إن تاريخ الأمراض النفسية والعقلية يوضح لنا التطور والتقدم الذي لاحق هذا الفرع من الطب في الآونة الأخيرة ....
فبعد أن كانت الأمراض النفسية والعقلية شرا مستطيرا ، وسيطرة من أرواح خبيثة ، وعمل من أعمال الشيطان ، وكأنها من صنع قوى خارقة أوجدتها ، فكأنها حدثت نتيجة لسخط الآلهة ، ، أو إذا تم الشفاء منها وزالت ، فإنما يكون البرء منها نتيجة لرضا تلك الآلهة
وبعد أن كان المرضى يحرقون أحياء في الشوارع ، نظرا لتلوثهم بهذه الأرواح الشريرة ، فكان ينظر إليهم أحيانا أنهم أناس مغضوب عليهم من الآلهة ، أو كان ينظر إليهم بوصفهم أناسا منبوذين ... ولهذا فكثيرا ما كانوا يقتلون تخلصا منهم ومن الشياطين التي تلبستهم ، أما المحظوظين منهم ، ممن كانوا يكابدون حالات الجنون أخف وطأة ، فكانوا يحاطون بالرعاية ، ومن مظاهر تلك الرعاية أنهم كانت ٍتخلع عليهم الألبسة المزركشة ، وتزين هاماتهم بأكاليل الغار
بعد كل ذلك تطور هذا الفرع من الطب تدريجيا ، عندما جاء أبو قراط - في القرن الخامس قبل الميلاد - وقال : ليكن معلوما أن المخ يحتوي على مناطق محددة هي مواطن اللذة ، والانشراح ، والمرح ، والميل إلى اللهو ، من جهة ، ومن جهة أخرى ، فإنه يحتوي – في تلافيفه – على ما هناك من حزن ، وأسى ، وامتعاض ، وأسف ، وأنه بسبب ما يتعرض له الدماغ أحيانا من إعطاب ، يقع بعض الناس فرائس في شراك الجنون ، والهذيان ، وما يتعرض له الإنسان من مؤثرات ومخاوف تؤرقه ليل نهار ، ومصدر كل ذلك هو ما يصيب الدماغ من خلل .
ومن ملاحظات أبوقراط قوله ، مثلا ، إن أي عطب أو خلل يحصل بسبب صدمة معينة في أحد نصفي الدماغ ، يؤدي بدوره إلى حدوث تشنجات في الجانب الآخر من الجسم .
وقد قسم أبوقراط أنماط الجسم إلى أربعة هي :
1 – المزاج الدموي
2 – المزاج البلغمي
3 – المزاج الصفراوي
4 – المزاج السوداوي
وأضاف أبوقراط أن خصائص هذه الأمزجة ترتبط ارتباطا وثيقا بكل من البيئة الطبيعية – أي المناخ الجغرافي – وبتأثير العوامل الاجتماعية .
وقام أبوقراط بمحاولات حثيثة في معالجة الأمراض العقلية ، فلعلاج حالات الإدمان على الكحول مثلا ، أوصى باستخدام أسلوب العلاج بالتنفير : أي إحداث حالة من التقزز عند المريض ليبتعد عن الكحول وينفر منها ، وذلك بإعطاء المدمن جرعات من مادة مرة مقززة أو عن طريق فصده وإسالة دمه وهو في حالة سكره ، ليرى دمه يسيل فيرتبط في ذهنه منظر دمه بما يتعاطاه من شراب مسكر ن وبذلك يكره المادة التي أدمنها . وكان يقترح علاجا لبعض المرضى عقليا ونفسيا بأن يغيروا أماكنهم ، فتغيير المكان ، كما اقترح ، من شأنه أن يغير من الذكريات المؤلمة ، فينسى المريض آلامه وهمومه .
