- النمو عملية تغير:
كل نمو في جوهره تغير، ولكن ليس كل تغير يعد نموًّا حقيقيًّا, وتستخدم كلمة نمو في التراث السيكولوجي العربي المعاصر ترجمة لكلمة Development، ولو أنها ليست الترجمة الدقيقة، فالأصح أن تترجم هذه الكلمة الإنجليزية بكلمة "تنمية", وهناك ترجمة محدودة للكلمة بمعنى: "ارتقاء", حين يستخدم مصطلح "علم النفس الارتقائي"، ترجمة لعبارة Developmental Psychology كما أشرنا. وفي هذا الصدد قد يقتصر استخدام كلمة نمو على أن تكون ترجمة لكلمة Growth, والتي يقصر البعض استخدامها على الزيادة الإضافية في مقدار الخاصية أو الصفة السلوكية.
وعمومًا يمكن القول أن علم نفس النمو يهتم بالتغيرات السلوكية التي ترتبط ارتباطًا منتظمًا بالعمر الزمني, فإذا كانت هذه التغيرات تطرأ على النواحي البيولوجية والفسيولوجية والنيرولوجية, وتحدث في بنية الجسم الإنساني ووظائف أعضائه نتيجة للعوامل الوراثية "الفطرة" في أغلب الأحيان، فإن هذه التغيرت تسمى نضجًا Maturation, أما إذا كانت هذه التغيرات ترجع في جوهرها إلى آثار الظروف البيئية "الخبرة", تسمى تعلمًا Learing.
وفي كلتا الحالتين: النضج والتعلم, قد تدل التغيرات على تحسن أو تدهور, وعادة ما يكون التدهور في الحالتين في المراحل المتأخرة من العمر "فؤاد أبو حطب 1972، 1975".
وهكذا يمكن القول أن المعنى السابق لكلمتي "تنمية" و"ارتقاء", متضمن في استخدام كلمة "نمو", الأكثر شيوعًا واستخدامًا في اللغة السيكولوجية العربية، ولهذا فإن موقفنا في هذا الكتاب هو اسخدام كلمة "نمو" لتدل على التغيرات الارتقائية أو التنموية التي أشرنا إليها, ولعل مما يفيد أغراض هذا الاستخدام أن من معاني كلمة Development الإنجليزية, كلمات مثل: نمو Growth, وتطور Evolution, وفيهما لا تتبع حالة معينة حالة أخرى فحسب، وإنما لا بد أيضًا أن تنبثق الحالة الراهنة من حالة سابقة, وقد يكون النمو أو التنمية في هذه الحالة تدريجيًّا "أي: تطور", أو تحوليًّا "أي: ثورة" Revolution.
أما التغيرات غير النمائية, فإنها على العكس تعد نوعًا من حالة الانتقال التي لا تتطلب ثورة, أو تطورًا, أو تنمية بالمعنى السابق؛ فالشخص قد يغير ملابسه إلّا أن ذلك لا يعني نموًّا, فتتابع الأحداث في هذا المثال لا يتضمن وجود علاقة بين الحالة الراهنة للشخص وحالته السابقة, ومن السخف، بل من العبث، أن نفترض مثلًا أن ملابس الشخص التي كان يرتديها في العام الماضي نمت بالتطور أو الثورة إلى ما يرتديه الآن.
وهناك خاصية أخيرة في التغيرات النمائية أنها شبه دائمة باعتبارها نتاج كلٍّ من التعلم والنضج، وفي هذا تختلف عن التغيرات المؤقتة أو العارضة أو الطارئة؛ مثل: حالات التعب أو النوم أو الوقوع تحت تأثير مخدر، فكلها ألوان من التغير المؤقت في السلوك, ولكنها ليست نموًّا؛ لأن هذه التغيرات جميعًا تزول بزوال العوامل المؤثرة فيها, وتعود الأحوال إلى ما كانت عليه من قبل.
2- النمو عملية منتظمة:
توجد أدلة تجريبية على أن تغيرات النمو تحدث بطريقة منتظمة، على الأقل في الظروف البيئية العادية, ومن هذه الأدلة ما يتوافر من دراسة الأطفال المبتسرين "الذين يولدون بعد فترة حمل تقل عن 38 أسبوعًا", والذين يوضع الواحد منهم في محضن يتشابه مع بيئة الرحم لاكتمال نموه كجنين، فقد لوحظ أنهم ينمون بيولوجيًّا وفسيولوجيًّا وعصبيًّا بنفس معدل نمو الأجنة الذين يبقون في الرحم نفس الفترة الزمنية.
وتحدث تغيرات منتظمة مماثلة بعد الولادة, واشهر الأدلة على ذلك جاء من بحوث جيزل وزملائه الذين درسوا النمو الحركي للأطفال في السنوات الأولى من حياتهم, فقد لاحظوا الأطفال في فترات منتظمة, وفي ظروف مقننة, ووصفوا سلوكهم وصفًا دقيقًا, ووجدوا نمطًا تتابعيًّا للنمو الحركي، حتى أن جيزل اقترح لوصف هذ التتابع المنتظم الثابت تسمية خاصة هي "المورفولوجيا النفسية". ومن أمثلة ذلك "الاتجاه من أعلى إلى أسفل" الذي أشار إليه كوجهل وغيره، و"الاتجاه من الوسط إلى الأطراف", كما تظهر خصائص الانتظام في سلوك الحبو والوقوف والمشي واستخدام الأيدي والأصابع والكلام, هذه الألوان من السلوك تظهر في معظم الأطفال بترتيبٍ وتتابعٍ يكاد يكون واحدًا؛ ففي نضج المهارات الحركية عند الأطفال نجد أن الجلوس يسبق الحبو، والحبو يسبق الوقوف، والوقوف يسبق المشي, وهكذا. فكل مرحلة تمهد الطريق للمرحلة التالية، وتتابع المراحل على نحو موحد.
