصرية)، وليس هناك أوقع من ثلاث حالات حقيقية لشباب نهضوا من
سرير النوم والمرض والخوف والاكتئاب والوسواس ليصرخوا في وجه الظلم والظلام وليشفوا تماما
من أمراضهم.
الأول:
شاب قبطي عمرة 24 سنة درس الهندسة وقرض الشعر، عمل بالعمل العام، صال وجال وتاه
واعترض واستسلم وعانى من اضطراب الخوف المرضى المعروف باسم (الفوبيا) المصحوب بنوبات
الهلع أي الرهاب بمعنى الخوف غير المبرر من الخروج من الغرفة، من البيت، من الشارع، من
الحي، من المنطقة، حتى لو داخل سيارة، باختصار كان يعانى من إعاقة حياتية شديدة حالت بينة وبين
أمور كثيرة كلقيا الأصدقاء أو الذهاب لحفلة أو للكلية، عاود معالجين و أطباء نفسيين كثيرين، تناول
العقاقير المطمئنة والمضادة للخوف، حضر جلسات العلاج بالتمثيل المسرحي (السيكودراما)، نام على
الشيزلونج وباح بمعظم أسرارة لمعالجيه وجسد صراعاته ومثل خوفه في رعب وهول شديدين، نهض
من فراشه، جلس على مكتبه وعزفت أنامله على الكيبورد سيمفونية التحرير، كان منتميا بعراقة،
أصيلا بجسارة، وكما قالوا نقل واقعه الافتراضى على الفيسبوك إلى الميدان وتلقى 63 شظية من
الخرطوش في الجمعة 28 يناير 2011 ، قاد المظاهرات في وجه الظلم والفساد والطغيان، كنت وما
زلت متواصلا معه بشكل يومي، لمست فيه الغضب والثورة والابداع غنينا ترانيمه في قداس أحد
التحرير، هذا الجميل يمتد كالنخلة ويرمى بالثمار حوله، ناوشه الاكتئاب عندما هدأت الدنيا، لكنه
ضحك منه وعليه وما زال البطل يرتاد الساحة الفيسبوكية، يغنى ويرقص بانتظام
الثانى:
كان هلعا يخشى الموت وكأنه أقرب منه من زوجته وأولاده، حقن وتناول الأقراص والعلاج
المعرض السلوكي بالمنطق والفهم، مثل دوره في (السيكودراما) داخل تابوت، ارتعش غطى العرق
جسده وكأنه المطر في الغابات الاستوائية، مضي إلى مكان عمله قرب الميدان، قال الإمام في ختام
الصلاة: السلام عليكم ورحمه الله وبركاته على اليمين، وإلى اليسار أدار وجه مع جموع المصلين،
وقال السلام عليكم ولم يكمل ورحمة الله وبركاته، فلقد باغتته القنابل ذات الوجوه الثلاث، واحدة
نراها دائما بدخان كثيف ثعباني أبيض يسيل الدموع، الثانية تفرقع ثم تصمت وغالبا تسرب غازا
يبعث بالدوخة، أما الثالثة فهي تقفز هنا وهناك محدثة أصوات مخيفة للغاية، خرج الذي هو
المفروض مريض بالخوف وصدره أمامه للقوات الآثمة بعد صلاة جمعة الغضب في 28 يناير
والثالثة عليها نجمة داوود. U.S.A 2011 ولاقاني ومعه ثلاث فوارغ اثنان مصنوعتان في
أما الثالث:
فكان موسو سا بالفكرة الزنانة، لم تعجبه البلد ولم يعجبه النظام، لو وجد قمامة داراها بعينيه، ولو
شاهد حريقًا صغيرا حاول إطفاءه قدر إمكانه ومن حوله ينظرون إليه في بلاهة. انتظر عشرة أيام
ثم نزل إلى الميدان طي ر في الهواء علب دوائه ووساوسه وآلامه واحباطاته، صرخ في الموبايل (ما
أحلى الحرية، تشفى، ما أجمل الثورة تصلب العود وترفع الهامة) .
ُترى ما الذي حدث ؟؟أطلقت الثورات كل الطاقات المكبوتة !
لكن هل بالفعل كثير من الناس الذين خرجوا ليس في الميادين وحده كانوا يعانون من آلام
جسدية ونفسية ج مة خرجت مع الهتاف والصراخ والدعابة. الثورة كانت على النفس أولا على فكر
الهزيمة.
من خلال كل عمليات أكل كعك عيد الثورة وأفكارها حريتها وهضمه وتمثيله جلوكوز وأكسوجين،
ومايليه من طرد السموم والفضلات، يصل المصري إلى (الاتزان النفسي) (التوازن في النفس مه م
جدًا، كما هو مه م في كلّ شيء؛ كما أ ن أدنى اختلال في توازن الأشياء قد يؤدي إلى تح ّ طمها أو
خرابها، فكذلك الحال مع النفس بوصف السيد صادق الحسيني).إنها الايقاع الطبيعي الذي يحكم
العلاقات القائمة بين الطبيعة والانسان من جهة، وبين الإنسان ونفسه من جهة ثانية، من هنا تتأكد
أهمية التوازن للأشياء وللانسان م عا، وأن أي اختلال في هذا الجانب، سينعكس على سلوك الفرد ثم
على المجتمع بر مته، لهذا يدخل جانب التوازن النفسي بوضوح في البناء المجتمعي السليم، كما يؤكد
الحسيني(إ ن النفس الإنسانية دقيقة ج دا وسريعة التأثر إلى درجة كبيرة، فهي كالنابض الذي يهبط
لأدنى ضغط ويرتفع بارتفاعه بسرعة، مثلما لو تب سم َ ت في وجه شخ ٍ ص ما، فسوف تنبسط أساريره
ويتعامل معك باّتزان، ث م لو عبست في وجهه بعد ذلك، تراه يفقد وعيه ويختلّ توازنه ولا تعود
معاملته لك كما كانت آنفًا، ولا يعذرك أو يحتمل وجود سبب ما لعبوسك).. وهذا بالضبط ما حدث
وما تم قيل وإبان وبعد ثورة 25 يناير 2012 بين المصري والآخر، في الميادين والبيوت
والشوارع وأماكن العمل، غير أن الاتزان سرعان ما عاد في مواقف شّتى أدت إلى الاحباط والتخّلى
ولو مرحليا عن روح وأخلاق الميدان.
ولا ينحصر التوازن في جانب محدد، بشري أو سواه، بل هناك حالة من التناغم والانسجام سادت
بين الانسان ونفسه من جهة، وبين الانسان وما يقع خارجه من كائنات أو أشياء أخرى، لأن
الاختلال في عملية التوازن تقود الى نتائج مؤسفة بل و مدمرة أحيانًا، ليس على مستوى الأفراد
فحسب وانما على مستوى المجتمعات أيضا، وهذا ما رأيناه في مشاهد عدة ومظاهر
خطيرة
تحميل الملف كاملا
http://adf.ly/FrMPF