هناك إجماع على أنَّ أعمال جان بياجيه كان لها من الأثر على علم نفس النمو أكثر مما كان لأي عالم, ومن المحتَمل أن أعماله أصبحت مألوفة إلى حدٍّ ما لكلٍّ من علماء النفس والمثقفين, وإنها لحقيقة عجيبة أن كثيرًا من المؤلفين والباحثين في علم نفس النمو ربما لا يذكرون اسم بياجيه على الإطلاق، أو على الأقل يأتي ذكرهم له من باب الفضول. وقد واجه بياجه هذا الإهمال من جهة؛ لأنه يكتب الفرنسية، ومن المحتمل أن تكون الترجمة سببًا في بخس تقدير كثير من الباحثين لأعماله, أو وصفها بعدم الوضوح. ولذلك فإن النظريات التي استخدمت اصطلاحات مثل "مرحلة" stage أو "موجز شكلي" schemas أو "تكوين" structure كانت إشارات إلى تركيبات عضوية لم تكن تقبل كعلم. إن ما حدث يصفه سبيري sperry "1975، 33" وصفًا قويًّا بقوله
عد أكثر من 50 عامًا من الرفض القاطع لاصطلاحات مثل: "صورة عقلية" و"الصور البصرية واللفظية والسمعية" طيلة السنوات الماضية، أصبحت هذه الاصطلاحات شائعة الاستخدام كتركيبات تفسيرية في المؤلَّفات المتعلِّقة بالمعرفة، والإدراك, وغيرهما من الوظائف الأعلى".
إن التفسير المراجع يقود العقل الواعي إلى التتابع السببي في مجال اتخاذ القرارات، وبالتالي في مجال السلوك عامَّة، وعلى ذلك يعود به إلى مجال العلم التجريبي الذي استبعد منه منذ زمن طويل. إن هذا التحوّل في علم النفس وعلم الأعصاب، بعيدًا عن المادية المتشددة والانخفاضات, والدفع بها إلى نمط جديد من المادة أكثر تقبلًا, يميل الآن نحو استعادة بعض الكرامة والحرية وغيرهما من السمات الإنسانية إلى الصور العلمية للطبيعة الإنسانية بعد أن حرمتها منها المعالجة السلوكية".
وهكذا فإنه نتيجة للتغيّر في الفلسفة السائدة ولنشر الوصف الدقيق لأبحاث بياجيه ونظرياته "flasell, 1963" أصبحت أعماله واسعة الانتشار. إنها تعتبر حاليًا وصفًا تصوريًّا يكاد يكون كاملًا لنمو القدرات المعرفية منذ الولادة وإلى النضج, ومن نتائج هذا الاعتراف الممتد أن تتابعت الأبحاث حول كثير من افتراضاته ونتائجه عن النمو، وهي أبحاث أدَّت إلى التوسُّع في النظرية وتعديلها.
الافتراضات الأساسية وبعض النقد:
إن افتراضات بياجيه قد لا تسمح باختبارها بالتجارب, ولكنها تصبح أكثر مناعة كلما وجدنا أن الجوانب الأخرى من النظرية التي يمكن اختبارها تتفق وهذه الافتراضات. لقد تعلَّم بياجيه أساسًا كعالم
النفس، وخاصَّة علم نفس الطفل, كما أنه اغترف من مناهل أساسيات المنطق والفيزياء، وكلاهما يبرزان في تفاصيل نموذجه النظري. إن بياجيه لا يعتبر نفسه عالم نفس أو بيولوجيا، ولكن عالم في فلسفة المعرفة والمنطق بالوراثة، وكباحثٍ في نشأة المعرفة الإنسانية.
