إن الاضطرابات النفسية قديمة قدم الإنسانية ، فقد عرضها الإنسان منذ آلاف السنين . ففي كل عصر من العصور التاريخية كانت هنالك محاولات عديدة لمعرفة ماهية وطبيعة هذه الاضطرابات وماهية مسبباتها وكيفية معالجتها ، وتبعاً لما يتوصل أليه المهتمون بهذا الأمر تكون الأساليب العلاجية لهذه الاضطرابات .
وفى محاولة الاستقراء التطور التاريخي لمفهوم الاضطراب النفسي عبر العصور تبدأ بالعصر القديم حيث كان الاعتقاد السائد ان الاضطرابات النفسية ترجع الى قوى خارجية وأن سببها مس الجن وتأثير الأرواح الشريرة وقد أنبثق عن هذا الاعتقاد محاولات علاجية بدائية مثل عملية تربية الجمجمة أى إحداث ثقب بها حتى تخرج منه الروح الشريرة ، وادعى السحرة والعرافون وغيرهم القيام بعلاج الاضطرابات النفسية بالسحر ، وكان رجال الدين يأخذون المريض النفسي الى المعاير حتى يعود السلام الى حياته . وفى الغالب كان المريض النفسي يعزل حتى لا يؤذى نفسه والآخرين .
وفى مصر كان القدماء المصرين أول من ميزوا الاضطراب النفسي ووضعوه وكتبوه على أوراق البدوي قبل 1500 سنة ق . م ، كذلك فقد وضعوا الاضطراب النفسي المصاحب الشيخوخة ، وحفظ لنا التاريخ هذه الأوراق حتى عصرنا هذا وربما تبين الملاحظات فى ذلك الماضي البعيد على أساس من المشاهدات التشريحية وأيضاً النفسية ، خاصة وقد أثبت علماء التشريح الحديث وجود تصلب فى شرايين المخ داخل جماجم بعض الموميات المصرية .
وقد كان الصدع من الإمراض النفسية المعروفة بصفة خاصة لدى القدماء حيث كانوا يطلقون عليه إسم المرض المقدس أو الإلهي ، وقد ظل هكذا حتى نذعت عنه قدسيته بواسطة أبوقراط ( أبو الطب ) معتداً إياه مرضاً له أسبابه العضوية وعلاجه الخاص بالعقاقير وغيرها .
كما أشار أبوقراط (400 ق.م ) الى ان المخ هو عضو العقل ويتركز فيه النشاط العقلي المعرفي وأن المرض النفسي دليل على ذلك وينتج عن مرض المخ.
كما لاحظ دور الوراثة والاستعداد وعلاقتهما بالاضطرابات النفسية .وقدم نظرية الأخلاط ألا ربعه ـ الدم والبلغم والصفراء والسوداء ـ وقال أن الاضطراب فيها مسئول عن المرض عامة بما فى ذلك المرض النفسي . وحاول تصنيف الاضطرابات النفسية وزكر منها الهوس والمنحتوليا والهستيريا والصرع .
وناقش أفلاطون (380 ق.م ) العقل والكائن البشرى ن ووجه العناية إلى المعاملة الإنسانية والفهم اللازم لعلاج المرض ، ولعل كتابة ـ الجمهورية ـ يعتبر أول مرجع فى معاملة المريض النفسي ، حيث اكد على ضرورة حسن المعاملة والرعاية المنزلية وتوقيع غرامة على من يهمل المريض النفسي .كذلك فقد ناقش أر سطوا العقل والكائن البشرى .
ومع جالين Galen ( 200 ق . م ) بدأ علم الأعصاب التجريبي ودرس جالين تشريح الجهاز العصبي ووظائفه ، وأوضح أنه ليس من الضروري أن يكون هناك إصابة عضوية فى حالة المرض النفسي
وفى مستهل العصر المسيحي دعا أحد علماء الإغريق إلى استخدام أساليب التجويع والتغيير بالإعلال والجلد بالسياط ، زعما منه بأن هذه الوسائل تجعل المريض الممتنع عن الطعام يعود الى تناوله أو أن ( العندب ) يؤدى الى انتعاش فى الذاكرة .
وكانوا كذلك يستخدمون القصر ومكمدات الافيون . وقد اكدوا على ضرورة تسلية المريض المصاب بالاكتئاب وعلاجه بوسائل الرياضة البدنية والموسيقى والقراءة بصوت عال ، كما أوصوا لبعض المرضى بالغذاء الجيد والحمامات الدافئة .