وقد أدى سقوط الإمبراطورية الرومانية إلى انحطاط في العلوم القديمة وتدهورها ، ولاسيما في الطب الذي أصابه الانتكاس والوهن . وكانت العصور الوسطى في أوربا فترة ظلام حالك ، حيث تم فيها إبعاد العلوم إلى زوايا الإهمال بسبب التعصب الديني آنذاك . ولكن بسبب ما تعرضت له حينذاك المراكز الثقافية الرومانية ، من حروب طاحنة ، ومن قحط وجدب ، ودمار وتدمير ، كل ذلك أدى إلى ركود العلم ، وتفشى الجهل ، وانتشار الظلام ، فصار الطب في قبضة قلة من الجهلة الذين كانوا لا يتورعون عن اتهام أي معترض على أساليبهم البالية في الطب تلك ، بالزندقة ، ومن ثم تعريضه إلى أفظع أنواع العقاب .
كان الاعتقاد السائد آنذاك أن الاضطرابات العقلية تصيب من يصاب بها بسبب مس من الشيطان يتخبطه ، فيتلبسه في إهابة ، أو أنها تنشأ نتيجة تعرض المرء للسحر الأسود ، أو التعرض للأرواح الشريرة ، وأن الشفاء من ذلك كله يكمن في وجوب تعذيب المرضى ، كما كان يظن المشعوذين واهمين .
ومن القرن الثالث حتى القرن الرابع عشر ، وفي الشرق ، كان الطب يخطو نحو مزيد من الارتقاء ، وأن كثيرا من العلماء الأوربيين قد نجوا مما كان يتهدد حياتهم من بلدانهم ، فلجأوا إلى بلدان حوض البحر المتوسط ، وبلاد فارس ، وفي بعض المحميات العربية الأخرى .
وفي القرن السادس عشر مثلا كانت هناك أفران قد أعدت خصيصا لغرض معالجة المرضى عقليا ، وفي تلك الأفران كان يؤتى بالمريض فيدس رأسه في ذلك الفرن الساخن ، مع بعض الكلمات تقال له قبيل ذلك الإجراء الخالي من المسحة الإنسانية : " في هذا الفرن ستشفى سريعا ، فيه يكمن شفاؤك ، وسرعان ما سيرتد إليك عقلك " .
وفي عصر النهضة حققت العلوم الطبيعية والعلوم الطبية تقدما سريعا وملحوظا . وفي هذه الأثناء وجدت آراء أبوقراط في الطب طريقها إلى الانتعاش من جديد ، فلم يعد ينظر إلى المصابين بالأمراض العقلية بأن بهم أرواحا شريرة تلبستهم فأفسدتهم ، ألا أن هؤلاء المرضى كانوا موضع ملامة ، وكانوا يحتجزون عادة مع عتاة المجرمين .
وعندما بدأت النظرة الإنسانية ، والتطور في العلاج - في أوائل القرن التاسع عشر - وظهر في الأفق علماء وهبوا أنفسهم لخدمة وتقدم هذا العلم ...
وفي أوروبا عامة ، وفي فرنسا خاصة - في القرن التاسع عشر - تطورت الاتجاهات نحو من يعانون من المرض النفسي أو العقلي تطورا كبيرا ، وذلك بفضل حملة جديدة حمل لواءها الطبيب الفرنسي " فيليب بينيل ، ومن بعده تلميذه " أسكويرول " الذي رفع في الطب النفسي شعار : ( أسعفوهم بالعلاج ، لا بالصدقات المتبوعة بالإزعاج ) ، ومنذ ذلك بدأ الناس ينظرون إليهم بأنهم أشخاص يحتاجون فعلا إلى علاج ، وعند ذاك تم تحويل السجون التي كانوا فيها يحتجزون ، إلى مستشفيات فيها يعالجون .
كان إنشاء مستشفيات متخصصة بالطب النفسي أن ترتب عليها معرفة ضخمة مكنت المختصين من استنباط نتائج جد ناجحة .
ففي عام ( 1822 ) كان الطبيب النفساني بيل قد وصف الشلل المستفحل لدى المريض وصفا دقيقا ، وقام أسكويرول بأول محاولة لتصنيف الأمراض النفسية ، وعرف خصائص أمراض الأوهام والهلوسات ، وأكد على أهمية العلامات الجسمية الدالة على مدى تدهور الحالات العقلية ، وذكر تشخيصات طبية تحقق منها هو أيضا ، وأكد كل من ديادوفسكي والينسكي دور العوامل البيئية في تسريع نشوء الذهانات والتسبب في وجودها لدى بعض الأفراد.