وعندما شرع بياجيه في بناء نموذجيه الشاملين ابتدع طريقتين للمعالجة: أحدهما تصورية، والأخرى منهجية, الأمر الذي جعل بعض علماء النفس يرفضون عمله. ونظريته تقدّم فرجًا بين اهتمامه المبكر بالبيولوجيا واهتمامه اللاحق بعلم النفس, وتعتمد نظريته من الناحية البيولوجية على آليات سلوكية فطرية وأنماط فعل, وتنبعث أنماط الفعل هذه في تتابع لا يتغير، يحتوي كل مستوى فيها على المستويات السابقة له, ولكنه يعدلها نوعيًّا "وهذا التصور شبيه بوجهة نظر برونر بالنسبة للغة كنظام رمزي، ولتصور "وارنر" للتنظيم الهرمي. وترمي مبادئه إلى التأكيد على الافتراضات البيولوجية، ومن السهل، عند قراءة مؤلفه الأصلي أن نفهم كيف أسره التناسق في السلوكيات النامية التي لاحظها, ولكن بياجيه لا يعتبر أن البيئة تلعب دورًا تافهًا, وهو يختلف عن برونر في أنه يعتقد أن العمليات المعرفية التي تظهر لا تختلف بين مختلف الثقافات "انتقال ثقاقي"، ولكن يعترف في وضوحٍ بأن التركيب العضوي "الفرد" يجب أن تكون له بيئة تؤثِّر فيه ويؤثِّر فيها إذا أريد للنمو أن يحدث. وقد ذكر بعض النقاد أنَّ ما يبدو من المبالغة في التأكيد على البيولوجي واستبعاد المتغيرات النفسية التي يمكن تناولها تجعل النظرية غير علمية, أو على الأقل وصفية، وغير قادرة على الاختبار التجريبي.
انتقادات السلوكيين:
وجَّه السلوكيون انتقادات عديدة لنظرية بياجيه المعرفية, وكان أبرزها انتقاداتهم حول المراحل النمائية، وكذلك المنهجية التي استخدمها في استخلاص المبادئ الأساسية في النظرية, وذلك على النحو التالي:
- مراحل بياجيه:
لم يقتصر أمر نموذج بياجيه على مخالفة النظرية السلوكية "reese & overton, 1970, overton & reese 1973", بل إنه اشتمل أيضًا على مفاهيم واسعة المدى مثل: "المراحل", وذكر كيسن kessen "1962" أنَّ استخدام لفظ "مرحلة" كمرادف للسن، لا يعتبر إضافة مجدية لاصطلاحات علم النفس, وعلى ذلك فقد جادل السلوكيون في محاولةٍ للإقناع بأن علم النفس ليس في حاجة لمفهوم المرحلة؛ لأنه مفهوم خاوٍ من الوجهة النظرية، علاوةً على ذلك، فقد أظهر كيسن kessen أنَّ استخدام هذا المصطلح بطريقة وصفية هو الآخر خاوٍ. إن "مرحلة" يمكن استخدامها من باب التكرار غير المفيد, "إن الطفل في مرحلة المشي لأن الطفل يمشي", إن ذلك ليس سوى طريقة دائرية للقول بأن الطفل يمشي. وعلماء النفس قد استخدموا فكرة "المرحلة" إمَّا للإشارة إلى جانب وصفي من سلوك الطفل, أو كمرادف "للسن", والصعوبة هي في ذلك: مصطلح "مرحلة" في هذه النصوص يبدو أنه يعني شيئًا أكثر مما قصده بياجيه فعلًا، وكان للسلوكيين الحق في رفض هذا الاستخدام. إن المراحل لكي تكون مفيدة ومثمرة، يجب أن تؤخذ على اعتبار أنها "متغيرات باراماترية "قياسية" لمجموعة أساسية من البيانات النظرية "kessen, 1962, 69". وبعبارة أخرى: بالنسبة للجوانب الأساسية العريضة لنظرية بياجيه، فإن الاستخدام المجدي لهذا المفهوم هو لتبيان كيف تؤثر التغيرات في المراحل على البيانات النظرية الأساسية. إن بناء المرحلة يجب أن يساعد على التنبؤ بالطريقة التي يتغيِّر بها السلوك من مرحلة إلى أخرى, ويجب أن يضع قواعد الانتقال من مرحلة إلى أخرى, وإلى هذا الحد فإنَّ هذه القواعد الانتقالية غير محدَّدة بوضوح.
