تعود البداية الحديثة لفهمنا العلمي لميكانيزمات الوراثة إلى العالم النمسوي الشهير جوهان جريجور مندل J G Mendel "1828-1884", الذي بدأ حياته راهبًا يتسلّى بإجراء التجارب على نباتات حديقة الدير الذي يتنسك فيه, وقد نشر أول دراساته عام 1865, إلّا أنها لم تحظ باهتمام يذكر, ومع بداية القرن العشرين أُعِيدَ اكتشاف جهود مندل, وأعيد تقديره باعتباره مؤسس علم الوراثة الحديث.
ولعل أهم اكتشافات مندل أنه لاحظ أن بعض الخصائص التي توجد في الجيل الأول أو الأصلي "جيل الوالدين" تختفى في الجيل الثاني, ثم تعود للظهور في حوالي 25% من الحالات في الجيل الثالث, وقد حاول أن يفسر هذه النتائج, فافترض أنه في الجيل الأصلي يكون لدى كلٍّ من الوالدين عاملان وراثيان "أو مورثان بالتعبير الذي شاع فيما بعد" هما صورتان متضادتان لخاصية واحدة, وهذا النوع من المورثات يسمى الآن المورثات متضادة الصفات Allele, واقترح مندل أن كلًّا من الوالدين ينقل إلى النسل أحد قطبي هذه الصفة, ويتفق هذا مع ما أثبته علم الوراثة الحديث الذي يؤكد أن النطفة -باعتبارها تحمل نصف صبغيات الخلية الأصلية- تحمل في نفس الوقت أحد قطبي هذا النوع من المورثات المتضادة الصفات, فإذا انتقل إلى النسل نفس الصورة للخاصية من كلٍّ من الوالدين, تكون نطفة الأمشاج من النوع المتجانس homozygous بالنسبة للخاصية، أما إذا انتقلت إليه من أحد الوالدين إحدى صورتي الخاصية المتضادة, ومن الوالد الآخر الصورة الأخرى, تكون الأمشاج من النوع المتغاير heterozy gous, كما اقترح مندل أيضًا أن إحدى الصورتين قد تسيطر على الصورة الأخرى, وتسمى في هذه الحالة الخاصة السائدة dominant, وبسبب قوتها تظهر نفسها دائمًا في النسل التالي, وتسمى الصورة المتضادة في هذه الحالة بالخاصية المتنحية rececssive, والتي لا تظهر إلّا في حالة غياب الخاصية السائدة, وبالطبع
فإن الخاصية المتنحية -على الرغم من أنها قد لا تظهر- إلّا أنها تظل كامنة في جميع الأجيال اللاحقة, وهكذا ميَّزَ مندل -لأول مرة أيضًا- بين ما يسمى الآن النمط الوراثي genotype والمظهر الموروث phenotype, وهما مفهومان هامان سنتناولهما بالتفصيل فيما بعد.
وبهذه الطريقة كان مندل قادرًا على تفسير نتائجه الطريفة التي حصل عليها من بحوثه على نبات الفاصوليا, ففي تجاربه كان يجعل الجيل الأصلي من النبات "الوالدان" يحمل كل منهما مورثين لكل خاصية, إلّا أن أحدهما كان يجعل مورثات من النوع السائد فقط "ولتكن مثلًا مورثات البذور الصفراء اللون" "ويحمل الوالد الآخر مورثات متنحية فقط "مورثات البذور الخضراء اللون", وبهذا ترث نباتات الجيل الثاني جميعًا مورثات الخاصية السائدة, ومورثات الخاصية المتنحية، ومع ذلك لا تظهر إلّا الخاصية السائدة فقط "بذور صفراء", وحين تخصب هذه النباتات الجديدة ذاتيًّا, ورث 25% من النباتات الجديدة مورث الخاصية المتنحية, فإن هذه الخاصية "أي: البذور الخضراء اللون" تظهر.
وهكذا كانت بحوث مندل المبكرة, البداية العلمية الصحيحة لعلم الوراثة الحديث, وقد أفادت افتراضاته في تفسير أنماط معينة من الوراثة, لا تقتصر على النبات فحسب, وإنما تمتد إلى الأنواع الحيوانية أيضًا, إلّا أن التطورات التي شهدها هذا العلم بعد ذلك أثبتت أن ميكانيزمات الوراثة التي اقترحها مندل تقتصر على وراثة الخصائص التي تتأثر بزوج واحد من الموروثات أو عدد قليل منها, وقد أيدت هذه البحوث كثيرًا من فروضه إلّا أنه في بعض الحالات الأخرى تطلبت نتائج البحوث تفسيرات كثيرة عديدة أخرى, ومن ذلك مثلًا أن المورثات السائدة والمتنحية لا تظهر دائمًا على النحو الدقيق الذي وصفه مندل, وذلك للأسباب الآتية:
1- الأدوار العديدة التي تلعبها بعض الموروثات الأخرى, بالإضافة إلى الدور الهام الذي تقوم به البيئة.
2- توجد لبعض الصفات مورثات عديدة من النوع المتضاد الصفات alleles, وليس مورثًا واحدًا كما افترضت النظرية الأساسية لمندل.
3- المورثات التي توجد على صبغي الجنس تعمل بطريقة مختلفة عن تلك التي تعمل بها المورثات التي على الصبغيات الأخرى في الخلية الواحدة.
4- يتأثر كثير من الخصائص بأزواج عديدة من المورثات, وليس بزوج واحد فقط، وتسمى هذه الحالة بالوراثة المتعددة الأصول polygene.
كيف تنتقل الخصائص الوراثية:
يوجد في أزواج الصبغيات في الخلية جميع عوامل الوراثة التي تحمل التعليمات البيوكيميائية التي تؤدي إلى إنتاج فروق ملحوظة بين الأجنة, ثم بين الأفراد بعد ولادتهم, في الخصائص الجسمية وفي السلوك, ويؤكد علم الوراثة الحديث أن ما يورث بالفعل ليس سمة أو خاصية معينة؛ كالذكاء أو الشعر المجعد، وإنما التعليمات الجسمية للخلية لإنتاج أو عدم إنتاج البروتينات التي تُعَدُّ مسئولة في نهاية الأمر عن حدوث الفعل الذكي, أو ظهور الشعر المجعد في الرأس.
ووصف نشاط المورثات يفيدنا في تحديد معنى مصطلحين هامين أشرنا إليهما فيما سبق, هما النمط الوراثي genotype, والمظهر الموروث phenotype, ويشير أولها إلى التنظيم الوراثي الحقيقي والأصلي الموجود في خلايا الفرد, أما المصطلح الثاني "المظهر الموروث", فيشير إلى الخصائص التي يتم التعبير عنها وملاحظتها في الفرد, والتي تُعَدُّ نتاجًا للنمط الأول "النمط الوراثي", ونحن لا نزال لا نعرف الكثير عن النمط الوراثي الخاص للسمات أو الخصائص التي نلاحظها في الفرد؛ لأننا لا نعرف الكثير بعد عن نشاط المورثات في الخلية الإنسانية, وكثير من الخصائص المرتبطة بالسلوك الإنساني "كالذكاء والانسباط" هي تنظيمات معقدة لأنماط سلوكية عديدة، كل منها يمثل مظهرًا لموروثات كثيرة جدًّا, أما بالنسبة للسمات الأقل تعقدًا "وأغلبها من نوع الخصائص الجسمية؛ كلون الشعر وفصيلة الدم" فمن السهل نسبيًّا وصف الشفرة الوراثية لها, أو نمطها الوراثي, ونعرض فيما يلي بعض الأمثلة لانتقال الخصائص الوراثية.
