يصف هافيجهرست "Havighurst 1972" الرشد المبكر بأنه أكثر مراحل العمر امتلاءًا وفرديةً وتوحدًا؛ فخلال هذا الطور يتعرض المرء لضغوطٍ هائلةٍ حتى يحقق لنفسه مكانًا في المجتمع, ومع ذلك فإن القوى المعينة للفرد في هذا الطور على إنجاز هذا الهدف قليلة, بالمقارنة بالمراحل السابقة التي تُوجَدُ فيها بالفعل المؤسسات التعليمية المختلفة, بالإضافة إلى الدور الكبير للوالدين, ويذكر هافيجهرست أنه -باستثناء مرحلة الشيخوخة- يلقى الراشدون عامة أقل دعم تربويٍّ لإنجاز مهامهم النمائية بالمقارنة بأي مجموعة عمرية أخرى.
ولعل من أهم ما يميز هذا الطور في حياة الإنسان, سعي الراشد للوصول إلى تحديد "معنًى" واضحٍ لحياته, فبعد أن تجاوز المشكلات الأساسية الخاصة بالهوية في طور المراهقة والشباب, فإنه يكون مع مطلع الرشد قد أحرز -ولو مؤقتًا- حلًّا لمشكلة تحديد ذاته، ثم يبدأ في الانشغال بتوسيع نطاق هذا المفهوم في المجتمع، أي: بالبحث عن وسائل جديدة يعبِّرُ بها عن ذاته, وخاصة في مواقف العلاقات الإنسانية والاجتماعية, وكثير من الأشخاص في هذ الطور يكون لديهم شغف بالتعرف على أصدقاء جدد، والالتحاق بالجماعات التطوعية والخيرية, والحصول على عضوية عدد كبير من المؤسسات الاجتماعية "كالنقابات", ولهذا نلاحظ على الراشد الصغير أنه يتسم بالحركة والتغير اللذين يتم التعبير عنهما بكثير من الطرق, ويقترح وايت "White 1975" خمسة مظاهر نمائية شائعة في هذا الطور, تمثِّلُ إمكانات نموه، والتي قد لا تتحقق جميعًا بالضرورة خلال الرشد المبكر وهي:
1- استقرار هوية الأنا أو الذات: يقصد بهوية الأنا أو الذات ego identity, المشاعر التي يكونها الشخص حول نفسه, وتتسم هذه الظاهرة في هذا الطور بأنها أقل تأثرًا بالخبرات المؤقتة أو العارضة كما كان الحال في الماضي، فلا يمكن لذات الشخص أن تتفكك أو تتحلل كما كان يمكن أن يحدث لها منذ عشر سنوات خلت, حين يوصف مثلًا بالجبن أو الفشل, وخاصةً إذا كان الشخص متأكدًا أن ذلك وصف غير صحيح لذاته, ونتيجةً للالتزام الكبير بالأدوار الاجتماعية "وخاصة الدور المهنيّ", وبالآخرين من حوله "كالزوجة والأبناء", فإن الراشد يكون أكثر استقرارًا واتساقًا ووضوحًا في نمو شعوره بذاته، ولهذا يحدث ما يسميه وايت: اسقرار هوية الأنا أو الذات.
2- تحرير العلاقات الشخصية: الراشد كذلك أقل تأثرًا برغباته ونزعاته وخيالاته الخاصة في علاقاته الشخصية إذا قورن بالمراهق أو الشاب, وهذه الحرية تسمح له بتنمية علاقات مع الآخرين, تتفق مع الخصائص والحاجات التي يتسم به الآخرون, وهذا لون راقٍ من التوافق, فحالما يصل الراشد إلى نظرة مستقرة نحو ذاته يكون أقل قلقًا, وأخف اهتمامًا بذاته على نحوٍ يجعل من التيسير عليه تقبل الآخرين, وتكوين علاقات شخصية ناجحة معهم.