2- انتقادات المنهجية:
كانت منهجية بياجية موضع الانتقاد الشديد في موضوعين: العدد المحدود من المفحوصين، المستخدمة في أبحاثه، واستخدامه للطريقة الإكلينيكية, وفيما يختص بالنقد الأول، فقطعًا لا مجال للجدل في أنَّ القاعدة التجريبية التي اشتق منها بياجيه نموذجه للنموّ المبكر كان يتكوَّن من ثلاثة أطفال، والأدهى من ذلك، أن هؤلاء الأطفال كانوا أطفاله هو. إن لنا أن نتشكك في كفاية نموذج نظري يقوم
على ثلاثة أطفال يحتمل ألَّا يكونوا ممثلين للأطفال عامَّة, وقد يكون لهذا النقد وزنًا أكبر إذا تذكَّرنا أن بياجيه لم يتزعزع في اعتقاده بأنَّ المراحل المعرفية لا تتغير عبر الثقافات. لقد كان مفحوصوه يمثلون ثقافة واحدة، وعلاوة على ذلك فإنهم لم يكونوا مميزين لهذه الثقافة, ولو كان على بياجيه أن يرد على هذا النقد "من المحتمل أنه لم يكن ليستجيب"، فربما دافع عن رأيه بأنَّ أنماط الفعل تخرج بترتيب لا يتغير, ولذلك فلا حاجة للإفاضة في موضوع عدد "المفحوصين" "المفحوص= أفراد العينة".
ومن العجيب أن إحدى المعالجات السلوكية الحديثة الهامة، وهي موقف سكينر skinner الذي يتفق وموقف بياجيه, ويجري أنصار سكينر أبحاثهم على أعداد صغيرة من المفحوصين، يجرون عليهم قياسات معينة, وهم يبررون منهاهجهم في التجريب بنفس الطريقة التي برَّرَ بها بياجيه مناهجه، وهي أنَّ مبادئهم عن السلوك هي مبادئ عامة, وأنها تنطبق على كل التركيبات العضوية "الأفراد"، رغم أن القياسات التي تحدّد خواص المثير وموقف المثير قد يتطلّب الأمر تعديلها تبعًا لخواص التركيب العضوي "الفرد" الذي تجرى دراسته, أو تبعًا للسن "في حالة المفحوصين من البشر". وقد لاقت معالجة سكينر skinner نفس رد الفعل السلبي، غالبًا من نفس الأشخاص الذين انتقدوا بياجيه! ولكن منذ أن صدرت الصبغة المبدأية للنظرية، قام بياجيه وزملاؤه وأتباعه في كثير من البلاد بتحقيق الكثير من استنتاجاته مع أعداد لا تحصى من الأطفال.
والنقد الثاني لأعمال بياجيه: استخدامه للطريقة الإكلينيكية, والذي قد يكون أكثر خطورة، وهو قطعًا أصعب في الدفاع عنه. إن الطريقة الإكلينيكية تناسب اتجاهه التصوري والفلسفي الشامل، ولكنها استخدمت بطريقة فريدة, وقد يفيد هنا أن نقدِّم مثلًا توضيحيًّا, فكثير من علماء النفس المهتمين بالتعليم يرغبون في معرفة ما إذا كان الأطفال في سن 6 سنوات يعرفون أسماء الألوان الأساسية, وعندما يجدون أطفالًا يجهلون هذه الأسماء, فإنهم يحاولون التوصُّل إلى أفضل طريقة لتعليمهم إياها. إن اهتمامهم بهذه الظاهرة المعنية ينبع من العلاقة بين معرفة أسماء الألوان وبين الأداء في القراءة، وهي علاقة ليس من السهل تفهمها. أما بياجيه فلم
يهتم إطلاقًا بمعرفة ما إذا كان الأطفال يعرفون ألوانهم، ولكنه قد يتساءل: كيف يرتِّب الأطفال الألوان، تبعًا مثلًا لشدة اللون أو لمعانه. والمعطيات الأساسية للإجابة على هذا السؤال الأكثر تعقيدًا يجب أن تتأتي من الملاحظة الدقيقة للأطفال في مجموعة منوَّعة من واجبات متصلة, ومن تفسيرات الأطفال أنفسهم لسلوكهم. وبياجيه لا يهتم عادةً بما إذا كانت استجابة الطفل لمطلب معرفي ما صحيحة أو غير صحيحة, فإذا كانت الاستجابة صحيحة يستخدم بياجيه المقابلات وتشكيلات المواد المثيرة ليحدد أنواع الافتراضات العقلية التي كوَّنها الطفل, ثم يستخلص منها العمليات العقلية التي يستخدمها الطفل للتوصل إلى الاستجابة غير الصحيحة. فإذا قدَّم الطفل استجابة صحيحة، لا نستطيع دائمًا أن نفترض أنها ناتجة عن نفس القواعد أو العمليات التي يستخدمها الراشدون, وطبقًا لما يذكره فلافيل flovell 1963، ص28".