1- وراثة الخصائص السائدة ذات المورث الواحد:
حين تنتقل الخاصية بواسطة مورث سائد واحد, فإنها سوف تظهر دائمًا في النسل, ومن أمثلة هذه الخصائص التي أكدت نتائج علم الوراثة الحديث أن لها مورثًا سائدًا: اللون البني للعين، وطول النظر، وغمازات الوجه، والشعر المجعد، وأصابع اليد أو القدم الزائدة، وشحمة الأذن السائبة، والشعر الأرقط "الشعر ذو الخصلة البيضاء في مقدمة الرأس، والقدرة على لف اللسان إلى الخلف، والقدرة على لف اللسان نحو المركز، ومرض هانتنجتون Huntington "هو مرض قاتل من نوع اضطرابات الجهاز العصبي ويظهر في صورة اختلاجات تشنجية, وتقلصات عضلية لا إرادية في الوجه والأطراف, بالإضافة إلى تدهور النشاط العقلي". وحين يوجد المورث السائد في النمط الوراثي, فإنه يتم التعبير عنه دائمًا في صورة مظهر موروث, وإذا تزاوج معه مورث مختلف عنه في
صورة متنحية, فإنه يتفوق عليه دائمًا, وأحد الأنماط الوراثية التي يرثها الجنين يكون على هيئة انتقال المورث السائد من أحد الوالدين دون الوالد الآخر على الإطلاق، وتتشكل النطفة الأمشاج حينئذ في صورة متغايرة -كما بينا, وفي هذه الحالة يكون انتقال المورث وظهوره في النسل بنسبة 50%.
2- وراثة الخصائص المتنحية ذات المورث الواحد:
يعرف علماء الوراثة المتنحي بأنه: ذلك الذي لا يتم التعبير عنه في صورة مظهر موروث إلّا إذا تمت مزاوجته مع مورث آخر مشابه له، أو إذا غاب المورث السائد في النمط الوراثي للجنين, ومن الخصائص المتنحية التي أكدتها بحوث علم الوراثة الحديث: اللون الأزرق للعين، وعمى الألوان، ونمش الجلد، والشعر السبط "المستقيم الناعم غير المجعد"، وشحمة الأذن الملتصقة بالوجه، والصملاخ الجاف الذي تفرزه الأذن، والمهق albinism "حين يكون الشخص أو الحيوان لبني البشرة أبيض الشعر قرنفلي العين"، والتليف المراري cystic fibr sis "وينتج عن سوء نشاط الغدد"، ومرض تاى -ساكس Tay-Sacks ", وهو لون من اضطرابات الجهاز العصبي"، والفدامة cretinism "وهي حالة مرضية تنشأ عن اضطرابات نشاط الغدة الدرقية, وتتسم بالتشوه الجسمي وقصر القامة والضعف العقلي"، والمرض الناتج عن الأيض غير السوي المسمى phenylketonuria, واختصار "PKU" ويتمثل في العجز عن تذوق مادة الفينيل.
ومن الأنماط الوراثية أن يكون الوالدان معًا حاملين لمورث منتج لخاصية معينة؛ مثل: مرض العجز عن تذوق مادة الفينيل PKU الذي أشرنا إليه، وينتج عن ذلك نطفة أمشاج متغايرة, وفي هذه الحالة يكون لكلٍّ من الوالدين فرصة متساوية لنقل كلٍّ من المورث المتنحي للصفة "ح", والمورث العادي لها "ع", الدال على السواء, والذي يكون سادئًا عندهما في هذه الحالة، ويكون الناتج احتمال أن يرث النسل المورث المتنحي من الوالدين معًا بنسبة 25%, وفي هذه الحالة ينتقل المرض إلى الجنين، كما ينقله هو إلى جيل آخر, أما احتمال أن ينتقل إلى النسل مورث متنجٍ واحد, ومورث عادي واحد, فيكون 50%, وفي هذه الحالة لن يظهر على الجنين المرض، ولكنه يصبح حاملًا له, والاحتمال الثالث والأخير: فهو أن يرث الجنين مورثين عاديين سائدين وحينئذ يكون الجنين عاديًّا, ونسبة هذا الاحتمال 25%.
وهكذا فإن نمط الوراثة المتنحية لزوجٍ واحدٍ من المورثات, يحدد الكثير من الاضطرابات والأمراض التي يرثها الإنسان, وهذا هو السبب الجوهري في
التوصية بعدم زواج الأشخاص من ذوي القرابة القريبة, وهي الحكمة التي عبَّر عنها الرسول الكريم -كما بينا في الفصل الثالث, فجميع الأسر تحمل مورثات متنحية ضارة، والزواج الداخلي -أي: داخل الأسر- يزيد من فرصة أن يحمل كل من الزوجين نفس المورثات المتنحية.
3- وراثة الخصائص ذات المورثات المتعددة:
ناقشنا فيما سبق الأنماط الوراثية البسيطة التي تعود في جوهرها إلى مورث واحد, سواء أكان سائدًا أم متنحيًا، وهي الأنماط التي تنطبق عليها القوانين الكلاسيكية للوراثة منذ أن صاغها مندل, وفي هذا النوع من الوراثة لا يوجد كما بينا إلّا زوج واحد من المورثات تنتج فئات من نوع "إما ... أو.." فعمى الألوان مثلًا إما أن يوجد أو لا يوجد, وتؤكد بحوث علم الوراثة الحديث أنه يوجد حوالي 2000 خاصية من هذا القبيل, بعضها معروف وبعضها متوقع اكتشافه, كما توجد أكثر من 150 سمة وراثية مرضية من هذا النوع ينتج عنها التخلف العقلي "Libert et al 1986".
إلّا أنه توجد خصائص أخرى لا تقع تحت حصر تتأثر بعدة مورثات, وهذه الخصائص ليست من نوع الكم المنفصل "إما ... أو ... " الذي أشرنا إليه، وإنما تظهر في صورة كَمّ متصل, ففي حالة الطول مثلًا لا يكون الأفراد إما عمالقة أو أقزام، وإنما يتوافر تنوع هائل بين الناس في هذه الخاصية, ويصدق هذا على كثير من الخصائص الجسمية؛ مثل: الوزن ولون الجلد وحرارة الجسم، كما يصدق على الخصائص النفسية؛ مثل: الذكاء. ففي هذه الأمثلة وغيرها, يسهم كل مورث من المورثات العديدة المسئولة عن الخاصية بأثر صغير يضاف إلى آثار المورثات الأخرى, ومع زيادة عدد المورثات المسئولة عن الخاصية يزداد تنوع المظاهر الموروثة إلى الحد الذي لا يمكن عنده تمييز فئات مستقلة لمظاهر موروثة منفصلة.
وفي دراسة الوراثة متعددة المورثات لا يستطيع الباحث تتبع أثر كل مورث على حدة "تذكر أنه يوجد في الصبغي الواحد حوالي 50000 مورث في المتوسط", وبدلًا من ذلك, فإن الباحثين يفحصون بعناية توزيع الخصائص في المجتمع الأصلي باستخدام بعض الطرق الإحصائية المعقدة, ومن المفترض دائمًا أن خصائص أي مجتمع أصلي هي نتائج التفاعل بين الآثار الوراثية والبيئة، ولهذا يحاول الباحثون دراسة هذين المكونين بالمقارنة بين جماعات مختلفة بينهم درجات مختلفة من القرابة, ويتعرضون لظروف بيئية متشابهة أو مختلفة. "راجع فؤاد أبو حطب 1996".