3- تعميق الميول والاهتمامات: خلال هذا الطور ينشغل الراشد الصغير انشغالًا أكبر بمجالات خاصة من الميول والاهتمامات, والراشدون في ذلك على عكس الأطفال والمراهقين والشباب الذين تكون اندماجاتهم في هذه المجالات قصيرة الأمد؛ فالراشد المبكر يظهر التزامًا حقيقيًّا بميوله, سواء أكانت في المجال الأكاديمي أم المهني, في مجال الهواية أم في نطاق العلاقات الشخصية, ولهذا السبب نجد أن الراشد يستفيد من أنشطته أكثر ممن هم أصغر منه سنًّا, سواء أكان ذلك في ضوء المهارات التي يتعلمها, أو الرضا والإشباع الذي يحصل عليه.
4- زيادة إنسانية القيم: يظهر الراشدون أيضًا وعيًا متزايدًا بالمعنى الإنساني للقيم, وبالوظيفة التي تؤديها في المجتمع, ولم تعد الأخلاق عنده -كما بينا- قواعد جامدة أو مطلقة كما كان الحال من قبل، وإنما أصبح ينظر
ليها في ضوء أكثر شخصية وإنسانية، اعتمادًا على خبرات الحياة، والنظام القيمي العام للمجتمع "النظام القيمي الإسلامي في المجتمعات الإسلامية".
5- توسيع نطاق الرعاية: إن اهتمام الراشد برفاهية الآخرين يتسع نطاقه خلال فترة الشباب والرشد المبكر, ويتزايد الاتجاه نحو التعاطف مع الآخرين, ولا يقتصر ذلك على الأشخاص الذين يعرفهم أو يتعامل معهم؛ كالزوجة والأبناء والأقارب, وإنما يمتد إلى الإنسانية عامة، ويشمل ذلك أشخاصًا قد لا يرفهم الراشد شخصيًّا، وخاصةً الذين ينتمون إلى الفئات الأقل حظًّا في المجتمع؛ كالفقراء والمرضى والمقهورين.
ومن المتغيرات التي تؤثر في تكيف الراشدين المبكرين الطريقة التي يواجهون بها الناس, ويتفاعلون بها مع ما يسميه بعض الباحثين "Brodzinskey et al 1986" أحداث الحياة, ويعرف حدث الحياة Lif-evevt على المستوى العام جدًّا بأنه أيّ خبرة لها أهميتها لدى الفرد، كما يمكن أن يعرف على نحوٍ أكثر تخصيصًا بأنه ما يؤدي أو يتطلب تغيرًا جوهريًّا في النمط الساري لحية الفرد, وتوجد أحداث حياة يتعرض لها تقريبًا جميع الراشدين؛ كخبرة الدخول في مجال العمل أو الزواج, كما توجد أحداث أخرى يتعرض لها قليل منهم؛ كخبرة السجن أو المرض المزمن, وفي جميع الأحوال تتطلب هذه الأحداث توافقًا من جانب الراشد، يصدق ذلك على الأحداث السارة والأحداث الضارة جميعًا.
ولعل أكثر هذه الأحداث شيوعًا ما يلي: الزواج للجنسين، الحمل والولادة "للإناث"، الطلاق، الدخول في سوق العمل، تغير الوضع المالي، تغير الأنشطة الاجتماعية وغيرها, بهذه الأحداث يشغل الراشد أدوارًا جديدة لم تكن له من قبل، مثل دور العامل والزوج والوالد، إلخ. وبالطبع لا يمارس الجميع هذه الأدوار في نفس الوقت، فبينما يتزوج البعض مثلًا في سن 18سنة, فإن آخرين قد لا يتزوجون إلّا في أواخر الثلاثينات، وهناك القليلون الذين لا يتزوجون أبدًا.
ولعلنا نذكر أن معظم الناس لديهم شعور بأنهم "مبكرون" أو "في الوقت المناسب " أو"متأخرون" بالنسبة للقيام بأدوار الرشد، وتؤكد البحوث أن شعور الفرد بأن "الوقت قد فاته" بالنسبة للقيام بدور معين يعد المصدر الرئيسي للقلق والتوتر لدى الراشدين.