"إن للطريقة الإكلينيكية التي استخدمها بياجه سمات كثيرة مشتركة مع مقابلات التشخيص والعلاج، مع اختبارات استطلاعية أيضًا، ومع ذلك النوع من الاستطلاع اللاتقليدي الذي يستخدم عادة في الأبحاث التجريبية في كلِّ العلوم السلوكية. والخلاصة هي أنه لاستطلاع مجموعة متباينة من سلوكيات الأطفال في تتابع مثير، استجابة، مثير، استجابة، ففي خلال هذا التابع السريع يستخدم القائم بالتجربة كل ما لديه من بُعْدِ نظر ومقدرةٍ لفهم ما يقوله الطفل أو يعمله، ويطبِّق سلوكه على أساس هذا الفهم".
تفاصيل نظرية بياجيه:
لا شكَّ في أنَّ بياجيه قد أوضح أن الأطفال ليسوا مجرَّد راشدين مصغرين. إن اقتراحه بالمراحل المختلفة نوعيًّا تدلل على اعتقاده بأنَّ طرق تفكير الأطفال تختلف كثيرًا عن طرق الراشدين, ولكننا لا نستطيع تحديد هذه الاختلافات إلّا إذا توفَّرت لدينا الوسائل الفنية للكشف عنها. إننا كثيرًا ما نضطر لسؤال الأطفال أسئلة محددة, ولهذه المعالجة نتيجة غير مرضية في أنَّ التشكيلات والأسئلة الناتجة تكون على درجة عالية من التخصيص والمواقف المحددة, وبالتالي فإننا لا نستطيع الحكم بما إذا كانت استجابات الأطفال منفردة بالنسبة للمثير أو الموقف أو لكليهما. وقليل من علماء النفس يضارعون بياجيه في مهارته في تشكيل المواد وطرح
الأسئلة المناسبة على الأطفال. ومع إننا لا نستطيع تجاهل الانتقاد بأنَّ أعماله يصعب جدًّا تكرارها، فإن الكثير من الآراء العامَّة في نظريته قد دلَّل آخرون على صحتها في مواقف أحسن تخطيطًا وقياسًا وأحكامًا مما فعله هو.
وفيما يلي عرض الخطوط العريضة لتفاصيل نظرية بياجيه في النمو المعرفي:
أ- الطفل كباحث نشط:
سنبدأ مناقشتنا لنظرية بياجيه بالافتراض العضوي العام أن الطفل باحث نشط. وفي ملاحظات شبيهة بملاحظات برونر وفيرنر، لاحظ بياجيه أنَّ الأطفال يؤثرون على بيئتهم باستجابات انعكاسية في فترة الطفولة المبكرة، ثم باستجابات أكثر تعقيدًا تنبعث من تلك التفاعلات المبكرة. ويرى بياجيه أن التفاعل المتبادل بين التركيب العضوي والبيئة عملية ذات اتجاهين، أحدهما: هو المواءمة accomilation, والآخر: هو الاستيعاب "التمثل" assimilation. وفي حالة المواءمة نجد أن معرفة الطفل بالبيئة تتعدل لتستوعب أشياء أو خبرات جديدة, والمؤاءمة هي سمة التملُّك العرفي الذي يتكشَّف مع المتطلبات المعرفية العديدة التي تفرضها البيئة. وفي الاستيعاب يدمج الطفل شيئًا أو خبرة جديدة في تكوين قائم، أي: إن الطفل يتواءم مع معرفة سبق له اكتسابها. وعملية التواؤم أو مطابقة خبرات أو أشياء جديدة في تكوينات موجودة من قبل يندر أن تكون أمينة مع الصفات الفعلية للأشياء, وبعبارة أخرى: فإن عملية الاستيعاب تتضمَّن تعديلات للشيء؛ بحيث يصبح ملائمًا للتنظيم المعرفي القائم, ومن المستحيل الفصل بين التواؤم والاستيعاب. "عادل عبد الله 1990، 42". ويجب على القارئ ألَّا يفترض أنهما متعاقبان أو أنَّ إحداهما أكثر هيمنة من الأخرى, أو أكثر منها أهمية. إنهما في الحقيقة متبادلتان، والتفاعل المتبادل بينهما يولّد النمو المعرفي, والبيان التفسيري التالي الذي قدَّمه فلافيل flavell "1963 ص59-50" يكشف عن تعقيدات الموضوع وعن أهميته:
"إن التقدُّم المعرفي في نظام بياجيه، ممكن لعدة أسباب، أولهما: إن الأفعال التواؤمية دائمة الامتداد إلى سمات جديدة ومختلفة للبيئة القريبة؛ لدرجة أن سمةً ما تَمَّ التواؤم معها حديثًا, يمكن أن نجد لها مكانًا مناسبًا في التكوين القائم للمعاني،
عد أكثر من 50 عامًا من الرفض القاطع لاصطلاحات مثل: "صورة عقلية" و"الصور البصرية واللفظية والسمعية" طيلة السنوات الماضية، أصبحت هذه الاصطلاحات شائعة الاستخدام كتركيبات تفسيرية في المؤلَّفات المتعلِّقة بالمعرفة، والإدراك, وغيرهما من الوظائف الأعلى".