صبغيات "كروموزومات" الجنس:
من الخصائص الرئيسية التي تتحكم فيها الوراثة وحدها خاصية جنس الجنين, والنمط الوراثي المرتبط ببناء جسم كلٍّ من الجنسين يوجد في كروموزومات" نواة النطفة الأمشاج "الزيجوت", وعلى هذا, فإنه من بين الأزواج الثلاث والعشرين من الصبغيات التي تؤلف الخلية البشرية الأولى, يوجد 22 زوجًا تسمى الأوتوزومات autosomes, وهي المسئولة عن التغيرات المختلفة خلال النمو, أما الزوج الثالث والعشرون من هذه الصبغيات فهو وحده المسئول عن النمو الجنسي للجنين.
ويوجد نوعان من صبغيات الجنس، أحدهما يسمى "الكروموزوم "س" أو "X", والآخر أصغر كثيرًا ويسمى الكروموزم "ص" أو "Y", وحين يكون زوج هذه الصبغيات في النطفة الأمشاج من نوع "س س", فإن المظهر الموروث يكون أنثويًّا، أما إذا كان زوج صبغيات الجنس في هذه النطفة من نوع "س ص" يصبح المظهر الموروث ذكريًّا.
ومن حقائق علم الوراثة أن بويضة الأم لا تحتوي إلّا على الكروموزم "س" فقط في جميع الحالات، بينما تحتوي بعض الحيوانات المنوية للأب على الكروموزوم "س", وبعضها الآخر على الكروموزوم "ص", وعلى ذلك, فعند إخصاب البويضة وحدوث الحمل "حيث تندمج نواة البويضة ونواة أحد الحيوانات المنوية ليؤلفا النطفة الأمشاج أو الزيجوت" وتكوين أزواج الصبغيات في الخلية الأولى في حياة الإنسان، فإن النمط الوراثي لجنس الجنين يكون إما من النوع "س", أي: "أنثى" حين ينقل كروموزوم من النوع "س" من كلٍّ من الأب والأم، أو "س ص", أي: "ذكر", حين ينقل من الأم كروموزم من النوع "س" -وليس عندها سواه كما قلنا, ومن الأب كروموزوم من النوع "ص"؛ لأن عنده النوعين. والاعتماد في الحالتين يكون على تكوين الحيوان المنوي للوالد الذي نجح في الاندماج مع بويضة الأم، أي: ما إذا كان كروموزم الجنس في هذا الحيوان المنوي من النوع س أو ص, ومعنى ذلك: أن جنس الجنين يحدده الأب أساسًا، ما دامت الأم لا تسهم إلّا بنوع واحد من كروموزوم الجنس وهو النوع "س".
ولا توجد طريقة تتحكم في نظام إخصاب البويضة؛ بحيث تتحول إلى نطفة أمشاج من جنس نريده, فتوزيع الكروموزومات الجنسية تحكمه قوانين الوراثة, وهي قوانين يصفها علماء الوراثة الغربيون بأنها نتيجة المصادفة، وهو مصطلح يطلق على النظام الذي يخرج عن نطاق التحكم البشري المباشر، والأصح في
رأينا أن نقول أن هذه القوانين تحكمها مشيئة الله تعالى, فما يخرج عن نطاق التحكم البشري ليس محض مصادفة، وإنما هناك المشيئة الأعلى والقدرة الأسمى التي خلقت الكون والإنسان, وحددت لهما سنن وجودهما, والتي يسميها القرآن الكريم "التقدير", يقول الله تعالى: {مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَه} "عبس: 19" راجع الفصل الثالث", وتقدير الله -جَلَّ شأنه تعالى- على أوصاف المصادفة والعشوائية وغيرها من المصطلحات الراهنة في علم الإحصاء الحديث, والتي انتقلت بدورها إلى علم الوراثة, والأصح من الوجهة الإسلامية أن نقول: إنه إذا أراد الله -سبحانه وتعالى- أن يلتقي الحيوان المنوي الحامل لكروموزوم الذكورة "ص", بالبويضة التي تحمل دائمًا كروموزوم الأنوثة "س", فإن الجنين يكون أنثى بأمر الله, وقد نَبَّه القرآن الكريم إلى هذه الحقيقة العلمية, يقول الله تعالى: {وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى، مِنْ نُطْفَةٍ إِذَا تُمْنَى} [النجم: 45-46] . أي: أن الذكورة والأنوثة تابعة لماء الرجل "راجع الفصل الثالث".
وحالما يتم تكوين النطفة الأمشاج باتحاد النطفة الذكرية والنطفة الأنثوية يتحدد نهائيًّا جنس الجنين, ولا يوجد وسيلة على أيّ نحو تغير من هذا الجنس, وعلينا أن ننبه هنا الأزواج الذين يلومون زوجاتهم على ولادة "البنات"؛ لعلهم يدركون من مناقشتنا السابقة أن كروموزوماتهم هي المسئولة -بمشيئة الله- عن تحديد "الجنس" وليس كروموزومات الأم، ربما لعلهم بهذا يخففون من غلوائهم، فهم وحدهم الملومون، إن كان هناك من يلام!
ويختلف نوعا صبغيات الجنس بعضهما عن بعض في الحجم, وعدد الموروثات داخل كلٍّ منهما؛ فالكروموزوم "ص" أصغرهما -كما بينا- بالإضافة إلى أنه يحتوي على عدد من المورثات أقل من الكروموزوم "س", وهذه الحقيقة تفسر لنا حدوث الاضطرابات الوراثية المرتبطة بالجنس.
وراثة الخصائص المرتبطة بالجنس:
توجد خصائص وراثية معينة تسمى الخصائص المرتبطة بالجنس، والتي تتأثر بالمورثات التي توجد على صبغيات الجنس, ومن المعروف أن الكروموزوم "ص" أقل في عدد مورثاته من الكروموزوم "س" كما ذكرنا, لهذا نجد أن معظم تلك الخصائص تحملها مورثات النوع الأخير, أي: "س"، وهو في جوهره صبغي أنثوي, ومن الاضطرابات الوراثية التي يحملها هذا الكروموزوم مرض الهيموفيليا "سيولة الدم", وعمى الألوان المرتبط باللونين الأحمر والأخضر، والصلع، وبعض صور الصمم، وبعض صور خلل الجهاز العضلي.