وفي القرن التاسع عشر كانت هناك مثل تلك الممارسات المستفظعة ، سارية المفعول وسائدة ، ومنها مثلا ، صب الماء البارد فوق رأس المريض وجسمه ، والفصد لإسالة الدم بغزارة ، والتدوير بسرعة كبيرة في مكائن خاصة أعدت خصيصا لهذا الغرض .
وبقي الحال كذلك إلى أن جاء الطبيب الألماني جريسنجر ( 1817 – 1868 ) الذي كان يصر على وجوب توجيه العناية في الطب النفسي إلى النواحي الجسمية في حالة نشوء الأمراض العقلية ، ومن هنا جاءت فكرة الدمج بين الطب النفسي والطب العام .
وفي نهاية القرن التاسع عشر طرأ تقدم ملحوظ في مجال البحوث الخاصة بفسلجة الجهاز العصبي وتشريحه ومعرفة وظائفه . كل ذلك أفضى إلى اكتشاف الوظائف الحركية في أنحاء متفرقة من أنسجة الجسم ، وأدى إلى التعرف على الإنعكاسات الحاصلة في الجملة العصبية من الجسم ، الأمر الذي أدى إلى تقدم ظاهر في مجالات علم النفس عامة والطب النفسي خاصة .
وما إن شارف القرن التاسع عشر على نهايته حتى كان هناك أطباء في ميدان الطب النفسي أمثال بلنسكي ( 1827 – 1902 ) من روسيا ، الذي قسم الأمراض العقلية إلى أمراض عصبية واضطرابات عقلية ، وكاندنسكي ( 1849 – 1889 ) الذي أدخل موضوع التحليل الفسيولوجي في تشخيص الاضطرابات العقلية ، وكورساكوف ( 1824 – 1900 ) الذي اكتشف بعض الأمراض العقلية والنفسية كالذهان العصبي المتعدد ، وهذا النوع من الذهان ينجم عادة من تعاطي الكحول وإدمانها ، حتى أن أصبح هذا المرض يعرف باسم(ذهان كورساكوف) .
وهناك إنجاز أخر تحقق على يدي كورساكوف ، ذلك هو التمييز بين نوعين من الضعف العقلي ( الضعف العقلي الولادي ، والضعف العقلي الطارئ الناجم عن أحداث البيئة بمختلف أعراضها وعوارضها ) وميز بين ( الضعف العقلي الولادي ، وبين ذهان الهوس الاكتئابي ) .
كل هذه التطورات قد رسخت مكانتها الجهود التي قام بها الطبيب النفساني الألماني كريبلن ( 1856 - 1926 ) ، إذ أنه عزز ما كان هناك من تصنيفات للأمراض العقلية وأكد عليها ، وبين كيف يمكن التصدي لمعالجتها للتخفيف مما يتعرض لويلاتها كثير من الناس في أنحاء العالم .
ولعل أكبر إسهام في ميدان الطب النفسي هو ما قام به الطبيب النفساني الألماني المرموق بونهايفر ( 1868 – 1948 ) الذي أكد على العوامل الخارجية التي تبدو أعراضها على المريض فيستشفي منها ومما يكمن وراءها من عوامل داخلية . وإذا ما أهملت هذه الأعراض فإنها تتفاعل فيما بينها فتفضي إلى ما يضر بالصحة النفسية والجسمية للمريض ، فتنشأ عن ذلك متلازمات Syndroms تحمل في طياتها أمراضا عقلية غير محددة ، تتخلخل من جرائها قوى العقل ، ولاسيما الجوانب اللاشعورية منه .
ومن الإسهامات البارزة في مجال الطب النفسي هو مبدأ بافلوف ( 1849 – 1936 ) المتعلق بالميكانزمات الفسيولوجية التي تحصل على شكل نشاط فعال في الجهاز العصبي الأعلى ، والذي ترتب على هذا المبدأ وجود علاقة مرضية مؤكدة بين الاضطرابات العقلية والاختلالات العصبية .