إن التفسير المراجع يقود العقل الواعي إلى التتابع السببي في مجال اتخاذ القرارات، وبالتالي في مجال السلوك عامَّة، وعلى ذلك يعود به إلى مجال العلم التجريبي الذي استبعد منه منذ زمن طويل. إن هذا التحوّل في علم النفس وعلم الأعصاب، بعيدًا عن المادية المتشددة والانخفاضات, والدفع بها إلى نمط جديد من المادة أكثر تقبلًا, يميل الآن نحو استعادة بعض الكرامة والحرية وغيرهما من السمات الإنسانية إلى الصور العلمية للطبيعة الإنسانية بعد أن حرمتها منها المعالجة السلوكية".
وهكذا فإنه نتيجة للتغيّر في الفلسفة السائدة ولنشر الوصف الدقيق لأبحاث بياجيه ونظرياته "flasell, 1963" أصبحت أعماله واسعة الانتشار. إنها تعتبر حاليًا وصفًا تصوريًّا يكاد يكون كاملًا لنمو القدرات المعرفية منذ الولادة وإلى النضج, ومن نتائج هذا الاعتراف الممتد أن تتابعت الأبحاث حول كثير من افتراضاته ونتائجه عن النمو، وهي أبحاث أدَّت إلى التوسُّع في النظرية وتعديلها.
الافتراضات الأساسية وبعض النقد:
إن افتراضات بياجيه قد لا تسمح باختبارها بالتجارب, ولكنها تصبح أكثر مناعة كلما وجدنا أن الجوانب الأخرى من النظرية التي يمكن اختبارها تتفق وهذه الافتراضات. لقد تعلَّم بياجيه أساسًا كعالم
النفس، وخاصَّة علم نفس الطفل, كما أنه اغترف من مناهل أساسيات المنطق والفيزياء، وكلاهما يبرزان في تفاصيل نموذجه النظري. إن بياجيه لا يعتبر نفسه عالم نفس أو بيولوجيا، ولكن عالم في فلسفة المعرفة والمنطق بالوراثة، وكباحثٍ في نشأة المعرفة الإنسانية.
وعندما شرع بياجيه في بناء نموذجيه الشاملين ابتدع طريقتين للمعالجة: أحدهما تصورية، والأخرى منهجية, الأمر الذي جعل بعض علماء النفس يرفضون عمله. ونظريته تقدّم فرجًا بين اهتمامه المبكر بالبيولوجيا واهتمامه اللاحق بعلم النفس, وتعتمد نظريته من الناحية البيولوجية على آليات سلوكية فطرية وأنماط فعل, وتنبعث أنماط الفعل هذه في تتابع لا يتغير، يحتوي كل مستوى فيها على المستويات السابقة له, ولكنه يعدلها نوعيًّا "وهذا التصور شبيه بوجهة نظر برونر بالنسبة للغة كنظام رمزي، ولتصور "وارنر" للتنظيم الهرمي. وترمي مبادئه إلى التأكيد على الافتراضات البيولوجية، ومن السهل، عند قراءة مؤلفه الأصلي أن نفهم كيف أسره التناسق في السلوكيات النامية التي لاحظها, ولكن بياجيه لا يعتبر أن البيئة تلعب دورًا تافهًا, وهو يختلف عن برونر في أنه يعتقد أن العمليات المعرفية التي تظهر لا تختلف بين مختلف الثقافات "انتقال ثقاقي"، ولكن يعترف في وضوحٍ بأن التركيب العضوي "الفرد" يجب أن تكون له بيئة تؤثِّر فيه ويؤثِّر فيها إذا أريد للنمو أن يحدث. وقد ذكر بعض النقاد أنَّ ما يبدو من المبالغة في التأكيد على البيولوجي واستبعاد المتغيرات النفسية التي يمكن تناولها تجعل النظرية غير علمية, أو على الأقل وصفية، وغير قادرة على الاختبار التجريبي.