وقد تثير هذه الخاصية مرةً أخرى مسألة العلاقة بين النمو والعمر الزمني التي أشرنا إليها في وصفنا للتغيرات النمائية, لقد أدَّى ذلك بكثير من الباحثين إلى الاهتمام بوضع قوائم بالأحداث التي تطرأ على حياة الإنسان مع تقدمه في العمر.
ومع ذلك لم يقدم ذلك الجهد إسهامًا يذكر في فهمنا لطبيعة عملية النمو, والأجدى بالطبع هو وصف الأنماط السلوكية التي تنتج عن التكامل بين الذخيرة السلوكية المتوافرة لدى الفرد في وقت ما, والخبرات الجديدة التي يتعرض لها, ولهذا نجد كيسن "Kessen, 1960" يقول: إن العمر في حد ذاته ليس هو المعادل الموضوعي للنمو, والعمر -في رأينا- ليس "زمنًا أجوف"، كما أن النمو لا يمكن أن يحدث في "فراغ زمني" وإنما يحدث فيه دائمًا هذا التفاعل والتكامل بين الخبرة الراهنة والبنى السلوكية التي تكونت من قبل لدى الفرد، وهو التفاعل والتكامل الذي يؤدي إلى تغيير طريقة الفرد في التفاعل مع البيئة, وعلى نحوٍ يؤدي به إلى مستويات أعلى من هذا التفاعل والتكامل "في حالة التحسن", أو إلى مشتويات أدنى منهما "في حالة التدهور"، وهما وجها النمو. والخلاصة هنا أن النمو الإنساني يحدث في فترة محددة من الزمن، إلّا أن الزمن وحده ليس شرطًا كافيًا لحدوث النمو, وباختصار نقول: إن التغيرات النمائية هي المحتوى السلوكي للزمن.
3- النمو عملية كلية:
يلجأ بعض مؤلفي كتب النمو إلى تناول الموضوع حسب مظاهر النمو ومجالاته، فيخصصون فصولًا أو كتبًا كاملة حول النمو الجسمي أو النمو العقلي أو النمو الوجداني أو النمو الاجتماعي عبر عدة مراحل لحياة الإنسان, وهذا أسلوب له حدوده، فقد يوحي بأن المكونات الجسمية والعقلية والاجتماعية والوجدانية الانفعالية من النشاط الإنساني, أو الشخصية الإنسانية, يمكن الفصل بينها, وتداول كل منها على أنه مظهر مستقل بالفعل, وهذا بالطبع مستحيل؛ فالنمو عملية كلية Holistic تحدث مظاهرها كلها متآنية وبينها علاقات متداخلة. والتركيز على تحليل المكونات قد يوقع القارئ في خطأ تجاهل ما يجب أن تكون عليه كل مرحلة من مراحل الحياة من تكامل واتساق.
وأيّ مبتدئ في علم النفس يعلم أن تحليل النمو إلى مكوناته هو أمر اصطناعي، على الرغم من أهميته. فالباحثون الذين يعملون في أي مجال من مجالات النمو, يلاحظون أن التغير في أحد مظاهر النمو له تضميناته وآثاره في المظاهر الأخرى؛ فالنمو اللغوي لا يعتمد فقط على المهارات اللغوية والنمو العقلي, وإنما يعتمد في كثير من جوانبه على النمو الاجتماعي والوجداني للطفل, وعلى ذلك فمن الواجب على المهتم بعلم نفس النمو أن يتبع منهجه التحليلي بنظرة تركيبية, وإلّا افتقد "وحدة" الشخصية، "وتكامل" السلوك. وقد وصف أحد مؤلفي هذا الكتاب دور كل من التحليل والتركيب في دراسة السلوك الإنساني في موضع آخر "فؤاد أبو حطب، 1996", وفي جميع الأحوال يجب أن نكون على وعيٍ بأن الكائن الإنساني هو مخلوق جسمي ومعرفي ووجداني واجتماعي في آنٍ واحد، وكل مكون من هذه المكونات يعتمد -جزئيًّا على الأقل- على التغيرات التي تحدث في المكونات الأخرى.
وعلى الرغم من أن المنحى الكليّ في النظر إلى النمو يعود بأصوله إلى سمتس عام 1962. "Smuts, 1926", حين نحت مصطلح Holism, إلّا أن توظيفه في علم نفس النمو لم يظهر بشكل جادٍّ إلّا على يد شوستر وآشبورن "Schuster & Ashburn 1992", والذي ظهر في الطبعة الأولى من كتابهما عام 1980, وعندهما أن المنظور الكلي يجب أن يتسع ليشمل المنحى التكاملي Inregrated في دراسة النمو الإنساني, والذي يتطلب دراسة أسرة الفرد وتاريخه وبيئته وأهدافه وأدواره, ولعل هذا يذكرنا بالمنظور التكاملي للنمو الذي قدمه عالم النفس المصري الرائد يوسف مراد, منذ أواخر الأربعينيات, وهو ما تناوله أحد مؤلفي هذا الكتاب في دراسة مستقلة "فؤاد أبو حطب 1996".