ويختلف أيضًا ترتيبٌ القيام بأدوار الرشد, وقد كان الأمر في الماضي أكثر تحديدًا, فكان من المتوقع من المرأة أن تتزوج وتنجب أطفالًا وهي لم تتعد بعد
تحقق للإنسان رشده الذي هو في جوهره "استقلال اقتصادي واستقرار اجتماعي", ولعل أشقَّ هذه الظروف علي في مصر الآن البطالة وأزمة الإسكان "فؤاد أبو حطب 1989".
ويعود بنا ذلك مرةً أخرى إلى مسألة "هوية الأنا أو الذات" في الرشد, لقد افترض النموذج الأساسي لإريكسون أن المراهقة "وربما الشباب" هي طور أزمة الهوية, يتجاوزها الإنسان مع الرشد المبكر إلى أزمة الألفة في مقابل العزلة، والتي يرى إريكسون أن الفرد يتعرض لها في فترة العشرينات من عمره بعد أن تتكون هويته وظيفيًّا، حتى ولو لم تستقر أو تثبت, وتعني الألفة intimacy أن يستطيع المرء أن يتشارك مع الآخرين عن طريق التخلي عن بعض هويته، وحينئذ تحلّ "النحن" محل "الأنا" عند التفكير في الحاضر أو المستقبل, ويؤدي الفشل في تكوين علاقات الألفة إلى العزلة السيكولوجية, والتي هي أبعد عن المرغوبية وعن الصحة النفسية في وقت واحد. أما النجاح في تخطِّي هذه الأزمة فيقود إلى الشعور بالتكافل والتماسك والتضامن مع الآخرين, سواء في العلاقات الزوجية داخل الأسرة، أو العلاقات مع جماعات الأصدقاء، أو مع جماعات التنافس والتعاون في العمل والترويح.
إلّا أن حلّ "أزمة الهوية" -وهو مؤشر سيكولوجي إضافي على بلوغ الرشد -ليس أمرًا سهلًا, وقد أشرنا إلى بعض صعوباته عند تناول طور الشباب "الفصل 14"، وتمتد هذه الصعوبات إلى العمر الثاني للإنسان, وبخاصة طور الرشد المبكر موضع اهتمامنا الآن, وكان مارشيا على رأس مَن اعتبروا أن حلَّ أزمة الهوية في مرحلة الرشد أكثر تعقيدًا من الوصف المبسط الذي يقدمه إريكسون, وفي هذا الصدد يقترح عاملين لهما الدور الحاسم في هذا الصدد؛ أولهما: وجود أزمة شخصية لدى الرشد في مجالٍ معينٍ مثل المهنة أو الدين أو السياسة، وثانيهما: وجود درجة من الالتزام الشخصي لديه بالمسائل الخلافية المختلفة في هذه المجالات, وبالطبع بين هذين العاملين "الأزمة والالتزام" يتوصل مارشيا -من خلال سلسلة من البحوث المنظمة- إلى تصنيف طرق حل أزمة الهوية في الرشد إلى أربع فئاتٍ يسميها مكانات الهوية identity statuses
"16-1" وهذه الفئات الأربع هي:
جدول رقم "16-1" تصنيف مكانات الهوية "عن مارشيا Marcia 1980"
1- إحراز الهوية: "identity achievement": وأصحاب هذه المكانة من الراشدين هم أولئك الذين تعرضوا لأزماتٍ شخصية في واحد أو أكثر من مجالات الحياة الاجتماعية "المهنة، الزواج، الدين، السياسة.. إلخ" وتوصولًا إلى قرارٍ شخصيٍّ فيه التزام بموقف معين، قد يتفق أو يختلف مع رغبات الآخرين الهامين "الوالدين مثلًا" ووجهات نظرهم, وهؤلاء يتسمون بتقديرٍ عالٍ للذات, واستقلال سيكولوجي, واستدلال خلقي من مستوى رفيع، وألفة "بمعناها عند إريكسون" مع الأشخاص الآخرين، وقلق منخفض، كما يظهرون ميولًا واسعة النطاق, وهذا كله من مؤشرات الرشد.