انتقادات السلوكيين:
وجَّه السلوكيون انتقادات عديدة لنظرية بياجيه المعرفية, وكان أبرزها انتقاداتهم حول المراحل النمائية، وكذلك المنهجية التي استخدمها في استخلاص المبادئ الأساسية في النظرية, وذلك على النحو التالي:
- مراحل بياجيه:
لم يقتصر أمر نموذج بياجيه على مخالفة النظرية السلوكية "reese & overton, 1970, overton & reese 1973", بل إنه اشتمل أيضًا على مفاهيم واسعة المدى مثل: "المراحل", وذكر كيسن kessen "1962" أنَّ استخدام لفظ "مرحلة" كمرادف للسن، لا يعتبر إضافة مجدية لاصطلاحات علم النفس, وعلى ذلك فقد جادل السلوكيون في محاولةٍ للإقناع بأن علم النفس ليس في حاجة لمفهوم المرحلة؛ لأنه مفهوم خاوٍ من الوجهة النظرية، علاوةً على ذلك، فقد أظهر كيسن kessen أنَّ استخدام هذا المصطلح بطريقة وصفية هو الآخر خاوٍ. إن "مرحلة" يمكن استخدامها من باب التكرار غير المفيد, "إن الطفل في مرحلة المشي لأن الطفل يمشي", إن ذلك ليس سوى طريقة دائرية للقول بأن الطفل يمشي. وعلماء النفس قد استخدموا فكرة "المرحلة" إمَّا للإشارة إلى جانب وصفي من سلوك الطفل, أو كمرادف "للسن", والصعوبة هي في ذلك: مصطلح "مرحلة" في هذه النصوص يبدو أنه يعني شيئًا أكثر مما قصده بياجيه فعلًا، وكان للسلوكيين الحق في رفض هذا الاستخدام. إن المراحل لكي تكون مفيدة ومثمرة، يجب أن تؤخذ على اعتبار أنها "متغيرات باراماترية "قياسية" لمجموعة أساسية من البيانات النظرية "kessen, 1962, 69". وبعبارة أخرى: بالنسبة للجوانب الأساسية العريضة لنظرية بياجيه، فإن الاستخدام المجدي لهذا المفهوم هو لتبيان كيف تؤثر التغيرات في المراحل على البيانات النظرية الأساسية. إن بناء المرحلة يجب أن يساعد على التنبؤ بالطريقة التي يتغيِّر بها السلوك من مرحلة إلى أخرى, ويجب أن يضع قواعد الانتقال من مرحلة إلى أخرى, وإلى هذا الحد فإنَّ هذه القواعد الانتقالية غير محدَّدة بوضوح.
2- انتقادات المنهجية:
كانت منهجية بياجية موضع الانتقاد الشديد في موضوعين: العدد المحدود من المفحوصين، المستخدمة في أبحاثه، واستخدامه للطريقة الإكلينيكية, وفيما يختص بالنقد الأول، فقطعًا لا مجال للجدل في أنَّ القاعدة التجريبية التي اشتق منها بياجيه نموذجه للنموّ المبكر كان يتكوَّن من ثلاثة أطفال، والأدهى من ذلك، أن هؤلاء الأطفال كانوا أطفاله هو. إن لنا أن نتشكك في كفاية نموذج نظري يقوم
على ثلاثة أطفال يحتمل ألَّا يكونوا ممثلين للأطفال عامَّة, وقد يكون لهذا النقد وزنًا أكبر إذا تذكَّرنا أن بياجيه لم يتزعزع في اعتقاده بأنَّ المراحل المعرفية لا تتغير عبر الثقافات. لقد كان مفحوصوه يمثلون ثقافة واحدة، وعلاوة على ذلك فإنهم لم يكونوا مميزين لهذه الثقافة, ولو كان على بياجيه أن يرد على هذا النقد "من المحتمل أنه لم يكن ليستجيب"، فربما دافع عن رأيه بأنَّ أنماط الفعل تخرج بترتيب لا يتغير, ولذلك فلا حاجة للإفاضة في موضوع عدد "المفحوصين" "المفحوص= أفراد العينة".