4- النمو عملية فردية:
يتسم النمو الإنساني بأنَّ كل فرد ينمو بطريقته وبمعدله، ومع ذلك فإن الموضوع يخضع للدراسة العلمية المنظمة، فمن المعروف أن البحث العلمي يتناول حالات فردية من أي ظاهرة فيزيائية أو نفسية، ثم يعمم من هذه الحالات إلى الظواهر المماثلة، إلّا أن شرط التعميم العلمي الصحيح أن يكون عدد هذه الحالات عينة ممثلة للأصل الإحصائي الذي تنتسب إليه, وبالطبع فإن هذا التعميم في العلوم الإنسانية يتم بدرجة من الثقة أقل منه في العلوم الطبيعية, وذلك بسبب طبيعة السلوك الإنساني, الذي هو موضوع البحث في الفئة الأولى من هذه العلوم.
والنمو الإنساني -على وجه الخصوص- خبرة فريدة، ولهذا فإن ما يسمى القوانين السلوكية قد لا تطبق على كل فرد بسبب تعقد سلوك الإنسان، وتعقد البيئة التي يعيش فيها، وتعقد التفاعل بينهما, ومن المعلوم في فلسفة العلم أن التعميم لا يقدِّم المعنى الكلي للقانون إذا لم يتضمن معالجة مفصلة لكل حالة من الحالات التي يصدق عليها, ومعنى هذا أن علم نفس النمو له الحق في الوصول إلى قوانينه وتعميماته، إلّا أننا يبقى معنا الحق دائمًا في التعامل مع الإنسان موضع البحث فيه على أنه كائن فريد, ولعلنا بذلك نحقق التوازن بين المنحى الناموسي العام Nomothtic, والمنحى الفردي الخاص Ldiographic، وهو ما لا يكاد يحققه أي فرع آخر من فروع علم النفس.
5- النمو عملية فارقة:
على الرغم من أن كثيرًا من العلومات التي تتناولها بحوث النمو تشتق مما يسمى المعاير السلوكية، إلّا أننا يجب أن نحذر دائمًا من تحويل هذه المعايير إلى قيود, وهذا ما نبَّه إليه نيوجارتن وزملاؤه "Neugartten et al 1965" منذ عام 1965. وهذا التحفظ ضروري وإلّا وقع الناس في خطأ فادحٍ يتمثل في إجبار أنفسهم وإجبار الآخرين على الالتزام بما تحدده هذه المعايير، ويدركونه بالطبع على أنه النمط "المثالي" للنمو, ومعنى ذلك أن ما يؤديه الناس على أنه السلوك المعتاد أو المتوسط، أو ما يؤدى بالفعل، "وهو جوهر المفهوم الأساسي للمعاير" يتحول في هذه الحالة ليصبح ما يجب أن يؤدى, ولعل هذا هو سبب ما يشيع بين الناس من الاعتقاد في وجود أوقات ومواعيد "ملائمة" لكل سلوك.
وهكذا يصبح المعيار العملي البسيط تقليدًا اجتماعيًّا، ويقع الناس أسرى لما يسميه هيوز ونوب "Hughes & Noppe, 1985" بالساعة الاجتماعية؛ بها يحكمون على كل نشاط من الأنشطة العظمى في حياتهم بأنه في "وقته تمامًا" أو أنه "مبكر" أو "متأخر" عنه, يصدق هذا على دخوله المدرسة أو إنهاء الدراسة أو الالتحاق بالعمل أو الزواج أو التقاعد, ما دام لكل ذلك معاييره, فحينما ينتهي الفرد من تعليمه الجامعيّ مثلًا في سن الثلاثين, فإنه يوصف "بالتأخير" حسب الساعة الاجتماعية، بينما إنجازه في سن السابعة عشرة يجعله "مبكرًا".
6- النمو عملية مستمرة:
الخاصية السادسة والأكثر أهمية من خصائص النمو تتصل في جوهرها بمفهوم مدى الحياة Life-span, والذي يؤكده المنظور الإسلامي للنمو كما سنبين فيما بعد, ومعنى ذلك أن التغيرات السلوكية التي تعتمد في جوهرها على النضج والتعلم تحدث باستمرار في جميع مراحل العمر, ويمكن التدليل على ذلك من شواهد كثيرة من مختلف مراحل العمر, ابتداءً من مرحلة الجنين, وحتى الشيخوخة.
وهكذا يصبح النمو تيارًا متصلًا لا نقاطًا متقطعة, ويمكن أن نشبه دراستنا لأجزاء منفصلة من مدى الحياة الإنسانية بدراسة أجزاء مقتطفة من فيلم أو رواية أو مسرحية, ولك أن تتصور مدى الصعوبة التي تنتابك في الفهم أو في تتبع شخصيات الرواية أو أحداثها, إذا لم تشاهد منها إلّا الفصل الثاني من بين فصولها الثلاثة. وبالمثل كيف يمكننا فهم نمو الفرد الإنساني إذا لاحظناه فقط في مرحلة الطفولة أو المراهقة أو الشيخوخة؟ فكما أن الفصل الثاني في المسرحية يتطور من الفصل الأول, ويعتمد عليه, وفي نفس الوقت يؤلف الأساس الذي يبنى عليه الفصل الثالث، فإن مراهقة الإنسان تتطور من خبرات طفولته, وتعتمد عليها وتؤلف أساس خبرات الرشد التالية.