2- رهن الهوية "identity foreclosure": وأصحاب هذه المكانة هم عكس الفئة السابقة لأنهم لا يتعرضون لأزماتٍ شخصيةٍ, ومع ذلك لديهم أسلوب حياة واضح وقرارات قيمية محددة, وهؤلاء هم في العادة الذين يستسلمون لرغبات الآخرين الهامين وآرائهم "الوالدين أو القادة أو غيرهم" إما بسبب الضغوط الانفعالية أو الاقتصادية, أو الخوف من الرفض, أو الشعور بعدم الكفاءة, أو نقص القدرة, ويتسم هؤلاء بدرجة عالية من الجمود والتصلب والخضوع للسلطة, كما أن أسلوبهم في التعامل مع الآخرين فيه درجة عالية من التسلط، وهم أكثر تقليدية في الاستدلال الخلقي, ويعوزهم الاستبصار بأنفسهم, ومن هنا جاء وصفهم بأنهم "رهنوا" هويتهم لدى الآخرين, كما يرهن المعوز بعض ما يملك لدى شخص قادر لحين قدرته على السداد, وحين يأتي ذلك الوقت قد يغير بعض "التزاماته" السابقة، فيغير عمله أو تفشل حياته الزوجية.
3- تأجيل الهوية identity moratorium: وهذه الفئة تشمل أولئك الذين لا يظهرون دليلًا واضحًا على الالتزام, ومع ذلك فهم غير قادرين على اتخاذ قراراتٍ حول حياتهم بسبب ما يتعرضون له من أزمات شخصية في عدد من
1- إحراز الهوية: "identity achievement": وأصحاب هذه المكانة من الراشدين هم أولئك الذين تعرضوا لأزماتٍ شخصية في واحد أو أكثر من مجالات الحياة الاجتماعية "المهنة، الزواج، الدين، السياسة.. إلخ" وتوصولًا إلى قرارٍ شخصيٍّ فيه التزام بموقف معين، قد يتفق أو يختلف مع رغبات الآخرين الهامين "الوالدين مثلًا" ووجهات نظرهم, وهؤلاء يتسمون بتقديرٍ عالٍ للذات, واستقلال سيكولوجي, واستدلال خلقي من مستوى رفيع، وألفة "بمعناها عند إريكسون" مع الأشخاص الآخرين، وقلق منخفض، كما يظهرون ميولًا واسعة النطاق, وهذا كله من مؤشرات الرشد.
2- رهن الهوية "identity foreclosure": وأصحاب هذه المكانة هم عكس الفئة السابقة لأنهم لا يتعرضون لأزماتٍ شخصيةٍ, ومع ذلك لديهم أسلوب حياة واضح وقرارات قيمية محددة, وهؤلاء هم في العادة الذين يستسلمون لرغبات الآخرين الهامين وآرائهم "الوالدين أو القادة أو غيرهم" إما بسبب الضغوط الانفعالية أو الاقتصادية, أو الخوف من الرفض, أو الشعور بعدم الكفاءة, أو نقص القدرة, ويتسم هؤلاء بدرجة عالية من الجمود والتصلب والخضوع للسلطة, كما أن أسلوبهم في التعامل مع الآخرين فيه درجة عالية من التسلط، وهم أكثر تقليدية في الاستدلال الخلقي, ويعوزهم الاستبصار بأنفسهم, ومن هنا جاء وصفهم بأنهم "رهنوا" هويتهم لدى الآخرين, كما يرهن المعوز بعض ما يملك لدى شخص قادر لحين قدرته على السداد, وحين يأتي ذلك الوقت قد يغير بعض "التزاماته" السابقة، فيغير عمله أو تفشل حياته الزوجية.
3- تأجيل الهوية identity moratorium: وهذه الفئة تشمل أولئك الذين لا يظهرون دليلًا واضحًا على الالتزام, ومع ذلك فهم غير قادرين على اتخاذ قراراتٍ حول حياتهم بسبب ما يتعرضون له من أزمات شخصية في عدد من لمجالات الاجتماعية, وهم يجاهدون للوصول إلى درجة من الإدراك الواضح لهويتهم, وهم يشبهون فئة إحراز الهوية "الفئة الأولى", إلّا أنهم بسبب عدم التزامهم بموقفٍ محدد يظهرون درجة عالية من القلق وكثيرًا من المسايرة للآخرين، كما أنهم أقل رضًا بإنجازهم, وأكثر استعدادًا لتغيير تعليمهم أو مهنتهم، وقد تنهار حياتهم الأسرية لأتفه الأسباب.