وفي بعض حالات الوراثة المرتبطة بالجنس يكون المورث متنحيًا, خذ على سبيل المثال: الاضطراب الجسمي المعروف باسم الهيموفيليا "سيولة الدم" الذي قد يظهر في الجنين إذا كان مورثه متنحيًا, ولا يوجد في النمط الوراثي مورث سائد خاص بتجلط الدم, إلّا أنه في معظم الحالات نجد أن الأجنة الذين لديهم مورث متنحٍ لسيولة الدم يكون لديهم أيضًا مورث سائد خاص بالتجلط الصحي للدم، ولذلك لا يظهرون هذا الخلل، ويصبحون فقط حاملين وراثيين له, وبالطبع إذا كانت الأم حاملة لهذا المورث المرضي فإنها تنقله إلى نسلها، إلّا أن هذا الانتقال يختلف في الذكور عن الإناث, فإذا كان الجنين ذكرًا, فإن نسبة وراثيته لهذا الاضطراب تصبح 50%, ما دام لا يوجد مورث صحي سائد في الكروموزوم الأصغر "ص", الذي يرثه الذكر عن والده؛ بحيث يمنع ظهور الهيموفيليا, أما إذا كان الجنين أنثى لهذه الأم الحاملة للمرض في صورة مورث متنحٍ, فإن الفرصة حينئذ تصبح أكبر بألا تصاب بالمرض؛ لأنها قد ترث عن والدها مورث سائد لتجلط الدم, وقد تكون أحيانًا حاملة للمرض, والطريق الوحيد لانتقال المرض وراثيًّا إلى الجنين الأنثى في هذه الحالة, وظهوره عندها بشكل صريح في في شكل مظهر موروث, أن يكون مورث الأب من النوع المريض أيضًا، وبالتالي يسهم في الجنين الأنثى بمورث متنحٍ له, أي: أن الأنثى المصابة بالهيموفيليا -وغيره من الأمراض السابقة كعمى الألوان- تتلقى مورثة من كلٍّ من الاب والأم في صورة متنحية.
ولعل هذه الحقائق العلمية تفسر لنا ما نلاحظه من أن الخصائص المرتبطة بالجنس أكثر حدوثًا بين الذكور منها بين الإناث, ومن ذلك مثلًَا: أن عمى الألوان "بالنسبة للونين الأحمر والأخضر" ينتشر بين الذكور بمعدل يبلغ ثمانية أضعاف انتشاره بين الإناث "Mussen 1970", وبالمنطق الوراثي السابق نقول: إن جميع النساء المصابات بعمى الألوان لا بد أن يكون أباؤهن لديهم مورثه أولًا.
خلل صبغيات الجنس:
في معظم الحالات يكون نمط صبغي الجنس في الجنين من النوع "س س" للأنثى، و"س ص" للذكر على النحو الذي بيناه, إلّا أنه في بعض الحالات يحدث تنظيم مختلف يترتب عليه حدوث اضطرابات هامة يرثها الطفل، ومنها:
1- زملة1 النقص في أحد الصبغيين "س" عند الإناث، ويكون النمط
الوراثي عندهن من النوع "س صفر" أي: عدم وجود الكروموزوم "س" الآخر, وتسمى زملة ترنر Turner, ويظهر هذا النقص بنسبة 1: 250 حالة ولادة, والأنثى التي تولد بهذا النقص الوراثي يكون نموها محدودًا, وعلى الرغم من أنها قد لا تظهر تخلفًا عقليًّا شاملًا, إلّا أنها تظهر بعض مظاهر العجز في القدرات المكانية على وجه الخصوص "أي: القدرة على التعامل مع الأشكال في المكان".
2- زملة الزيادة في بعض صبغيات "س" عند الإناث أيضًا، وفي هذه الحالة يكون النمط الوراثي "س س س" أو أكثر, وفي هذه الحالة تظهر مظاهر العجز الجسمي والعقلي مع كل كروموزوم "س" إضافي.
3- زملة الزيادة في بعض صبغيات "س" عند الذكور, ويكون النمط الوراثي من النوع "س س ص", وتسمى زملة كلاينفلتر Klinefelret, ويحدث بنسبة 1: 500 حالة ولادة, ويؤدي ذلك الاضطراب إلى طول في القامة وإلى نمو جنسي معوق, وقد يصاحبه تخلف عقلي طفيف, وبعض الاضطراب في الشخصية.
4- زملة الزيادة في الصبغي "ص" عند الذكور أيضًا، وتسمى اضطراب الذكورة الزائدة supermale disorder, ويكون النمط الوراثي في هذه الحالة "س ص ص" أو أكثر, وهذا الخلل يصاحبه طول في القامة مع تآزر حركي ضعيف, ونقص في الذكاء وكثرة بثور الوجه, وقد افترض في الماضي -في ضوء الدراسات المبكرة التي أجريت على الذكور المسجونين بسبب جرائم العنف والاغتصاب- أن هذه الزملة تمثل أحد الأنماط "الوراثية" للجريمة, إلّا أن هذا الفرض يوضع في وقتنا الحاضر موضع التشكك بسبب نقص الضوابط المنهجية في البحوث المبكرة, وأهمها: عدم استخدام المجموعات الضابطة, ويرى بعض الباحثين المعاصرين أن ارتفاع معدل الجريمة المرتبط بهذا الاضطراب الوراثي لدى الذكور, لا يتربط بزيادة مستويات العدوان بقدر ما يرتبط بنقص الذكاء لديهم.
"Brodzinsky et al 1986"
الخلل العام في الصبغيات:
يوجد نوعان من الخلل العام في الصبغيات, أحدهما: يتمثل في العدد غير العادي من الكروموزومات، وثانيهما: البنية غير العادية لها, ويحدث النوع الأول أثناء الانقسام النصفي للنطف الأصلية للأم والأب "البويضة والحيوان المنوي", وقد يحدث أيضًا أثناء مراحل النمو المبكر للنطفة الأمشاج "الزيجوت", وفي كلتا
الحالتين فإن زوج الصبغيات لا ينفصل كما يجب، ويترتب على ذلك زيادة أو نقص أحد صبغيات الخلية.
أما الخلل الثاني، وهو خلل بنية الصبغيات في الخلية فيتضمن أنواعًا عديدة، لعل أهمها تحطم الكروموزوم، أو إعادة بنائه بطريقة غير طبيعية, ومن أسباب ذلك التعرض للإشعاع أو العناصر الكيميائية أو الفيروسات أو حدوث طفرة وراثية, كما يزيد من احتمال خلل الكروموزومات تقدم الأم في السن.
ويعد الخلل العام في الصبغيات مسئولًا عن حوالي 50% من حالات الإجهاض التلقائي في بداية الحمل، وعن حوالي 6% من حالات الوفاة عقب الولادة, ومن المعروف أن حوالي 6. % "أي: 6 في الألف" من الأطفال الذين يولدون أحياء, يحملون بعض صور الخلل العام في الصبغيات، على الرغم من أنه ليس من الضروري أن يظهروا جميعًا نقائص من نوعٍ ما "Liebert et al" "1986، ولحسن الحظ, فإن التطورات الراهنة في ميدان الفحص الوراثي والإرشاد الوراثي, يمكن أن تعين في منع حدوث هذه الحالات من الخلل الوراثي أو في التحكم فيها، وهذا ما سنتناوله فيما بعد.
ومن صور خلل الصبغيات الشائعة ما يسمى زملة داون Downُs syndrome, وقد كشف العلماء منذ عام 1959 أن معظم حالات هذا الخلل يتسبب فيها وجود كروموزوم إضافي من النوع رقم 21, وأنه موروث, ويزيد احتمال حدوثه مع تقدم الأم في السن, وربما لهذا السب يطلب من الأم التي يتجاوز عمرها الخامسة والثلاثين أن تفحص بشكل روتيني قبل الحمل أو أثناءه, للتأكد من عدم وجود مثل هذا الخلل الوراثي الخطير.
وتظهر زملة داون في صورة تخلف عقلي متوسط أو شديد, بالإضافة إلى مظاهر جسمية خارجية واضحة: صغر حجم الجمجمة والذقن والأذنين، وقصر الرقبة والأيدي والأقدام، بالإضافة إلى غلظ الرقبة وفلطحة الأنف، وخفة الشعر، وانشقاق اللسان، ووجود ثنية فوق جفن العين, ولهذا يبدو مظهر الشخص في هذه الحالة وكأنه من المغول "سكان منغوليا"، ولهذا يطلق على هذه الحالة اسم المغولية mongolism 1 "نسبة إليهم"، وهي حالة شائعة في ميدان التخلف العقلي.