ولأغراض الفهم العلمي تنقسم دورة الحياة في العادة إلى مراحل متعددة, وقد أطلق عليها ليفنسون "Levinson, 1978" مصطلح "مواسم" الحياة, بل إن معظم كتب علم نفس النمو تركز على بعض المراحل دون سواها, ولعل المرحلتين الأكثر شيوعًا هما الطفولة والمراهقة، وهو الطابع الغالب على معظم ما صدر في هذ الميدان من كتب باللغة العربية إذا استثنينا كتاب الرائد الراحل فؤاد البهي السيد "الأسس النفسية للنمو من الطفولة إلى الشيخوخة" "فؤاد أبو حطب، 1997"، بل إن معظم الكليات والمعاهد الجامعية تقدم مقررات حول نمو الطفل ونمو المراهق ونمو الراشد وهكذا.
وعلى الرغم من ملائمة مفهوم المرحلة النمائية للأغراض الأكاديمية إلّا أنه قد يؤدي إلى نوعين من سوء الفهم: أولهما: الشعور بأن مراحل الحياة منفصلة منعزلة, بينما هي ليست كذلك بحكم أنها جزء من تيار الحياة المتدفق، والواقع أن هذه المراحل يتطور بعضها من بعض بشكل مستمر, وثانيهما: الحصول على انطباع زائف عن أن مراحل الحياة ثابتة, بينما هي في الواقع تتضمن تغيرت وتحولات دائمة في داخلها, ومن ذلك مثلًا أن الفرد لا يبقى معطلًا في مرحلة المراهقة, حتى يصبح مستعدًا للقفز إلى الأمام في مرحلة الرشد المبكر. وما يحدث بالفعل أنه يوجد نمو دائم داخل المراهقة, كما هو الحال في جميع مراحل الحياة.
والرشد المبكر لا يتبع المراهقة فحسب, ولكنه يتطور تدريجيًّا منها, ومعظم ما نحن عليه في مرحلة معينة من مراحل حياتنا هو نتاج لما كنا عليه في المراحل السابقة.
ولعل هذا هو ما دفعنا إلى أن يتمركز كتابنا هذا حول مفهوم "النمو مدى الحياة" Life - Span Edvelopment، حتى يتجنب القارئ سوء الفم الذي ينشأ حتميًّا على التركيز المستمر على مراحل الحياة مع الفشل في إدراك الاستمرار والتواصل في أنماط النمو لدى الفرد, ونحن حين نركز على مفهوم "مدى الحياة" في دراسة النمو, فإننا بذلك ندمج الماضي في المستقبل على نحوٍ يقودنا إلى وعي "حاضر" باتصال الحياة, فالماضي والمستقبل هما المحوران الرئيسيان للزمن السيكولوجي "فؤاد أبو حطب، آمال صادق، 1985".
ولعل مفهوم "مدى الحياة" الذي شاع كثيرًا في دراسات سيكولوجية النمو ابتداء من الربع الأخير من القرن العشرين "على الرغم من جذوره الأصيلة في الثقافة العربية الإسلامية كما سنتبين فيما بعد" هو الذي دفع مارجريت ميد "mead, 1972" إلى المطالبة بتوظيف هذا المفهوم في فهم طبيعة العلاقة بين الأجيال "وخاصة جيل الأحفاد وجيل الأجداد", فكل منهما يتعلم من الآخر معنى اتصال الحياة؛ فالجد يقدِّمُ لحفيده آصرة الماضي، والحفيد يقدم لجده الإحساس بالمستقبل, ومن خلال تفاعلهما يتشكل الماضي والمستقبل في بوتقة الحاضر.
ومفهوم مدى الحياة يقودنا إلى مسألة هامة أخرى، وهي أن النمو لا يعني التحسن المستمر في مختلف مراحل العمر, وقد اقترح أحد مؤلفي هذا الكتاب "فؤاد أبو حطب، 1983، 1985" نسقًا ارتقائيًّا تطوريًّا لدورة الحياة, وجوهر هذا النسق أن مسار الحياة Life -Path, أو مدى الحياة يتضمن متوالية معقدة حتى الأحداث والظواهر التي يشهدها الإنسان من لحظة الإخصاب في رحم الأم حتى
لحظة الاستلقاء على فراش الموت, إلّا أن هذه المتوالية لا تتضمن تصورًا خطيًّا لحدوثها، وإنما هي في معناها الحقيقي دورة، أو إذا شئت الدقة: منحنى يصوره الإعجاز الإلهي في قول القرآن الكريم:
{اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ} [الروم: 54] .