4- خلط الهوية: identity diffusion: وأصحاب هذه المكانة يتفقون مع من هم في الفئة السابقة في أنهم ليس لديهم التزامٌ برأي واضحٍ أو موقف محدد إزاء القضايا الخلافية في الحياة الاجتماعية, إلّا أنهم يختلفون عنهم في أنهم لا يعانون من أزمات شخصية في مجالات هوية الحياة، فهم فئة اللاالتزام واللاأزمة معًا, وفي وقت واحد, ولهذا فهم أقل الفئات قدرةً على الوصول إلى قرارت حاسمة ومواقف واضحة في مسائل الحياة المختلفة، وهم أقل الناس تقديرًا لأنفسهم، كما أن درجاتهم تكون منخفضة في الاستدلال الخلقي والاستقلال النفسي والألفة بالآخرين, أضف إلى ذلك أن مستوى القلق لديهم أعلى من الجميع, ولهذا فهم لا يزالون بهذه الخصائص جميعًا في طور ما قبل الرشد السيكولوجي, حتى ولو وصلوا إلى العمر القانوني له.
ولعل من أهم ما يميز هذا الطور في حياة الإنسان, سعي الراشد للوصول إلى تحديد "معنًى" واضحٍ لحياته, فبعد أن تجاوز المشكلات الأساسية الخاصة بالهوية في طور المراهقة والشباب, فإنه يكون مع مطلع الرشد قد أحرز -ولو مؤقتًا- حلًّا لمشكلة تحديد ذاته، ثم يبدأ في الانشغال بتوسيع نطاق هذا المفهوم في المجتمع، أي: بالبحث عن وسائل جديدة يعبِّرُ بها عن ذاته, وخاصة في مواقف العلاقات الإنسانية والاجتماعية, وكثير من الأشخاص في هذ الطور يكون لديهم شغف بالتعرف على أصدقاء جدد، والالتحاق بالجماعات التطوعية والخيرية, والحصول على عضوية عدد كبير من المؤسسات الاجتماعية "كالنقابات", ولهذا نلاحظ على الراشد الصغير أنه يتسم بالحركة والتغير اللذين يتم التعبير عنهما بكثير من الطرق, ويقترح وايت "White 1975" خمسة مظاهر نمائية شائعة في هذا الطور, تمثِّلُ إمكانات نموه، والتي قد لا تتحقق جميعًا بالضرورة خلال الرشد المبكر وهي:
1- استقرار هوية الأنا أو الذات: يقصد بهوية الأنا أو الذات ego identity, المشاعر التي يكونها الشخص حول نفسه, وتتسم هذه الظاهرة في هذا الطور بأنها أقل تأثرًا بالخبرات المؤقتة أو العارضة كما كان الحال في الماضي، فلا يمكن لذات الشخص أن تتفكك أو تتحلل كما كان يمكن أن يحدث لها منذ عشر سنوات خلت, حين يوصف مثلًا بالجبن أو الفشل, وخاصةً إذا كان الشخص متأكدًا أن ذلك وصف غير صحيح لذاته, ونتيجةً للالتزام الكبير بالأدوار الاجتماعية "وخاصة الدور المهنيّ", وبالآخرين من حوله "كالزوجة والأبناء", فإن الراشد يكون أكثر استقرارًا واتساقًا ووضوحًا في نمو شعوره بذاته، ولهذا يحدث ما يسميه وايت: اسقرار هوية الأنا أو الذات.
2- تحرير العلاقات الشخصية: الراشد كذلك أقل تأثرًا برغباته ونزعاته وخيالاته الخاصة في علاقاته الشخصية إذا قورن بالمراهق أو الشاب, وهذه الحرية تسمح له بتنمية علاقات مع الآخرين, تتفق مع الخصائص والحاجات التي يتسم به الآخرون, وهذا لون راقٍ من التوافق, فحالما يصل الراشد إلى نظرة مستقرة نحو ذاته يكون أقل قلقًا, وأخف اهتمامًا بذاته على نحوٍ يجعل من التيسير عليه تقبل الآخرين, وتكوين علاقات شخصية ناجحة معهم.