ومن العجيب أن إحدى المعالجات السلوكية الحديثة الهامة، وهي موقف سكينر skinner الذي يتفق وموقف بياجيه, ويجري أنصار سكينر أبحاثهم على أعداد صغيرة من المفحوصين، يجرون عليهم قياسات معينة, وهم يبررون منهاهجهم في التجريب بنفس الطريقة التي برَّرَ بها بياجيه مناهجه، وهي أنَّ مبادئهم عن السلوك هي مبادئ عامة, وأنها تنطبق على كل التركيبات العضوية "الأفراد"، رغم أن القياسات التي تحدّد خواص المثير وموقف المثير قد يتطلّب الأمر تعديلها تبعًا لخواص التركيب العضوي "الفرد" الذي تجرى دراسته, أو تبعًا للسن "في حالة المفحوصين من البشر". وقد لاقت معالجة سكينر skinner نفس رد الفعل السلبي، غالبًا من نفس الأشخاص الذين انتقدوا بياجيه! ولكن منذ أن صدرت الصبغة المبدأية للنظرية، قام بياجيه وزملاؤه وأتباعه في كثير من البلاد بتحقيق الكثير من استنتاجاته مع أعداد لا تحصى من الأطفال.
والنقد الثاني لأعمال بياجيه: استخدامه للطريقة الإكلينيكية, والذي قد يكون أكثر خطورة، وهو قطعًا أصعب في الدفاع عنه. إن الطريقة الإكلينيكية تناسب اتجاهه التصوري والفلسفي الشامل، ولكنها استخدمت بطريقة فريدة, وقد يفيد هنا أن نقدِّم مثلًا توضيحيًّا, فكثير من علماء النفس المهتمين بالتعليم يرغبون في معرفة ما إذا كان الأطفال في سن 6 سنوات يعرفون أسماء الألوان الأساسية, وعندما يجدون أطفالًا يجهلون هذه الأسماء, فإنهم يحاولون التوصُّل إلى أفضل طريقة لتعليمهم إياها. إن اهتمامهم بهذه الظاهرة المعنية ينبع من العلاقة بين معرفة أسماء الألوان وبين الأداء في القراءة، وهي علاقة ليس من السهل تفهمها. أما بياجيه فلم
يهتم إطلاقًا بمعرفة ما إذا كان الأطفال يعرفون ألوانهم، ولكنه قد يتساءل: كيف يرتِّب الأطفال الألوان، تبعًا مثلًا لشدة اللون أو لمعانه. والمعطيات الأساسية للإجابة على هذا السؤال الأكثر تعقيدًا يجب أن تتأتي من الملاحظة الدقيقة للأطفال في مجموعة منوَّعة من واجبات متصلة, ومن تفسيرات الأطفال أنفسهم لسلوكهم. وبياجيه لا يهتم عادةً بما إذا كانت استجابة الطفل لمطلب معرفي ما صحيحة أو غير صحيحة, فإذا كانت الاستجابة صحيحة يستخدم بياجيه المقابلات وتشكيلات المواد المثيرة ليحدد أنواع الافتراضات العقلية التي كوَّنها الطفل, ثم يستخلص منها العمليات العقلية التي يستخدمها الطفل للتوصل إلى الاستجابة غير الصحيحة. فإذا قدَّم الطفل استجابة صحيحة، لا نستطيع دائمًا أن نفترض أنها ناتجة عن نفس القواعد أو العمليات التي يستخدمها الراشدون, وطبقًا لما يذكره فلافيل flovell 1963، ص28".
"إن للطريقة الإكلينيكية التي استخدمها بياجه سمات كثيرة مشتركة مع مقابلات التشخيص والعلاج، مع اختبارات استطلاعية أيضًا، ومع ذلك النوع من الاستطلاع اللاتقليدي الذي يستخدم عادة في الأبحاث التجريبية في كلِّ العلوم السلوكية. والخلاصة هي أنه لاستطلاع مجموعة متباينة من سلوكيات الأطفال في تتابع مثير، استجابة، مثير، استجابة، ففي خلال هذا التابع السريع يستخدم القائم بالتجربة كل ما لديه من بُعْدِ نظر ومقدرةٍ لفهم ما يقوله الطفل أو يعمله، ويطبِّق سلوكه على أساس هذا الفهم".