منحنى يمثل قوة بين ضعفين، ووسطًا بين طرفين، ويعد الصبا young-hood بكل ما فيه من نمو في الطفولة والمراهقة طرف الضعف الأول، أما الشيخوخة ageing بكل ما فيها من تدهور, فهي طرف الضف الثاني، وبينهما قوة الرشد Adulthood, وهذ التصور القرآني للنمو مدى الحياة هو الموجه العام لبناء هذا الكتاب
كل نمو في جوهره تغير، ولكن ليس كل تغير يعد نموًّا حقيقيًّا, وتستخدم كلمة نمو في التراث السيكولوجي العربي المعاصر ترجمة لكلمة Development، ولو أنها ليست الترجمة الدقيقة، فالأصح أن تترجم هذه الكلمة الإنجليزية بكلمة "تنمية", وهناك ترجمة محدودة للكلمة بمعنى: "ارتقاء", حين يستخدم مصطلح "علم النفس الارتقائي"، ترجمة لعبارة Developmental Psychology كما أشرنا. وفي هذا الصدد قد يقتصر استخدام كلمة نمو على أن تكون ترجمة لكلمة Growth, والتي يقصر البعض استخدامها على الزيادة الإضافية في مقدار الخاصية أو الصفة السلوكية.
وعمومًا يمكن القول أن علم نفس النمو يهتم بالتغيرات السلوكية التي ترتبط ارتباطًا منتظمًا بالعمر الزمني, فإذا كانت هذه التغيرات تطرأ على النواحي البيولوجية والفسيولوجية والنيرولوجية, وتحدث في بنية الجسم الإنساني ووظائف أعضائه نتيجة للعوامل الوراثية "الفطرة" في أغلب الأحيان، فإن هذه التغيرت تسمى نضجًا Maturation, أما إذا كانت هذه التغيرات ترجع في جوهرها إلى آثار الظروف البيئية "الخبرة", تسمى تعلمًا Learing.
وفي كلتا الحالتين: النضج والتعلم, قد تدل التغيرات على تحسن أو تدهور, وعادة ما يكون التدهور في الحالتين في المراحل المتأخرة من العمر "فؤاد أبو حطب 1972، 1975".
وهكذا يمكن القول أن المعنى السابق لكلمتي "تنمية" و"ارتقاء", متضمن في استخدام كلمة "نمو", الأكثر شيوعًا واستخدامًا في اللغة السيكولوجية العربية، ولهذا فإن موقفنا في هذا الكتاب هو اسخدام كلمة "نمو" لتدل على التغيرات الارتقائية أو التنموية التي أشرنا إليها, ولعل مما يفيد أغراض هذا الاستخدام أن من معاني كلمة Development الإنجليزية, كلمات مثل: نمو Growth, وتطور Evolution, وفيهما لا تتبع حالة معينة حالة أخرى فحسب، وإنما لا بد أيضًا أن تنبثق الحالة الراهنة من حالة سابقة, وقد يكون النمو أو التنمية في هذه الحالة تدريجيًّا "أي: تطور", أو تحوليًّا "أي: ثورة" Revolution.
أما التغيرات غير النمائية, فإنها على العكس تعد نوعًا من حالة الانتقال التي لا تتطلب ثورة, أو تطورًا, أو تنمية بالمعنى السابق؛ فالشخص قد يغير ملابسه إلّا أن ذلك لا يعني نموًّا, فتتابع الأحداث في هذا المثال لا يتضمن وجود علاقة بين الحالة الراهنة للشخص وحالته السابقة, ومن السخف، بل من العبث، أن نفترض مثلًا أن ملابس الشخص التي كان يرتديها في العام الماضي نمت بالتطور أو الثورة إلى ما يرتديه الآن.
وهناك خاصية أخيرة في التغيرات النمائية أنها شبه دائمة باعتبارها نتاج كلٍّ من التعلم والنضج، وفي هذا تختلف عن التغيرات المؤقتة أو العارضة أو الطارئة؛ مثل: حالات التعب أو النوم أو الوقوع تحت تأثير مخدر، فكلها ألوان من التغير المؤقت في السلوك, ولكنها ليست نموًّا؛ لأن هذه التغيرات جميعًا تزول بزوال العوامل المؤثرة فيها, وتعود الأحوال إلى ما كانت عليه من قبل.
2- النمو عملية منتظمة:
توجد أدلة تجريبية على أن تغيرات النمو تحدث بطريقة منتظمة، على الأقل في الظروف البيئية العادية, ومن هذه الأدلة ما يتوافر من دراسة الأطفال المبتسرين "الذين يولدون بعد فترة حمل تقل عن 38 أسبوعًا", والذين يوضع الواحد منهم في محضن يتشابه مع بيئة الرحم لاكتمال نموه كجنين، فقد لوحظ أنهم ينمون بيولوجيًّا وفسيولوجيًّا وعصبيًّا بنفس معدل نمو الأجنة الذين يبقون في الرحم نفس الفترة الزمنية.
وتحدث تغيرات منتظمة مماثلة بعد الولادة, واشهر الأدلة على ذلك جاء من بحوث جيزل وزملائه الذين درسوا النمو الحركي للأطفال في السنوات الأولى من حياتهم, فقد لاحظوا الأطفال في فترات منتظمة, وفي ظروف مقننة, ووصفوا سلوكهم وصفًا دقيقًا, ووجدوا نمطًا تتابعيًّا للنمو الحركي، حتى أن جيزل اقترح لوصف هذ التتابع المنتظم الثابت تسمية خاصة هي "المورفولوجيا النفسية". ومن أمثلة ذلك "الاتجاه من أعلى إلى أسفل" الذي أشار إليه كوجهل وغيره، و"الاتجاه من الوسط إلى الأطراف", كما تظهر خصائص الانتظام في سلوك الحبو والوقوف والمشي واستخدام الأيدي والأصابع والكلام, هذه الألوان من السلوك تظهر في معظم الأطفال بترتيبٍ وتتابعٍ يكاد يكون واحدًا؛ ففي نضج المهارات الحركية عند الأطفال نجد أن الجلوس يسبق الحبو، والحبو يسبق الوقوف، والوقوف يسبق المشي, وهكذا. فكل مرحلة تمهد الطريق للمرحلة التالية، وتتابع المراحل على نحو موحد.