3- تعميق الميول والاهتمامات: خلال هذا الطور ينشغل الراشد الصغير انشغالًا أكبر بمجالات خاصة من الميول والاهتمامات, والراشدون في ذلك على عكس الأطفال والمراهقين والشباب الذين تكون اندماجاتهم في هذه المجالات قصيرة الأمد؛ فالراشد المبكر يظهر التزامًا حقيقيًّا بميوله, سواء أكانت في المجال الأكاديمي أم المهني, في مجال الهواية أم في نطاق العلاقات الشخصية, ولهذا السبب نجد أن الراشد يستفيد من أنشطته أكثر ممن هم أصغر منه سنًّا, سواء أكان ذلك في ضوء المهارات التي يتعلمها, أو الرضا والإشباع الذي يحصل عليه.
4- زيادة إنسانية القيم: يظهر الراشدون أيضًا وعيًا متزايدًا بالمعنى الإنساني للقيم, وبالوظيفة التي تؤديها في المجتمع, ولم تعد الأخلاق عنده -كما بينا- قواعد جامدة أو مطلقة كما كان الحال من قبل، وإنما أصبح ينظر
ليها في ضوء أكثر شخصية وإنسانية، اعتمادًا على خبرات الحياة، والنظام القيمي العام للمجتمع "النظام القيمي الإسلامي في المجتمعات الإسلامية".
5- توسيع نطاق الرعاية: إن اهتمام الراشد برفاهية الآخرين يتسع نطاقه خلال فترة الشباب والرشد المبكر, ويتزايد الاتجاه نحو التعاطف مع الآخرين, ولا يقتصر ذلك على الأشخاص الذين يعرفهم أو يتعامل معهم؛ كالزوجة والأبناء والأقارب, وإنما يمتد إلى الإنسانية عامة، ويشمل ذلك أشخاصًا قد لا يرفهم الراشد شخصيًّا، وخاصةً الذين ينتمون إلى الفئات الأقل حظًّا في المجتمع؛ كالفقراء والمرضى والمقهورين.
ومن المتغيرات التي تؤثر في تكيف الراشدين المبكرين الطريقة التي يواجهون بها الناس, ويتفاعلون بها مع ما يسميه بعض الباحثين "Brodzinskey et al 1986" أحداث الحياة, ويعرف حدث الحياة Lif-evevt على المستوى العام جدًّا بأنه أيّ خبرة لها أهميتها لدى الفرد، كما يمكن أن يعرف على نحوٍ أكثر تخصيصًا بأنه ما يؤدي أو يتطلب تغيرًا جوهريًّا في النمط الساري لحية الفرد, وتوجد أحداث حياة يتعرض لها تقريبًا جميع الراشدين؛ كخبرة الدخول في مجال العمل أو الزواج, كما توجد أحداث أخرى يتعرض لها قليل منهم؛ كخبرة السجن أو المرض المزمن, وفي جميع الأحوال تتطلب هذه الأحداث توافقًا من جانب الراشد، يصدق ذلك على الأحداث السارة والأحداث الضارة جميعًا.
ولعل أكثر هذه الأحداث شيوعًا ما يلي: الزواج للجنسين، الحمل والولادة "للإناث"، الطلاق، الدخول في سوق العمل، تغير الوضع المالي، تغير الأنشطة الاجتماعية وغيرها, بهذه الأحداث يشغل الراشد أدوارًا جديدة لم تكن له من قبل، مثل دور العامل والزوج والوالد، إلخ. وبالطبع لا يمارس الجميع هذه الأدوار في نفس الوقت، فبينما يتزوج البعض مثلًا في سن 18سنة, فإن آخرين قد لا يتزوجون إلّا في أواخر الثلاثينات، وهناك القليلون الذين لا يتزوجون أبدًا.