تفاصيل نظرية بياجيه:
لا شكَّ في أنَّ بياجيه قد أوضح أن الأطفال ليسوا مجرَّد راشدين مصغرين. إن اقتراحه بالمراحل المختلفة نوعيًّا تدلل على اعتقاده بأنَّ طرق تفكير الأطفال تختلف كثيرًا عن طرق الراشدين, ولكننا لا نستطيع تحديد هذه الاختلافات إلّا إذا توفَّرت لدينا الوسائل الفنية للكشف عنها. إننا كثيرًا ما نضطر لسؤال الأطفال أسئلة محددة, ولهذه المعالجة نتيجة غير مرضية في أنَّ التشكيلات والأسئلة الناتجة تكون على درجة عالية من التخصيص والمواقف المحددة, وبالتالي فإننا لا نستطيع الحكم بما إذا كانت استجابات الأطفال منفردة بالنسبة للمثير أو الموقف أو لكليهما. وقليل من علماء النفس يضارعون بياجيه في مهارته في تشكيل المواد وطرح
الأسئلة المناسبة على الأطفال. ومع إننا لا نستطيع تجاهل الانتقاد بأنَّ أعماله يصعب جدًّا تكرارها، فإن الكثير من الآراء العامَّة في نظريته قد دلَّل آخرون على صحتها في مواقف أحسن تخطيطًا وقياسًا وأحكامًا مما فعله هو.
وفيما يلي عرض الخطوط العريضة لتفاصيل نظرية بياجيه في النمو المعرفي:
أ- الطفل كباحث نشط:
سنبدأ مناقشتنا لنظرية بياجيه بالافتراض العضوي العام أن الطفل باحث نشط. وفي ملاحظات شبيهة بملاحظات برونر وفيرنر، لاحظ بياجيه أنَّ الأطفال يؤثرون على بيئتهم باستجابات انعكاسية في فترة الطفولة المبكرة، ثم باستجابات أكثر تعقيدًا تنبعث من تلك التفاعلات المبكرة. ويرى بياجيه أن التفاعل المتبادل بين التركيب العضوي والبيئة عملية ذات اتجاهين، أحدهما: هو المواءمة accomilation, والآخر: هو الاستيعاب "التمثل" assimilation. وفي حالة المواءمة نجد أن معرفة الطفل بالبيئة تتعدل لتستوعب أشياء أو خبرات جديدة, والمؤاءمة هي سمة التملُّك العرفي الذي يتكشَّف مع المتطلبات المعرفية العديدة التي تفرضها البيئة. وفي الاستيعاب يدمج الطفل شيئًا أو خبرة جديدة في تكوين قائم، أي: إن الطفل يتواءم مع معرفة سبق له اكتسابها. وعملية التواؤم أو مطابقة خبرات أو أشياء جديدة في تكوينات موجودة من قبل يندر أن تكون أمينة مع الصفات الفعلية للأشياء, وبعبارة أخرى: فإن عملية الاستيعاب تتضمَّن تعديلات للشيء؛ بحيث يصبح ملائمًا للتنظيم المعرفي القائم, ومن المستحيل الفصل بين التواؤم والاستيعاب. "عادل عبد الله 1990، 42". ويجب على القارئ ألَّا يفترض أنهما متعاقبان أو أنَّ إحداهما أكثر هيمنة من الأخرى, أو أكثر منها أهمية. إنهما في الحقيقة متبادلتان، والتفاعل المتبادل بينهما يولّد النمو المعرفي, والبيان التفسيري التالي الذي قدَّمه فلافيل flavell "1963 ص59-50" يكشف عن تعقيدات الموضوع وعن أهميته:
"إن التقدُّم المعرفي في نظام بياجيه، ممكن لعدة أسباب، أولهما: إن الأفعال التواؤمية دائمة الامتداد إلى سمات جديدة ومختلفة للبيئة القريبة؛ لدرجة أن سمةً ما تَمَّ التواؤم معها حديثًا, يمكن أن نجد لها مكانًا مناسبًا في التكوين القائم للمعاني،