وقد تثير هذه الخاصية مرةً أخرى مسألة العلاقة بين النمو والعمر الزمني التي أشرنا إليها في وصفنا للتغيرات النمائية, لقد أدَّى ذلك بكثير من الباحثين إلى الاهتمام بوضع قوائم بالأحداث التي تطرأ على حياة الإنسان مع تقدمه في العمر.
ومع ذلك لم يقدم ذلك الجهد إسهامًا يذكر في فهمنا لطبيعة عملية النمو, والأجدى بالطبع هو وصف الأنماط السلوكية التي تنتج عن التكامل بين الذخيرة السلوكية المتوافرة لدى الفرد في وقت ما, والخبرات الجديدة التي يتعرض لها, ولهذا نجد كيسن "Kessen, 1960" يقول: إن العمر في حد ذاته ليس هو المعادل الموضوعي للنمو, والعمر -في رأينا- ليس "زمنًا أجوف"، كما أن النمو لا يمكن أن يحدث في "فراغ زمني" وإنما يحدث فيه دائمًا هذا التفاعل والتكامل بين الخبرة الراهنة والبنى السلوكية التي تكونت من قبل لدى الفرد، وهو التفاعل والتكامل الذي يؤدي إلى تغيير طريقة الفرد في التفاعل مع البيئة, وعلى نحوٍ يؤدي به إلى مستويات أعلى من هذا التفاعل والتكامل "في حالة التحسن", أو إلى مشتويات أدنى منهما "في حالة التدهور"، وهما وجها النمو. والخلاصة هنا أن النمو الإنساني يحدث في فترة محددة من الزمن، إلّا أن الزمن وحده ليس شرطًا كافيًا لحدوث النمو, وباختصار نقول: إن التغيرات النمائية هي المحتوى السلوكي للزمن.
3- النمو عملية كلية:
يلجأ بعض مؤلفي كتب النمو إلى تناول الموضوع حسب مظاهر النمو ومجالاته، فيخصصون فصولًا أو كتبًا كاملة حول النمو الجسمي أو النمو العقلي أو النمو الوجداني أو النمو الاجتماعي عبر عدة مراحل لحياة الإنسان, وهذا أسلوب له حدوده، فقد يوحي بأن المكونات الجسمية والعقلية والاجتماعية والوجدانية الانفعالية من النشاط الإنساني, أو الشخصية الإنسانية, يمكن الفصل بينها, وتداول كل منها على أنه مظهر مستقل بالفعل, وهذا بالطبع مستحيل؛ فالنمو عملية كلية Holistic تحدث مظاهرها كلها متآنية وبينها علاقات متداخلة. والتركيز على تحليل المكونات قد يوقع القارئ في خطأ تجاهل ما يجب أن تكون عليه كل مرحلة من مراحل الحياة من تكامل واتساق.
وأيّ مبتدئ في علم النفس يعلم أن تحليل النمو إلى مكوناته هو أمر اصطناعي، على الرغم من أهميته. فالباحثون الذين يعملون في أي مجال من مجالات النمو, يلاحظون أن التغير في أحد مظاهر النمو له تضميناته وآثاره في المظاهر الأخرى؛ فالنمو اللغوي لا يعتمد فقط على المهارات اللغوية والنمو العقلي, وإنما يعتمد في كثير من جوانبه على النمو الاجتماعي والوجداني للطفل, وعلى ذلك فمن الواجب على المهتم بعلم نفس النمو أن يتبع منهجه التحليلي بنظرة تركيبية, وإلّا افتقد "وحدة" الشخصية، "وتكامل" السلوك. وقد وصف أحد مؤلفي هذا الكتاب دور كل من التحليل والتركيب في دراسة السلوك الإنساني في موضع آخر "فؤاد أبو حطب، 1996", وفي جميع الأحوال يجب أن نكون على وعيٍ بأن الكائن الإنساني هو مخلوق جسمي ومعرفي ووجداني واجتماعي في آنٍ واحد، وكل مكون من هذه المكونات يعتمد -جزئيًّا على الأقل- على التغيرات التي تحدث في المكونات الأخرى.
وعلى الرغم من أن المنحى الكليّ في النظر إلى النمو يعود بأصوله إلى سمتس عام 1962. "Smuts, 1926", حين نحت مصطلح Holism, إلّا أن توظيفه في علم نفس النمو لم يظهر بشكل جادٍّ إلّا على يد شوستر وآشبورن "Schuster & Ashburn 1992", والذي ظهر في الطبعة الأولى من كتابهما عام 1980, وعندهما أن المنظور الكلي يجب أن يتسع ليشمل المنحى التكاملي Inregrated في دراسة النمو الإنساني, والذي يتطلب دراسة أسرة الفرد وتاريخه وبيئته وأهدافه وأدواره, ولعل هذا يذكرنا بالمنظور التكاملي للنمو الذي قدمه عالم النفس المصري الرائد يوسف مراد, منذ أواخر الأربعينيات, وهو ما تناوله أحد مؤلفي هذا الكتاب في دراسة مستقلة "فؤاد أبو حطب 1996".