ونحن بصدد السياق التاريخي للطب النفسي ، فلا بد من التعريج على ذكر المدرسة الفرويدية ، ومؤسسها سيجموند فرويد ( 1856 - 1939 ) والذي استمد نظريته من خبراته الذاتية ، والمشاهدات الإكلينيكية ، وأماط اللثام عن الكثير من غياهب النفس البشرية ، وأفصح عن العمليات الشعورية واللاشعورية ، وفسر الأحلام ، وقد حلل الأسباب الرئيسية للأمراض النفسية والعقلية ، وأعطى تفسيرا واضحا للميكانيزمات الداخلية المسببة لهذه الأمراض .
ولاشك أن الكثير منا يتعرض يوميا لشدائد ، ولكن البعض يحتمل والبعض ينهار ، والبعض يصاب ببعض الأمراض النفسية والعقلية ... ومن الممكن أن يؤول هذا الاختلاف على أساس فروق فسيولوجية بين الأفراد ... فطريقة التعبير عن المرض بأعراض خاصة لاشك أنها تعتمد إلى حد كبير على شخصية الفرد ، على تطوره وتفاعله مع البيئة ... ولكن نشأة المرض تحتاج إلى استعداد فسيولوجي خاص ... ، لذلك فقد فسرت كل شكل من أشكال الاضطرابات العقلية بأنها تعزى إلى صراعات بين تطلعات الشعور وكوافي اللاشعور ، فهي تعتبر اللاشعور مستودعا تتراكم فيه وتتكتل غرائز عمياء ونزوات هوجاء تنبثق من مصدر الطاقة الجنسية ، وهي الطاقة التي تظنها هذه المدرسة فطرية ، وترافق مسيرة حياة الإنسان ، فتتحكم في جميع نشاطاته طول حياته ، لذلك فهي تسيطر حتى على الحياة الاجتماعية للفرد ، حسب اعتقاد المدرسة الفرويدية .
فبعد أن كانت الأمراض النفسية والعقلية شرا مستطيرا ، وسيطرة من أرواح خبيثة ، وعمل من أعمال الشيطان ، وكأنها من صنع قوى خارقة أوجدتها ، فكأنها حدثت نتيجة لسخط الآلهة ، ، أو إذا تم الشفاء منها وزالت ، فإنما يكون البرء منها نتيجة لرضا تلك الآلهة
وبعد أن كان المرضى يحرقون أحياء في الشوارع ، نظرا لتلوثهم بهذه الأرواح الشريرة ، فكان ينظر إليهم أحيانا أنهم أناس مغضوب عليهم من الآلهة ، أو كان ينظر إليهم بوصفهم أناسا منبوذين ... ولهذا فكثيرا ما كانوا يقتلون تخلصا منهم ومن الشياطين التي تلبستهم ، أما المحظوظين منهم ، ممن كانوا يكابدون حالات الجنون أخف وطأة ، فكانوا يحاطون بالرعاية ، ومن مظاهر تلك الرعاية أنهم كانت ٍتخلع عليهم الألبسة المزركشة ، وتزين هاماتهم بأكاليل الغار
بعد كل ذلك تطور هذا الفرع من الطب تدريجيا ، عندما جاء أبو قراط - في القرن الخامس قبل الميلاد - وقال : ليكن معلوما أن المخ يحتوي على مناطق محددة هي مواطن اللذة ، والانشراح ، والمرح ، والميل إلى اللهو ، من جهة ، ومن جهة أخرى ، فإنه يحتوي – في تلافيفه – على ما هناك من حزن ، وأسى ، وامتعاض ، وأسف ، وأنه بسبب ما يتعرض له الدماغ أحيانا من إعطاب ، يقع بعض الناس فرائس في شراك الجنون ، والهذيان ، وما يتعرض له الإنسان من مؤثرات ومخاوف تؤرقه ليل نهار ، ومصدر كل ذلك هو ما يصيب الدماغ من خلل .