ولعل أهم اكتشافات مندل أنه لاحظ أن بعض الخصائص التي توجد في الجيل الأول أو الأصلي "جيل الوالدين" تختفى في الجيل الثاني, ثم تعود للظهور في حوالي 25% من الحالات في الجيل الثالث, وقد حاول أن يفسر هذه النتائج, فافترض أنه في الجيل الأصلي يكون لدى كلٍّ من الوالدين عاملان وراثيان "أو مورثان بالتعبير الذي شاع فيما بعد" هما صورتان متضادتان لخاصية واحدة, وهذا النوع من المورثات يسمى الآن المورثات متضادة الصفات Allele, واقترح مندل أن كلًّا من الوالدين ينقل إلى النسل أحد قطبي هذه الصفة, ويتفق هذا مع ما أثبته علم الوراثة الحديث الذي يؤكد أن النطفة -باعتبارها تحمل نصف صبغيات الخلية الأصلية- تحمل في نفس الوقت أحد قطبي هذا النوع من المورثات المتضادة الصفات, فإذا انتقل إلى النسل نفس الصورة للخاصية من كلٍّ من الوالدين, تكون نطفة الأمشاج من النوع المتجانس homozygous بالنسبة للخاصية، أما إذا انتقلت إليه من أحد الوالدين إحدى صورتي الخاصية المتضادة, ومن الوالد الآخر الصورة الأخرى, تكون الأمشاج من النوع المتغاير heterozy gous, كما اقترح مندل أيضًا أن إحدى الصورتين قد تسيطر على الصورة الأخرى, وتسمى في هذه الحالة الخاصة السائدة dominant, وبسبب قوتها تظهر نفسها دائمًا في النسل التالي, وتسمى الصورة المتضادة في هذه الحالة بالخاصية المتنحية rececssive, والتي لا تظهر إلّا في حالة غياب الخاصية السائدة, وبالطبع
فإن الخاصية المتنحية -على الرغم من أنها قد لا تظهر- إلّا أنها تظل كامنة في جميع الأجيال اللاحقة, وهكذا ميَّزَ مندل -لأول مرة أيضًا- بين ما يسمى الآن النمط الوراثي genotype والمظهر الموروث phenotype, وهما مفهومان هامان سنتناولهما بالتفصيل فيما بعد.
وبهذه الطريقة كان مندل قادرًا على تفسير نتائجه الطريفة التي حصل عليها من بحوثه على نبات الفاصوليا, ففي تجاربه كان يجعل الجيل الأصلي من النبات "الوالدان" يحمل كل منهما مورثين لكل خاصية, إلّا أن أحدهما كان يجعل مورثات من النوع السائد فقط "ولتكن مثلًا مورثات البذور الصفراء اللون" "ويحمل الوالد الآخر مورثات متنحية فقط "مورثات البذور الخضراء اللون", وبهذا ترث نباتات الجيل الثاني جميعًا مورثات الخاصية السائدة, ومورثات الخاصية المتنحية، ومع ذلك لا تظهر إلّا الخاصية السائدة فقط "بذور صفراء", وحين تخصب هذه النباتات الجديدة ذاتيًّا, ورث 25% من النباتات الجديدة مورث الخاصية المتنحية, فإن هذه الخاصية "أي: البذور الخضراء اللون" تظهر.
وهكذا كانت بحوث مندل المبكرة, البداية العلمية الصحيحة لعلم الوراثة الحديث, وقد أفادت افتراضاته في تفسير أنماط معينة من الوراثة, لا تقتصر على النبات فحسب, وإنما تمتد إلى الأنواع الحيوانية أيضًا, إلّا أن التطورات التي شهدها هذا العلم بعد ذلك أثبتت أن ميكانيزمات الوراثة التي اقترحها مندل تقتصر على وراثة الخصائص التي تتأثر بزوج واحد من الموروثات أو عدد قليل منها, وقد أيدت هذه البحوث كثيرًا من فروضه إلّا أنه في بعض الحالات الأخرى تطلبت نتائج البحوث تفسيرات كثيرة عديدة أخرى, ومن ذلك مثلًا أن المورثات السائدة والمتنحية لا تظهر دائمًا على النحو الدقيق الذي وصفه مندل, وذلك للأسباب الآتية:
1- الأدوار العديدة التي تلعبها بعض الموروثات الأخرى, بالإضافة إلى الدور الهام الذي تقوم به البيئة.
2- توجد لبعض الصفات مورثات عديدة من النوع المتضاد الصفات alleles, وليس مورثًا واحدًا كما افترضت النظرية الأساسية لمندل.
3- المورثات التي توجد على صبغي الجنس تعمل بطريقة مختلفة عن تلك التي تعمل بها المورثات التي على الصبغيات الأخرى في الخلية الواحدة.
4- يتأثر كثير من الخصائص بأزواج عديدة من المورثات, وليس بزوج واحد فقط، وتسمى هذه الحالة بالوراثة المتعددة الأصول polygene.
كيف تنتقل الخصائص الوراثية:
يوجد في أزواج الصبغيات في الخلية جميع عوامل الوراثة التي تحمل التعليمات البيوكيميائية التي تؤدي إلى إنتاج فروق ملحوظة بين الأجنة, ثم بين الأفراد بعد ولادتهم, في الخصائص الجسمية وفي السلوك, ويؤكد علم الوراثة الحديث أن ما يورث بالفعل ليس سمة أو خاصية معينة؛ كالذكاء أو الشعر المجعد، وإنما التعليمات الجسمية للخلية لإنتاج أو عدم إنتاج البروتينات التي تُعَدُّ مسئولة في نهاية الأمر عن حدوث الفعل الذكي, أو ظهور الشعر المجعد في الرأس.
ووصف نشاط المورثات يفيدنا في تحديد معنى مصطلحين هامين أشرنا إليهما فيما سبق, هما النمط الوراثي genotype, والمظهر الموروث phenotype, ويشير أولها إلى التنظيم الوراثي الحقيقي والأصلي الموجود في خلايا الفرد, أما المصطلح الثاني "المظهر الموروث", فيشير إلى الخصائص التي يتم التعبير عنها وملاحظتها في الفرد, والتي تُعَدُّ نتاجًا للنمط الأول "النمط الوراثي", ونحن لا نزال لا نعرف الكثير عن النمط الوراثي الخاص للسمات أو الخصائص التي نلاحظها في الفرد؛ لأننا لا نعرف الكثير بعد عن نشاط المورثات في الخلية الإنسانية, وكثير من الخصائص المرتبطة بالسلوك الإنساني "كالذكاء والانسباط" هي تنظيمات معقدة لأنماط سلوكية عديدة، كل منها يمثل مظهرًا لموروثات كثيرة جدًّا, أما بالنسبة للسمات الأقل تعقدًا "وأغلبها من نوع الخصائص الجسمية؛ كلون الشعر وفصيلة الدم" فمن السهل نسبيًّا وصف الشفرة الوراثية لها, أو نمطها الوراثي, ونعرض فيما يلي بعض الأمثلة لانتقال الخصائص الوراثية.