4- النمو عملية فردية:
يتسم النمو الإنساني بأنَّ كل فرد ينمو بطريقته وبمعدله، ومع ذلك فإن الموضوع يخضع للدراسة العلمية المنظمة، فمن المعروف أن البحث العلمي يتناول حالات فردية من أي ظاهرة فيزيائية أو نفسية، ثم يعمم من هذه الحالات إلى الظواهر المماثلة، إلّا أن شرط التعميم العلمي الصحيح أن يكون عدد هذه الحالات عينة ممثلة للأصل الإحصائي الذي تنتسب إليه, وبالطبع فإن هذا التعميم في العلوم الإنسانية يتم بدرجة من الثقة أقل منه في العلوم الطبيعية, وذلك بسبب طبيعة السلوك الإنساني, الذي هو موضوع البحث في الفئة الأولى من هذه العلوم.
والنمو الإنساني -على وجه الخصوص- خبرة فريدة، ولهذا فإن ما يسمى القوانين السلوكية قد لا تطبق على كل فرد بسبب تعقد سلوك الإنسان، وتعقد البيئة التي يعيش فيها، وتعقد التفاعل بينهما, ومن المعلوم في فلسفة العلم أن التعميم لا يقدِّم المعنى الكلي للقانون إذا لم يتضمن معالجة مفصلة لكل حالة من الحالات التي يصدق عليها, ومعنى هذا أن علم نفس النمو له الحق في الوصول إلى قوانينه وتعميماته، إلّا أننا يبقى معنا الحق دائمًا في التعامل مع الإنسان موضع البحث فيه على أنه كائن فريد, ولعلنا بذلك نحقق التوازن بين المنحى الناموسي العام Nomothtic, والمنحى الفردي الخاص Ldiographic، وهو ما لا يكاد يحققه أي فرع آخر من فروع علم النفس.
5- النمو عملية فارقة:
على الرغم من أن كثيرًا من العلومات التي تتناولها بحوث النمو تشتق مما يسمى المعاير السلوكية، إلّا أننا يجب أن نحذر دائمًا من تحويل هذه المعايير إلى قيود, وهذا ما نبَّه إليه نيوجارتن وزملاؤه "Neugartten et al 1965" منذ عام 1965. وهذا التحفظ ضروري وإلّا وقع الناس في خطأ فادحٍ يتمثل في إجبار أنفسهم وإجبار الآخرين على الالتزام بما تحدده هذه المعايير، ويدركونه بالطبع على أنه النمط "المثالي" للنمو, ومعنى ذلك أن ما يؤديه الناس على أنه السلوك المعتاد أو المتوسط، أو ما يؤدى بالفعل، "وهو جوهر المفهوم الأساسي للمعاير" يتحول في هذه الحالة ليصبح ما يجب أن يؤدى, ولعل هذا هو سبب ما يشيع بين الناس من الاعتقاد في وجود أوقات ومواعيد "ملائمة" لكل سلوك.
وهكذا يصبح المعيار العملي البسيط تقليدًا اجتماعيًّا، ويقع الناس أسرى لما يسميه هيوز ونوب "Hughes & Noppe, 1985" بالساعة الاجتماعية؛ بها يحكمون على كل نشاط من الأنشطة العظمى في حياتهم بأنه في "وقته تمامًا" أو أنه "مبكر" أو "متأخر" عنه, يصدق هذا على دخوله المدرسة أو إنهاء الدراسة أو الالتحاق بالعمل أو الزواج أو التقاعد, ما دام لكل ذلك معاييره, فحينما ينتهي الفرد من تعليمه الجامعيّ مثلًا في سن الثلاثين, فإنه يوصف "بالتأخير" حسب الساعة الاجتماعية، بينما إنجازه في سن السابعة عشرة يجعله "مبكرًا".
6- النمو عملية مستمرة:
الخاصية السادسة والأكثر أهمية من خصائص النمو تتصل في جوهرها بمفهوم مدى الحياة Life-span, والذي يؤكده المنظور الإسلامي للنمو كما سنبين فيما بعد, ومعنى ذلك أن التغيرات السلوكية التي تعتمد في جوهرها على النضج والتعلم تحدث باستمرار في جميع مراحل العمر, ويمكن التدليل على ذلك من شواهد كثيرة من مختلف مراحل العمر, ابتداءً من مرحلة الجنين, وحتى الشيخوخة.
وهكذا يصبح النمو تيارًا متصلًا لا نقاطًا متقطعة, ويمكن أن نشبه دراستنا لأجزاء منفصلة من مدى الحياة الإنسانية بدراسة أجزاء مقتطفة من فيلم أو رواية أو مسرحية, ولك أن تتصور مدى الصعوبة التي تنتابك في الفهم أو في تتبع شخصيات الرواية أو أحداثها, إذا لم تشاهد منها إلّا الفصل الثاني من بين فصولها الثلاثة. وبالمثل كيف يمكننا فهم نمو الفرد الإنساني إذا لاحظناه فقط في مرحلة الطفولة أو المراهقة أو الشيخوخة؟ فكما أن الفصل الثاني في المسرحية يتطور من الفصل الأول, ويعتمد عليه, وفي نفس الوقت يؤلف الأساس الذي يبنى عليه الفصل الثالث، فإن مراهقة الإنسان تتطور من خبرات طفولته, وتعتمد عليها وتؤلف أساس خبرات الرشد التالية.