ومن ملاحظات أبوقراط قوله ، مثلا ، إن أي عطب أو خلل يحصل بسبب صدمة معينة في أحد نصفي الدماغ ، يؤدي بدوره إلى حدوث تشنجات في الجانب الآخر من الجسم .
وقد قسم أبوقراط أنماط الجسم إلى أربعة هي :
1 – المزاج الدموي
2 – المزاج البلغمي
3 – المزاج الصفراوي
4 – المزاج السوداوي
وأضاف أبوقراط أن خصائص هذه الأمزجة ترتبط ارتباطا وثيقا بكل من البيئة الطبيعية – أي المناخ الجغرافي – وبتأثير العوامل الاجتماعية .
وقام أبوقراط بمحاولات حثيثة في معالجة الأمراض العقلية ، فلعلاج حالات الإدمان على الكحول مثلا ، أوصى باستخدام أسلوب العلاج بالتنفير : أي إحداث حالة من التقزز عند المريض ليبتعد عن الكحول وينفر منها ، وذلك بإعطاء المدمن جرعات من مادة مرة مقززة أو عن طريق فصده وإسالة دمه وهو في حالة سكره ، ليرى دمه يسيل فيرتبط في ذهنه منظر دمه بما يتعاطاه من شراب مسكر ن وبذلك يكره المادة التي أدمنها . وكان يقترح علاجا لبعض المرضى عقليا ونفسيا بأن يغيروا أماكنهم ، فتغيير المكان ، كما اقترح ، من شأنه أن يغير من الذكريات المؤلمة ، فينسى المريض آلامه وهمومه .
وقد أدى سقوط الإمبراطورية الرومانية إلى انحطاط في العلوم القديمة وتدهورها ، ولاسيما في الطب الذي أصابه الانتكاس والوهن . وكانت العصور الوسطى في أوربا فترة ظلام حالك ، حيث تم فيها إبعاد العلوم إلى زوايا الإهمال بسبب التعصب الديني آنذاك . ولكن بسبب ما تعرضت له حينذاك المراكز الثقافية الرومانية ، من حروب طاحنة ، ومن قحط وجدب ، ودمار وتدمير ، كل ذلك أدى إلى ركود العلم ، وتفشى الجهل ، وانتشار الظلام ، فصار الطب في قبضة قلة من الجهلة الذين كانوا لا يتورعون عن اتهام أي معترض على أساليبهم البالية في الطب تلك ، بالزندقة ، ومن ثم تعريضه إلى أفظع أنواع العقاب .
كان الاعتقاد السائد آنذاك أن الاضطرابات العقلية تصيب من يصاب بها بسبب مس من الشيطان يتخبطه ، فيتلبسه في إهابة ، أو أنها تنشأ نتيجة تعرض المرء للسحر الأسود ، أو التعرض للأرواح الشريرة ، وأن الشفاء من ذلك كله يكمن في وجوب تعذيب المرضى ، كما كان يظن المشعوذين واهمين .
ومن القرن الثالث حتى القرن الرابع عشر ، وفي الشرق ، كان الطب يخطو نحو مزيد من الارتقاء ، وأن كثيرا من العلماء الأوربيين قد نجوا مما كان يتهدد حياتهم من بلدانهم ، فلجأوا إلى بلدان حوض البحر المتوسط ، وبلاد فارس ، وفي بعض المحميات العربية الأخرى .
وفي القرن السادس عشر مثلا كانت هناك أفران قد أعدت خصيصا لغرض معالجة المرضى عقليا ، وفي تلك الأفران كان يؤتى بالمريض فيدس رأسه في ذلك الفرن الساخن ، مع بعض الكلمات تقال له قبيل ذلك الإجراء الخالي من المسحة الإنسانية : " في هذا الفرن ستشفى سريعا ، فيه يكمن شفاؤك ، وسرعان ما سيرتد إليك عقلك " .