1- وراثة الخصائص السائدة ذات المورث الواحد:
حين تنتقل الخاصية بواسطة مورث سائد واحد, فإنها سوف تظهر دائمًا في النسل, ومن أمثلة هذه الخصائص التي أكدت نتائج علم الوراثة الحديث أن لها مورثًا سائدًا: اللون البني للعين، وطول النظر، وغمازات الوجه، والشعر المجعد، وأصابع اليد أو القدم الزائدة، وشحمة الأذن السائبة، والشعر الأرقط "الشعر ذو الخصلة البيضاء في مقدمة الرأس، والقدرة على لف اللسان إلى الخلف، والقدرة على لف اللسان نحو المركز، ومرض هانتنجتون Huntington "هو مرض قاتل من نوع اضطرابات الجهاز العصبي ويظهر في صورة اختلاجات تشنجية, وتقلصات عضلية لا إرادية في الوجه والأطراف, بالإضافة إلى تدهور النشاط العقلي". وحين يوجد المورث السائد في النمط الوراثي, فإنه يتم التعبير عنه دائمًا في صورة مظهر موروث, وإذا تزاوج معه مورث مختلف عنه في
صورة متنحية, فإنه يتفوق عليه دائمًا, وأحد الأنماط الوراثية التي يرثها الجنين يكون على هيئة انتقال المورث السائد من أحد الوالدين دون الوالد الآخر على الإطلاق، وتتشكل النطفة الأمشاج حينئذ في صورة متغايرة -كما بينا, وفي هذه الحالة يكون انتقال المورث وظهوره في النسل بنسبة 50%.
2- وراثة الخصائص المتنحية ذات المورث الواحد:
يعرف علماء الوراثة المتنحي بأنه: ذلك الذي لا يتم التعبير عنه في صورة مظهر موروث إلّا إذا تمت مزاوجته مع مورث آخر مشابه له، أو إذا غاب المورث السائد في النمط الوراثي للجنين, ومن الخصائص المتنحية التي أكدتها بحوث علم الوراثة الحديث: اللون الأزرق للعين، وعمى الألوان، ونمش الجلد، والشعر السبط "المستقيم الناعم غير المجعد"، وشحمة الأذن الملتصقة بالوجه، والصملاخ الجاف الذي تفرزه الأذن، والمهق albinism "حين يكون الشخص أو الحيوان لبني البشرة أبيض الشعر قرنفلي العين"، والتليف المراري cystic fibr sis "وينتج عن سوء نشاط الغدد"، ومرض تاى -ساكس Tay-Sacks ", وهو لون من اضطرابات الجهاز العصبي"، والفدامة cretinism "وهي حالة مرضية تنشأ عن اضطرابات نشاط الغدة الدرقية, وتتسم بالتشوه الجسمي وقصر القامة والضعف العقلي"، والمرض الناتج عن الأيض غير السوي المسمى phenylketonuria, واختصار "PKU" ويتمثل في العجز عن تذوق مادة الفينيل.
ومن الأنماط الوراثية أن يكون الوالدان معًا حاملين لمورث منتج لخاصية معينة؛ مثل: مرض العجز عن تذوق مادة الفينيل PKU الذي أشرنا إليه، وينتج عن ذلك نطفة أمشاج متغايرة, وفي هذه الحالة يكون لكلٍّ من الوالدين فرصة متساوية لنقل كلٍّ من المورث المتنحي للصفة "ح", والمورث العادي لها "ع", الدال على السواء, والذي يكون سادئًا عندهما في هذه الحالة، ويكون الناتج احتمال أن يرث النسل المورث المتنحي من الوالدين معًا بنسبة 25%, وفي هذه الحالة ينتقل المرض إلى الجنين، كما ينقله هو إلى جيل آخر, أما احتمال أن ينتقل إلى النسل مورث متنجٍ واحد, ومورث عادي واحد, فيكون 50%, وفي هذه الحالة لن يظهر على الجنين المرض، ولكنه يصبح حاملًا له, والاحتمال الثالث والأخير: فهو أن يرث الجنين مورثين عاديين سائدين وحينئذ يكون الجنين عاديًّا, ونسبة هذا الاحتمال 25%.
وهكذا فإن نمط الوراثة المتنحية لزوجٍ واحدٍ من المورثات, يحدد الكثير من الاضطرابات والأمراض التي يرثها الإنسان, وهذا هو السبب الجوهري في
التوصية بعدم زواج الأشخاص من ذوي القرابة القريبة, وهي الحكمة التي عبَّر عنها الرسول الكريم -كما بينا في الفصل الثالث, فجميع الأسر تحمل مورثات متنحية ضارة، والزواج الداخلي -أي: داخل الأسر- يزيد من فرصة أن يحمل كل من الزوجين نفس المورثات المتنحية.
3- وراثة الخصائص ذات المورثات المتعددة:
ناقشنا فيما سبق الأنماط الوراثية البسيطة التي تعود في جوهرها إلى مورث واحد, سواء أكان سائدًا أم متنحيًا، وهي الأنماط التي تنطبق عليها القوانين الكلاسيكية للوراثة منذ أن صاغها مندل, وفي هذا النوع من الوراثة لا يوجد كما بينا إلّا زوج واحد من المورثات تنتج فئات من نوع "إما ... أو.." فعمى الألوان مثلًا إما أن يوجد أو لا يوجد, وتؤكد بحوث علم الوراثة الحديث أنه يوجد حوالي 2000 خاصية من هذا القبيل, بعضها معروف وبعضها متوقع اكتشافه, كما توجد أكثر من 150 سمة وراثية مرضية من هذا النوع ينتج عنها التخلف العقلي "Libert et al 1986".
إلّا أنه توجد خصائص أخرى لا تقع تحت حصر تتأثر بعدة مورثات, وهذه الخصائص ليست من نوع الكم المنفصل "إما ... أو ... " الذي أشرنا إليه، وإنما تظهر في صورة كَمّ متصل, ففي حالة الطول مثلًا لا يكون الأفراد إما عمالقة أو أقزام، وإنما يتوافر تنوع هائل بين الناس في هذه الخاصية, ويصدق هذا على كثير من الخصائص الجسمية؛ مثل: الوزن ولون الجلد وحرارة الجسم، كما يصدق على الخصائص النفسية؛ مثل: الذكاء. ففي هذه الأمثلة وغيرها, يسهم كل مورث من المورثات العديدة المسئولة عن الخاصية بأثر صغير يضاف إلى آثار المورثات الأخرى, ومع زيادة عدد المورثات المسئولة عن الخاصية يزداد تنوع المظاهر الموروثة إلى الحد الذي لا يمكن عنده تمييز فئات مستقلة لمظاهر موروثة منفصلة.
وفي دراسة الوراثة متعددة المورثات لا يستطيع الباحث تتبع أثر كل مورث على حدة "تذكر أنه يوجد في الصبغي الواحد حوالي 50000 مورث في المتوسط", وبدلًا من ذلك, فإن الباحثين يفحصون بعناية توزيع الخصائص في المجتمع الأصلي باستخدام بعض الطرق الإحصائية المعقدة, ومن المفترض دائمًا أن خصائص أي مجتمع أصلي هي نتائج التفاعل بين الآثار الوراثية والبيئة، ولهذا يحاول الباحثون دراسة هذين المكونين بالمقارنة بين جماعات مختلفة بينهم درجات مختلفة من القرابة, ويتعرضون لظروف بيئية متشابهة أو مختلفة. "راجع فؤاد أبو حطب 1996".