ولعلنا نذكر أن معظم الناس لديهم شعور بأنهم "مبكرون" أو "في الوقت المناسب " أو"متأخرون" بالنسبة للقيام بأدوار الرشد، وتؤكد البحوث أن شعور الفرد بأن "الوقت قد فاته" بالنسبة للقيام بدور معين يعد المصدر الرئيسي للقلق والتوتر لدى الراشدين.
ويختلف أيضًا ترتيبٌ القيام بأدوار الرشد, وقد كان الأمر في الماضي أكثر تحديدًا, فكان من المتوقع من المرأة أن تتزوج وتنجب أطفالًا وهي لم تتعد بعد
تحقق للإنسان رشده الذي هو في جوهره "استقلال اقتصادي واستقرار اجتماعي", ولعل أشقَّ هذه الظروف علي في مصر الآن البطالة وأزمة الإسكان "فؤاد أبو حطب 1989".
ويعود بنا ذلك مرةً أخرى إلى مسألة "هوية الأنا أو الذات" في الرشد, لقد افترض النموذج الأساسي لإريكسون أن المراهقة "وربما الشباب" هي طور أزمة الهوية, يتجاوزها الإنسان مع الرشد المبكر إلى أزمة الألفة في مقابل العزلة، والتي يرى إريكسون أن الفرد يتعرض لها في فترة العشرينات من عمره بعد أن تتكون هويته وظيفيًّا، حتى ولو لم تستقر أو تثبت, وتعني الألفة intimacy أن يستطيع المرء أن يتشارك مع الآخرين عن طريق التخلي عن بعض هويته، وحينئذ تحلّ "النحن" محل "الأنا" عند التفكير في الحاضر أو المستقبل, ويؤدي الفشل في تكوين علاقات الألفة إلى العزلة السيكولوجية, والتي هي أبعد عن المرغوبية وعن الصحة النفسية في وقت واحد. أما النجاح في تخطِّي هذه الأزمة فيقود إلى الشعور بالتكافل والتماسك والتضامن مع الآخرين, سواء في العلاقات الزوجية داخل الأسرة، أو العلاقات مع جماعات الأصدقاء، أو مع جماعات التنافس والتعاون في العمل والترويح.
إلّا أن حلّ "أزمة الهوية" -وهو مؤشر سيكولوجي إضافي على بلوغ الرشد -ليس أمرًا سهلًا, وقد أشرنا إلى بعض صعوباته عند تناول طور الشباب "الفصل 14"، وتمتد هذه الصعوبات إلى العمر الثاني للإنسان, وبخاصة طور الرشد المبكر موضع اهتمامنا الآن, وكان مارشيا على رأس مَن اعتبروا أن حلَّ أزمة الهوية في مرحلة الرشد أكثر تعقيدًا من الوصف المبسط الذي يقدمه إريكسون, وفي هذا الصدد يقترح عاملين لهما الدور الحاسم في هذا الصدد؛ أولهما: وجود أزمة شخصية لدى الرشد في مجالٍ معينٍ مثل المهنة أو الدين أو السياسة، وثانيهما: وجود درجة من الالتزام الشخصي لديه بالمسائل الخلافية المختلفة في هذه المجالات, وبالطبع بين هذين العاملين "الأزمة والالتزام" يتوصل مارشيا -من خلال سلسلة من البحوث المنظمة- إلى تصنيف طرق حل أزمة الهوية في الرشد إلى أربع فئاتٍ يسميها مكانات الهوية identity statuses
"16-1" وهذه الفئات الأربع هي:
جدول رقم "16-1" تصنيف مكانات الهوية "عن مارشيا Marcia 1980"
1- إحراز الهوية: "identity achievement": وأصحاب هذه المكانة من الراشدين هم أولئك الذين تعرضوا لأزماتٍ شخصية في واحد أو أكثر من مجالات الحياة الاجتماعية "المهنة، الزواج، الدين، السياسة.. إلخ" وتوصولًا إلى قرارٍ شخصيٍّ فيه التزام بموقف معين، قد يتفق أو يختلف مع رغبات الآخرين الهامين "الوالدين مثلًا" ووجهات نظرهم, وهؤلاء يتسمون بتقديرٍ عالٍ للذات, واستقلال سيكولوجي, واستدلال خلقي من مستوى رفيع، وألفة "بمعناها عند إريكسون" مع الأشخاص الآخرين، وقلق منخفض، كما يظهرون ميولًا واسعة النطاق, وهذا كله من مؤشرات الرشد.