وفي عصر النهضة حققت العلوم الطبيعية والعلوم الطبية تقدما سريعا وملحوظا . وفي هذه الأثناء وجدت آراء أبوقراط في الطب طريقها إلى الانتعاش من جديد ، فلم يعد ينظر إلى المصابين بالأمراض العقلية بأن بهم أرواحا شريرة تلبستهم فأفسدتهم ، ألا أن هؤلاء المرضى كانوا موضع ملامة ، وكانوا يحتجزون عادة مع عتاة المجرمين .
وعندما بدأت النظرة الإنسانية ، والتطور في العلاج - في أوائل القرن التاسع عشر - وظهر في الأفق علماء وهبوا أنفسهم لخدمة وتقدم هذا العلم ...
وفي أوروبا عامة ، وفي فرنسا خاصة - في القرن التاسع عشر - تطورت الاتجاهات نحو من يعانون من المرض النفسي أو العقلي تطورا كبيرا ، وذلك بفضل حملة جديدة حمل لواءها الطبيب الفرنسي " فيليب بينيل ، ومن بعده تلميذه " أسكويرول " الذي رفع في الطب النفسي شعار : ( أسعفوهم بالعلاج ، لا بالصدقات المتبوعة بالإزعاج ) ، ومنذ ذلك بدأ الناس ينظرون إليهم بأنهم أشخاص يحتاجون فعلا إلى علاج ، وعند ذاك تم تحويل السجون التي كانوا فيها يحتجزون ، إلى مستشفيات فيها يعالجون .
كان إنشاء مستشفيات متخصصة بالطب النفسي أن ترتب عليها معرفة ضخمة مكنت المختصين من استنباط نتائج جد ناجحة .
ففي عام ( 1822 ) كان الطبيب النفساني بيل قد وصف الشلل المستفحل لدى المريض وصفا دقيقا ، وقام أسكويرول بأول محاولة لتصنيف الأمراض النفسية ، وعرف خصائص أمراض الأوهام والهلوسات ، وأكد على أهمية العلامات الجسمية الدالة على مدى تدهور الحالات العقلية ، وذكر تشخيصات طبية تحقق منها هو أيضا ، وأكد كل من ديادوفسكي والينسكي دور العوامل البيئية في تسريع نشوء الذهانات والتسبب في وجودها لدى بعض الأفراد.
وفي القرن التاسع عشر كانت هناك مثل تلك الممارسات المستفظعة ، سارية المفعول وسائدة ، ومنها مثلا ، صب الماء البارد فوق رأس المريض وجسمه ، والفصد لإسالة الدم بغزارة ، والتدوير بسرعة كبيرة في مكائن خاصة أعدت خصيصا لهذا الغرض .
وبقي الحال كذلك إلى أن جاء الطبيب الألماني جريسنجر ( 1817 – 1868 ) الذي كان يصر على وجوب توجيه العناية في الطب النفسي إلى النواحي الجسمية في حالة نشوء الأمراض العقلية ، ومن هنا جاءت فكرة الدمج بين الطب النفسي والطب العام .
وفي نهاية القرن التاسع عشر طرأ تقدم ملحوظ في مجال البحوث الخاصة بفسلجة الجهاز العصبي وتشريحه ومعرفة وظائفه . كل ذلك أفضى إلى اكتشاف الوظائف الحركية في أنحاء متفرقة من أنسجة الجسم ، وأدى إلى التعرف على الإنعكاسات الحاصلة في الجملة العصبية من الجسم ، الأمر الذي أدى إلى تقدم ظاهر في مجالات علم النفس عامة والطب النفسي خاصة .
وما إن شارف القرن التاسع عشر على نهايته حتى كان هناك أطباء في ميدان الطب النفسي أمثال بلنسكي ( 1827 – 1902 ) من روسيا ، الذي قسم الأمراض العقلية إلى أمراض عصبية واضطرابات عقلية ، وكاندنسكي ( 1849 – 1889 ) الذي أدخل موضوع التحليل الفسيولوجي في تشخيص الاضطرابات العقلية ، وكورساكوف ( 1824 – 1900 ) الذي اكتشف بعض الأمراض العقلية والنفسية كالذهان العصبي المتعدد ، وهذا النوع من الذهان ينجم عادة من تعاطي الكحول وإدمانها ، حتى أن أصبح هذا المرض يعرف باسم(ذهان كورساكوف) .