صبغيات "كروموزومات" الجنس:
من الخصائص الرئيسية التي تتحكم فيها الوراثة وحدها خاصية جنس الجنين, والنمط الوراثي المرتبط ببناء جسم كلٍّ من الجنسين يوجد في كروموزومات" نواة النطفة الأمشاج "الزيجوت", وعلى هذا, فإنه من بين الأزواج الثلاث والعشرين من الصبغيات التي تؤلف الخلية البشرية الأولى, يوجد 22 زوجًا تسمى الأوتوزومات autosomes, وهي المسئولة عن التغيرات المختلفة خلال النمو, أما الزوج الثالث والعشرون من هذه الصبغيات فهو وحده المسئول عن النمو الجنسي للجنين.
ويوجد نوعان من صبغيات الجنس، أحدهما يسمى "الكروموزوم "س" أو "X", والآخر أصغر كثيرًا ويسمى الكروموزم "ص" أو "Y", وحين يكون زوج هذه الصبغيات في النطفة الأمشاج من نوع "س س", فإن المظهر الموروث يكون أنثويًّا، أما إذا كان زوج صبغيات الجنس في هذه النطفة من نوع "س ص" يصبح المظهر الموروث ذكريًّا.
ومن حقائق علم الوراثة أن بويضة الأم لا تحتوي إلّا على الكروموزم "س" فقط في جميع الحالات، بينما تحتوي بعض الحيوانات المنوية للأب على الكروموزوم "س", وبعضها الآخر على الكروموزوم "ص", وعلى ذلك, فعند إخصاب البويضة وحدوث الحمل "حيث تندمج نواة البويضة ونواة أحد الحيوانات المنوية ليؤلفا النطفة الأمشاج أو الزيجوت" وتكوين أزواج الصبغيات في الخلية الأولى في حياة الإنسان، فإن النمط الوراثي لجنس الجنين يكون إما من النوع "س", أي: "أنثى" حين ينقل كروموزوم من النوع "س" من كلٍّ من الأب والأم، أو "س ص", أي: "ذكر", حين ينقل من الأم كروموزم من النوع "س" -وليس عندها سواه كما قلنا, ومن الأب كروموزوم من النوع "ص"؛ لأن عنده النوعين. والاعتماد في الحالتين يكون على تكوين الحيوان المنوي للوالد الذي نجح في الاندماج مع بويضة الأم، أي: ما إذا كان كروموزم الجنس في هذا الحيوان المنوي من النوع س أو ص, ومعنى ذلك: أن جنس الجنين يحدده الأب أساسًا، ما دامت الأم لا تسهم إلّا بنوع واحد من كروموزوم الجنس وهو النوع "س".
ولا توجد طريقة تتحكم في نظام إخصاب البويضة؛ بحيث تتحول إلى نطفة أمشاج من جنس نريده, فتوزيع الكروموزومات الجنسية تحكمه قوانين الوراثة, وهي قوانين يصفها علماء الوراثة الغربيون بأنها نتيجة المصادفة، وهو مصطلح يطلق على النظام الذي يخرج عن نطاق التحكم البشري المباشر، والأصح في
رأينا أن نقول أن هذه القوانين تحكمها مشيئة الله تعالى, فما يخرج عن نطاق التحكم البشري ليس محض مصادفة، وإنما هناك المشيئة الأعلى والقدرة الأسمى التي خلقت الكون والإنسان, وحددت لهما سنن وجودهما, والتي يسميها القرآن الكريم "التقدير", يقول الله تعالى: {مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَه} "عبس: 19" راجع الفصل الثالث", وتقدير الله -جَلَّ شأنه تعالى- على أوصاف المصادفة والعشوائية وغيرها من المصطلحات الراهنة في علم الإحصاء الحديث, والتي انتقلت بدورها إلى علم الوراثة, والأصح من الوجهة الإسلامية أن نقول: إنه إذا أراد الله -سبحانه وتعالى- أن يلتقي الحيوان المنوي الحامل لكروموزوم الذكورة "ص", بالبويضة التي تحمل دائمًا كروموزوم الأنوثة "س", فإن الجنين يكون أنثى بأمر الله, وقد نَبَّه القرآن الكريم إلى هذه الحقيقة العلمية, يقول الله تعالى: {وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى، مِنْ نُطْفَةٍ إِذَا تُمْنَى} [النجم: 45-46] . أي: أن الذكورة والأنوثة تابعة لماء الرجل "راجع الفصل الثالث".
وحالما يتم تكوين النطفة الأمشاج باتحاد النطفة الذكرية والنطفة الأنثوية يتحدد نهائيًّا جنس الجنين, ولا يوجد وسيلة على أيّ نحو تغير من هذا الجنس, وعلينا أن ننبه هنا الأزواج الذين يلومون زوجاتهم على ولادة "البنات"؛ لعلهم يدركون من مناقشتنا السابقة أن كروموزوماتهم هي المسئولة -بمشيئة الله- عن تحديد "الجنس" وليس كروموزومات الأم، ربما لعلهم بهذا يخففون من غلوائهم، فهم وحدهم الملومون، إن كان هناك من يلام!
ويختلف نوعا صبغيات الجنس بعضهما عن بعض في الحجم, وعدد الموروثات داخل كلٍّ منهما؛ فالكروموزوم "ص" أصغرهما -كما بينا- بالإضافة إلى أنه يحتوي على عدد من المورثات أقل من الكروموزوم "س", وهذه الحقيقة تفسر لنا حدوث الاضطرابات الوراثية المرتبطة بالجنس.
وراثة الخصائص المرتبطة بالجنس:
توجد خصائص وراثية معينة تسمى الخصائص المرتبطة بالجنس، والتي تتأثر بالمورثات التي توجد على صبغيات الجنس, ومن المعروف أن الكروموزوم "ص" أقل في عدد مورثاته من الكروموزوم "س" كما ذكرنا, لهذا نجد أن معظم تلك الخصائص تحملها مورثات النوع الأخير, أي: "س"، وهو في جوهره صبغي أنثوي, ومن الاضطرابات الوراثية التي يحملها هذا الكروموزوم مرض الهيموفيليا "سيولة الدم", وعمى الألوان المرتبط باللونين الأحمر والأخضر، والصلع، وبعض صور الصمم، وبعض صور خلل الجهاز العضلي.
وفي بعض حالات الوراثة المرتبطة بالجنس يكون المورث متنحيًا, خذ على سبيل المثال: الاضطراب الجسمي المعروف باسم الهيموفيليا "سيولة الدم" الذي قد يظهر في الجنين إذا كان مورثه متنحيًا, ولا يوجد في النمط الوراثي مورث سائد خاص بتجلط الدم, إلّا أنه في معظم الحالات نجد أن الأجنة الذين لديهم مورث متنحٍ لسيولة الدم يكون لديهم أيضًا مورث سائد خاص بالتجلط الصحي للدم، ولذلك لا يظهرون هذا الخلل، ويصبحون فقط حاملين وراثيين له, وبالطبع إذا كانت الأم حاملة لهذا المورث المرضي فإنها تنقله إلى نسلها، إلّا أن هذا الانتقال يختلف في الذكور عن الإناث, فإذا كان الجنين ذكرًا, فإن نسبة وراثيته لهذا الاضطراب تصبح 50%, ما دام لا يوجد مورث صحي سائد في الكروموزوم الأصغر "ص", الذي يرثه الذكر عن والده؛ بحيث يمنع ظهور الهيموفيليا, أما إذا كان الجنين أنثى لهذه الأم الحاملة للمرض في صورة مورث متنحٍ, فإن الفرصة حينئذ تصبح أكبر بألا تصاب بالمرض؛ لأنها قد ترث عن والدها مورث سائد لتجلط الدم, وقد تكون أحيانًا حاملة للمرض, والطريق الوحيد لانتقال المرض وراثيًّا إلى الجنين الأنثى في هذه الحالة, وظهوره عندها بشكل صريح في في شكل مظهر موروث, أن يكون مورث الأب من النوع المريض أيضًا، وبالتالي يسهم في الجنين الأنثى بمورث متنحٍ له, أي: أن الأنثى المصابة بالهيموفيليا -وغيره من الأمراض السابقة كعمى الألوان- تتلقى مورثة من كلٍّ من الاب والأم في صورة متنحية.