ولأغراض الفهم العلمي تنقسم دورة الحياة في العادة إلى مراحل متعددة, وقد أطلق عليها ليفنسون "Levinson, 1978" مصطلح "مواسم" الحياة, بل إن معظم كتب علم نفس النمو تركز على بعض المراحل دون سواها, ولعل المرحلتين الأكثر شيوعًا هما الطفولة والمراهقة، وهو الطابع الغالب على معظم ما صدر في هذ الميدان من كتب باللغة العربية إذا استثنينا كتاب الرائد الراحل فؤاد البهي السيد "الأسس النفسية للنمو من الطفولة إلى الشيخوخة" "فؤاد أبو حطب، 1997"، بل إن معظم الكليات والمعاهد الجامعية تقدم مقررات حول نمو الطفل ونمو المراهق ونمو الراشد وهكذا.
وعلى الرغم من ملائمة مفهوم المرحلة النمائية للأغراض الأكاديمية إلّا أنه قد يؤدي إلى نوعين من سوء الفهم: أولهما: الشعور بأن مراحل الحياة منفصلة منعزلة, بينما هي ليست كذلك بحكم أنها جزء من تيار الحياة المتدفق، والواقع أن هذه المراحل يتطور بعضها من بعض بشكل مستمر, وثانيهما: الحصول على انطباع زائف عن أن مراحل الحياة ثابتة, بينما هي في الواقع تتضمن تغيرت وتحولات دائمة في داخلها, ومن ذلك مثلًا أن الفرد لا يبقى معطلًا في مرحلة المراهقة, حتى يصبح مستعدًا للقفز إلى الأمام في مرحلة الرشد المبكر. وما يحدث بالفعل أنه يوجد نمو دائم داخل المراهقة, كما هو الحال في جميع مراحل الحياة.
والرشد المبكر لا يتبع المراهقة فحسب, ولكنه يتطور تدريجيًّا منها, ومعظم ما نحن عليه في مرحلة معينة من مراحل حياتنا هو نتاج لما كنا عليه في المراحل السابقة.
ولعل هذا هو ما دفعنا إلى أن يتمركز كتابنا هذا حول مفهوم "النمو مدى الحياة" Life - Span Edvelopment، حتى يتجنب القارئ سوء الفم الذي ينشأ حتميًّا على التركيز المستمر على مراحل الحياة مع الفشل في إدراك الاستمرار والتواصل في أنماط النمو لدى الفرد, ونحن حين نركز على مفهوم "مدى الحياة" في دراسة النمو, فإننا بذلك ندمج الماضي في المستقبل على نحوٍ يقودنا إلى وعي "حاضر" باتصال الحياة, فالماضي والمستقبل هما المحوران الرئيسيان للزمن السيكولوجي "فؤاد أبو حطب، آمال صادق، 1985".
ولعل مفهوم "مدى الحياة" الذي شاع كثيرًا في دراسات سيكولوجية النمو ابتداء من الربع الأخير من القرن العشرين "على الرغم من جذوره الأصيلة في الثقافة العربية الإسلامية كما سنتبين فيما بعد" هو الذي دفع مارجريت ميد "mead, 1972" إلى المطالبة بتوظيف هذا المفهوم في فهم طبيعة العلاقة بين الأجيال "وخاصة جيل الأحفاد وجيل الأجداد", فكل منهما يتعلم من الآخر معنى اتصال الحياة؛ فالجد يقدِّمُ لحفيده آصرة الماضي، والحفيد يقدم لجده الإحساس بالمستقبل, ومن خلال تفاعلهما يتشكل الماضي والمستقبل في بوتقة الحاضر.
ومفهوم مدى الحياة يقودنا إلى مسألة هامة أخرى، وهي أن النمو لا يعني التحسن المستمر في مختلف مراحل العمر, وقد اقترح أحد مؤلفي هذا الكتاب "فؤاد أبو حطب، 1983، 1985" نسقًا ارتقائيًّا تطوريًّا لدورة الحياة, وجوهر هذا النسق أن مسار الحياة Life -Path, أو مدى الحياة يتضمن متوالية معقدة حتى الأحداث والظواهر التي يشهدها الإنسان من لحظة الإخصاب في رحم الأم حتى
لحظة الاستلقاء على فراش الموت, إلّا أن هذه المتوالية لا تتضمن تصورًا خطيًّا لحدوثها، وإنما هي في معناها الحقيقي دورة، أو إذا شئت الدقة: منحنى يصوره الإعجاز الإلهي في قول القرآن الكريم:
{اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ} [الروم: 54] .
منحنى يمثل قوة بين ضعفين، ووسطًا بين طرفين، ويعد الصبا young-hood بكل ما فيه من نمو في الطفولة والمراهقة طرف الضعف الأول، أما الشيخوخة ageing بكل ما فيها من تدهور, فهي طرف الضف الثاني، وبينهما قوة الرشد Adulthood, وهذ التصور القرآني للنمو مدى الحياة هو الموجه العام لبناء هذا الكتاب