أما فى فترة العصور الوسطى في أوربا فقد حدثت نكسة وعاد الفكر الخرافي وانتشرت الشعوذة وساد الرجل ، ومرة أخرى عاد مفهوم تلك الجن والأرواح الشريرة لجسم المريض ، وتعتبر العصور الوسطى عصور مظلمة بالنسبة للعلاج النفسي ، فقد عاد العلاج إلى سابق عده ففي تلك العصور وفى بعض البلاد كان الأغنياء يستطيعون شراء المرضى النفسيين وضعاف العقول ويدعونهم مقابل اى عمل يمكن أن يقوموا به .وقام رجال الدين بمحاولات علاجية تحت اسم ( العلاج الدين ) أو ( العلاج الأخلاقي ) الذي تستخدم فيه بعض الأعشاب ومياه الآبار المباركة والتعويذات والأناشيد بغرض طرد الشياطين والجان ، ولم يخل الحال من ربط المريض بالسلاسل وتجويعه وضربه بالسيط .
وقد ترك آمر علاج المرض النفسيين فى أيدي رجال الدين فشاعت المعتقدات الخرافية عن فاعلية السحر وغيره . ثم أنشئت ملاجئ فى مناطق بعيده عن العمر الحجز المرض ومعاملتهم معاملة سيئه أخفها التقصير بالأغلال لمدد قد تصل الى عشرات السنين .
وبخلاف ماكان عليه الحال فى أوربا كان فى بلادنا العربية فى القرن الرابع عشر مستشفى قلاوون بالقاهرة والذي كان مكوناً من أربعه أقسام من بينها قسم للأمراض النفسية ولكن ارتياد هذا المستشفى كان موقوفاً على الأعيان من سمح ابدادتهم بالأنفاق عليه بسخاء ن وكذلك على المرض الذين كانوا عند خروجهم يزودون بالكساء والغذاء ويساعدون بالمال إلى ان يعودوا إلى أعمالهم . وبهذا الوضع للمرضى النفسيين بحجزهم فى احد أقسام مستشفى عام تكون البلدان العربية قد سبقت الاتجاه الجاري حالياً بحوالي 600 عاماً .
كما كان إنشاء أول مستشفى للأمراض النفسية فى أورشليم فى سنة 490 بعد الميلاد ، وفى العالم العربي الإسلامي ازدهرت علوم الطب والعلاج ، ومن أعلام العرب هنا الطبري والرازى وابن سينا ( أمير الأطباء ) (980 ـ 1037 م) ،
ويتأثر العرب بروح الإسلام في رعايتهم للمرضى النفسيين وإقامة المستشفيات والبيمارستانات ( دور المضي ) مثل بيمارستان هارون الرشيد وبيمارستان البدا مكة والبيمارستان المنصورية الذي أنشأه محمد بن قلاووى ، وكانت معاملة المرضى فى هذا المستشفى اول الآمر مماثلة لنظيرتها فى أوربا حيث كانوا يضفرون فى الأغلال ويودعون فى زنزانات ويعالجون بالسحر والرقى والعزائم . وكان بعض المرضى النفسيين يرتقون الى مصاف الأولياء ،وبعضهم تنالهم السخرية ، ألا أن الحال أخذ يتحسن بعد ذلك فى هذه البيمارستانات .
( أمبدة منصور يوسف صـ152 )
أما فى العصر الحديث والذي عرف بعصر النهضة العلمية ، ومنذ أن قامت الثورة الفرنسية فى سنة 1789م فقد أعيد النظر فى الأفكار التقليدية وتعدلت النظرة الى المرض النفسي كمرض مثله مثل اى مرض جسمي آخر ، وبدا الاهتمام بالنظرة الإنسانية للمرض النفسيين ، وأقيمت المستشفيات وتحسنت بيئتها من حيث الرعاية والعلاج ورفقت عنهم السلاسل وتحرروا من الزنزانات فى فرنس وإنجلترا وألمانيا وأمريكا ، وأقيمت لهم فرص النثرية والترفيه والعمل وتحسنت معاملتهم فى مجتمع أوسع وتجربة اكبر .