ولعل هذه الحقائق العلمية تفسر لنا ما نلاحظه من أن الخصائص المرتبطة بالجنس أكثر حدوثًا بين الذكور منها بين الإناث, ومن ذلك مثلًَا: أن عمى الألوان "بالنسبة للونين الأحمر والأخضر" ينتشر بين الذكور بمعدل يبلغ ثمانية أضعاف انتشاره بين الإناث "Mussen 1970", وبالمنطق الوراثي السابق نقول: إن جميع النساء المصابات بعمى الألوان لا بد أن يكون أباؤهن لديهم مورثه أولًا.
خلل صبغيات الجنس:
في معظم الحالات يكون نمط صبغي الجنس في الجنين من النوع "س س" للأنثى، و"س ص" للذكر على النحو الذي بيناه, إلّا أنه في بعض الحالات يحدث تنظيم مختلف يترتب عليه حدوث اضطرابات هامة يرثها الطفل، ومنها:
1- زملة1 النقص في أحد الصبغيين "س" عند الإناث، ويكون النمط
الوراثي عندهن من النوع "س صفر" أي: عدم وجود الكروموزوم "س" الآخر, وتسمى زملة ترنر Turner, ويظهر هذا النقص بنسبة 1: 250 حالة ولادة, والأنثى التي تولد بهذا النقص الوراثي يكون نموها محدودًا, وعلى الرغم من أنها قد لا تظهر تخلفًا عقليًّا شاملًا, إلّا أنها تظهر بعض مظاهر العجز في القدرات المكانية على وجه الخصوص "أي: القدرة على التعامل مع الأشكال في المكان".
2- زملة الزيادة في بعض صبغيات "س" عند الإناث أيضًا، وفي هذه الحالة يكون النمط الوراثي "س س س" أو أكثر, وفي هذه الحالة تظهر مظاهر العجز الجسمي والعقلي مع كل كروموزوم "س" إضافي.
3- زملة الزيادة في بعض صبغيات "س" عند الذكور, ويكون النمط الوراثي من النوع "س س ص", وتسمى زملة كلاينفلتر Klinefelret, ويحدث بنسبة 1: 500 حالة ولادة, ويؤدي ذلك الاضطراب إلى طول في القامة وإلى نمو جنسي معوق, وقد يصاحبه تخلف عقلي طفيف, وبعض الاضطراب في الشخصية.
4- زملة الزيادة في الصبغي "ص" عند الذكور أيضًا، وتسمى اضطراب الذكورة الزائدة supermale disorder, ويكون النمط الوراثي في هذه الحالة "س ص ص" أو أكثر, وهذا الخلل يصاحبه طول في القامة مع تآزر حركي ضعيف, ونقص في الذكاء وكثرة بثور الوجه, وقد افترض في الماضي -في ضوء الدراسات المبكرة التي أجريت على الذكور المسجونين بسبب جرائم العنف والاغتصاب- أن هذه الزملة تمثل أحد الأنماط "الوراثية" للجريمة, إلّا أن هذا الفرض يوضع في وقتنا الحاضر موضع التشكك بسبب نقص الضوابط المنهجية في البحوث المبكرة, وأهمها: عدم استخدام المجموعات الضابطة, ويرى بعض الباحثين المعاصرين أن ارتفاع معدل الجريمة المرتبط بهذا الاضطراب الوراثي لدى الذكور, لا يتربط بزيادة مستويات العدوان بقدر ما يرتبط بنقص الذكاء لديهم.
"Brodzinsky et al 1986"
الخلل العام في الصبغيات:
يوجد نوعان من الخلل العام في الصبغيات, أحدهما: يتمثل في العدد غير العادي من الكروموزومات، وثانيهما: البنية غير العادية لها, ويحدث النوع الأول أثناء الانقسام النصفي للنطف الأصلية للأم والأب "البويضة والحيوان المنوي", وقد يحدث أيضًا أثناء مراحل النمو المبكر للنطفة الأمشاج "الزيجوت", وفي كلتا
الحالتين فإن زوج الصبغيات لا ينفصل كما يجب، ويترتب على ذلك زيادة أو نقص أحد صبغيات الخلية.
أما الخلل الثاني، وهو خلل بنية الصبغيات في الخلية فيتضمن أنواعًا عديدة، لعل أهمها تحطم الكروموزوم، أو إعادة بنائه بطريقة غير طبيعية, ومن أسباب ذلك التعرض للإشعاع أو العناصر الكيميائية أو الفيروسات أو حدوث طفرة وراثية, كما يزيد من احتمال خلل الكروموزومات تقدم الأم في السن.
ويعد الخلل العام في الصبغيات مسئولًا عن حوالي 50% من حالات الإجهاض التلقائي في بداية الحمل، وعن حوالي 6% من حالات الوفاة عقب الولادة, ومن المعروف أن حوالي 6. % "أي: 6 في الألف" من الأطفال الذين يولدون أحياء, يحملون بعض صور الخلل العام في الصبغيات، على الرغم من أنه ليس من الضروري أن يظهروا جميعًا نقائص من نوعٍ ما "Liebert et al" "1986، ولحسن الحظ, فإن التطورات الراهنة في ميدان الفحص الوراثي والإرشاد الوراثي, يمكن أن تعين في منع حدوث هذه الحالات من الخلل الوراثي أو في التحكم فيها، وهذا ما سنتناوله فيما بعد.
ومن صور خلل الصبغيات الشائعة ما يسمى زملة داون Downُs syndrome, وقد كشف العلماء منذ عام 1959 أن معظم حالات هذا الخلل يتسبب فيها وجود كروموزوم إضافي من النوع رقم 21, وأنه موروث, ويزيد احتمال حدوثه مع تقدم الأم في السن, وربما لهذا السب يطلب من الأم التي يتجاوز عمرها الخامسة والثلاثين أن تفحص بشكل روتيني قبل الحمل أو أثناءه, للتأكد من عدم وجود مثل هذا الخلل الوراثي الخطير.
وتظهر زملة داون في صورة تخلف عقلي متوسط أو شديد, بالإضافة إلى مظاهر جسمية خارجية واضحة: صغر حجم الجمجمة والذقن والأذنين، وقصر الرقبة والأيدي والأقدام، بالإضافة إلى غلظ الرقبة وفلطحة الأنف، وخفة الشعر، وانشقاق اللسان، ووجود ثنية فوق جفن العين, ولهذا يبدو مظهر الشخص في هذه الحالة وكأنه من المغول "سكان منغوليا"، ولهذا يطلق على هذه الحالة اسم المغولية mongolism 1 "نسبة إليهم"، وهي حالة شائعة في ميدان التخلف العقلي.