وهناك إنجاز أخر تحقق على يدي كورساكوف ، ذلك هو التمييز بين نوعين من الضعف العقلي ( الضعف العقلي الولادي ، والضعف العقلي الطارئ الناجم عن أحداث البيئة بمختلف أعراضها وعوارضها ) وميز بين ( الضعف العقلي الولادي ، وبين ذهان الهوس الاكتئابي ) .
كل هذه التطورات قد رسخت مكانتها الجهود التي قام بها الطبيب النفساني الألماني كريبلن ( 1856 - 1926 ) ، إذ أنه عزز ما كان هناك من تصنيفات للأمراض العقلية وأكد عليها ، وبين كيف يمكن التصدي لمعالجتها للتخفيف مما يتعرض لويلاتها كثير من الناس في أنحاء العالم .
ولعل أكبر إسهام في ميدان الطب النفسي هو ما قام به الطبيب النفساني الألماني المرموق بونهايفر ( 1868 – 1948 ) الذي أكد على العوامل الخارجية التي تبدو أعراضها على المريض فيستشفي منها ومما يكمن وراءها من عوامل داخلية . وإذا ما أهملت هذه الأعراض فإنها تتفاعل فيما بينها فتفضي إلى ما يضر بالصحة النفسية والجسمية للمريض ، فتنشأ عن ذلك متلازمات Syndroms تحمل في طياتها أمراضا عقلية غير محددة ، تتخلخل من جرائها قوى العقل ، ولاسيما الجوانب اللاشعورية منه .
ومن الإسهامات البارزة في مجال الطب النفسي هو مبدأ بافلوف ( 1849 – 1936 ) المتعلق بالميكانزمات الفسيولوجية التي تحصل على شكل نشاط فعال في الجهاز العصبي الأعلى ، والذي ترتب على هذا المبدأ وجود علاقة مرضية مؤكدة بين الاضطرابات العقلية والاختلالات العصبية .
ونحن بصدد السياق التاريخي للطب النفسي ، فلا بد من التعريج على ذكر المدرسة الفرويدية ، ومؤسسها سيجموند فرويد ( 1856 - 1939 ) والذي استمد نظريته من خبراته الذاتية ، والمشاهدات الإكلينيكية ، وأماط اللثام عن الكثير من غياهب النفس البشرية ، وأفصح عن العمليات الشعورية واللاشعورية ، وفسر الأحلام ، وقد حلل الأسباب الرئيسية للأمراض النفسية والعقلية ، وأعطى تفسيرا واضحا للميكانيزمات الداخلية المسببة لهذه الأمراض .
ولاشك أن الكثير منا يتعرض يوميا لشدائد ، ولكن البعض يحتمل والبعض ينهار ، والبعض يصاب ببعض الأمراض النفسية والعقلية ... ومن الممكن أن يؤول هذا الاختلاف على أساس فروق فسيولوجية بين الأفراد ... فطريقة التعبير عن المرض بأعراض خاصة لاشك أنها تعتمد إلى حد كبير على شخصية الفرد ، على تطوره وتفاعله مع البيئة ... ولكن نشأة المرض تحتاج إلى استعداد فسيولوجي خاص ... ، لذلك فقد فسرت كل شكل من أشكال الاضطرابات العقلية بأنها تعزى إلى صراعات بين تطلعات الشعور وكوافي اللاشعور ، فهي تعتبر اللاشعور مستودعا تتراكم فيه وتتكتل غرائز عمياء ونزوات هوجاء تنبثق من مصدر الطاقة الجنسية ، وهي الطاقة التي تظنها هذه المدرسة فطرية ، وترافق مسيرة حياة الإنسان ، فتتحكم في جميع نشاطاته طول حياته ، لذلك فهي تسيطر حتى على الحياة الاجتماعية للفرد ، حسب اعتقاد المدرسة الفرويدية .