وفى أوائل القرن التاسع عشر اهتم العالم روش Rush فى أمريكا بالدر أمته العلمية لعلاج المرض النفسي وادخل طريقة العلاج الاشراطى فى علاج الكحوليين . وبدا تدريس الأمراض النفسية والعقلية فى شكل محاضرات ألقاها سيرالسكندرنرسيون فى أد نبده باسكتلاندا سنه 1823 ، وظهر اول قانون لحماية المرض النفسيين فى إنجلترا سنة 1808.
وفى أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين قام كر ابلين kraepelin (1856 ـ 1926) يعمل تصنيف ووصف للمرض النفسي وحدد اسبابة وأعراضه وعلاجه وماله . وادخل علم النفس الفسيولوجى وابرز أهميته فى مجال العلاج النفسي .
كذلك فقد أسهم العالم الفرنسي شاركوه Charcot (1825 ـ 1893) ورفاقه إسهاما واخدما فى تقدم العلاج النفسي واستخدموا التنويم الإيحائي ، ومن بين الأعلام فى هذه المرحلة أيضا بلور Blewrer (1857 ـ1939 ) الذي اهتم بالفصام والشخصية الفصامية وعلاج النفسي .
وقدم جانيت Janet (1859 ـ 1947 ) نظرية التوتر النفسي ، واهتم بالقلق والهستيريا والخوف كما اهتم بالعلاج الإيحائي .
وقد شهد هذا العصر ظهور العديد من مدارس علم النفس من بينها مدرسة التحليل النفسي بزعامة فرويد Freud (1856 ـ 1939) والذي اهتم بالنمو النفسي الجنسي وقسر الاضطراب العصابى وفقاً لذلك .
كما استخدم فرويد فى المعالجة طريقة التداعي الحر والتفريغ الانفعالي والإيحاء . كما ظهر فى فترة الاحقه (الفرويديون الجدد ) من اتباع وتلاميذ فرويد والذين ادخلوا بعض التعديلات على نظرية فرويد . ومن بينهم :آدلر Adler (1870 ـ 1937 ) والذى ركز على الصدمات النفسية والمؤثرات الثقافية والاجتماعية ، وأدخل مفاهيم مثل عقد النقص وأسلوب الحياة . وقدم يونج Jung (1875 ـ 1961) نظرية الطاقة النفسيةوإهتم بالدين والمسائل الروحية ، كما أدخل مفاهيم مثل اللاشعوري الشخصي واللاشعوري الجمعي . كما اهتمت هورنى Horney (1885 ـ 1952 ) بالاتجاهات العصابية وركزت على اهمية تكوين علاقات اجتماعية سليمة فى علاج الاضطرابات النفسية .
( أمبدة منصور يوسف صـ156)
وظل التحليل النفسي أقوى تيار فى العلاج النفسي لمدة طويلة . ثم نشطت حركة القياس النفسي ومن أقطابها بنية Binet ، وعلم النفس التجريبي ومن اقطابة قونت Wundt والمدرسة السلوكية ومنت أقطابها واطسون Watson . ومنذ الحرب العالمية الأولى ظهر سيل ضخم من البحوث التجريبية والإكلينيكية أدت الى اكتشاف بعض الطرق العلاجية مثل العلاج بالصدمات الكهربية وراحة الفص الجبهي ونما علم الطب النفسي و أصبحت المستشفيات وحدات علا نشطة .
ثم جاءت الحرب العالمية الثانية وتمت أفكار جديدة مثل العلاج النفسي الجماعي والإرشاد النفسي والمهني . وفى فترة ما بعد الحرب تطورت الدراسات وتمت مفاهيم ونظريات جديدة مثل نظرية الأساس الفسيولوجى للسلوك وزاد الاهتمام بالمرض النفسيين ، وظهرت ثورة العلاج الجسمي ( الفيزيائي ) بالصدمات الكهربية والأدوية والجراحة ز ولم يعد العلاج يقتصر على ناحية دون أخرى بل أصبح يشمل النواحي النفسية والطبية والاجتماعية وتطورت أساليب العلاج النفسي وتعددت لتشمل العلا السلوكي ، العلاج النفسي الممركز حول العميل ، العلاج النفسي لتدعيمي ، العلاج بالعمل والعلاج باللعب والعلا الاجتماعي ، بالإضافة الى مفهوم التأهيل النفسي ونمو حركة التوجيه والإرشاد النفسي والمهني . كما زاد اهتمام المجتمع والحكومات بإنشاء المستشفيات والعيادات النفسية ، وتطورت البحوث والدراسات في مجال الصحة النفسية والعلاج النفسي