2- رهن الهوية "identity foreclosure": وأصحاب هذه المكانة هم عكس الفئة السابقة لأنهم لا يتعرضون لأزماتٍ شخصيةٍ, ومع ذلك لديهم أسلوب حياة واضح وقرارات قيمية محددة, وهؤلاء هم في العادة الذين يستسلمون لرغبات الآخرين الهامين وآرائهم "الوالدين أو القادة أو غيرهم" إما بسبب الضغوط الانفعالية أو الاقتصادية, أو الخوف من الرفض, أو الشعور بعدم الكفاءة, أو نقص القدرة, ويتسم هؤلاء بدرجة عالية من الجمود والتصلب والخضوع للسلطة, كما أن أسلوبهم في التعامل مع الآخرين فيه درجة عالية من التسلط، وهم أكثر تقليدية في الاستدلال الخلقي, ويعوزهم الاستبصار بأنفسهم, ومن هنا جاء وصفهم بأنهم "رهنوا" هويتهم لدى الآخرين, كما يرهن المعوز بعض ما يملك لدى شخص قادر لحين قدرته على السداد, وحين يأتي ذلك الوقت قد يغير بعض "التزاماته" السابقة، فيغير عمله أو تفشل حياته الزوجية.
3- تأجيل الهوية identity moratorium: وهذه الفئة تشمل أولئك الذين لا يظهرون دليلًا واضحًا على الالتزام, ومع ذلك فهم غير قادرين على اتخاذ قراراتٍ حول حياتهم بسبب ما يتعرضون له من أزمات شخصية في عدد من
1- إحراز الهوية: "identity achievement": وأصحاب هذه المكانة من الراشدين هم أولئك الذين تعرضوا لأزماتٍ شخصية في واحد أو أكثر من مجالات الحياة الاجتماعية "المهنة، الزواج، الدين، السياسة.. إلخ" وتوصولًا إلى قرارٍ شخصيٍّ فيه التزام بموقف معين، قد يتفق أو يختلف مع رغبات الآخرين الهامين "الوالدين مثلًا" ووجهات نظرهم, وهؤلاء يتسمون بتقديرٍ عالٍ للذات, واستقلال سيكولوجي, واستدلال خلقي من مستوى رفيع، وألفة "بمعناها عند إريكسون" مع الأشخاص الآخرين، وقلق منخفض، كما يظهرون ميولًا واسعة النطاق, وهذا كله من مؤشرات الرشد.
2- رهن الهوية "identity foreclosure": وأصحاب هذه المكانة هم عكس الفئة السابقة لأنهم لا يتعرضون لأزماتٍ شخصيةٍ, ومع ذلك لديهم أسلوب حياة واضح وقرارات قيمية محددة, وهؤلاء هم في العادة الذين يستسلمون لرغبات الآخرين الهامين وآرائهم "الوالدين أو القادة أو غيرهم" إما بسبب الضغوط الانفعالية أو الاقتصادية, أو الخوف من الرفض, أو الشعور بعدم الكفاءة, أو نقص القدرة, ويتسم هؤلاء بدرجة عالية من الجمود والتصلب والخضوع للسلطة, كما أن أسلوبهم في التعامل مع الآخرين فيه درجة عالية من التسلط، وهم أكثر تقليدية في الاستدلال الخلقي, ويعوزهم الاستبصار بأنفسهم, ومن هنا جاء وصفهم بأنهم "رهنوا" هويتهم لدى الآخرين, كما يرهن المعوز بعض ما يملك لدى شخص قادر لحين قدرته على السداد, وحين يأتي ذلك الوقت قد يغير بعض "التزاماته" السابقة، فيغير عمله أو تفشل حياته الزوجية.
3- تأجيل الهوية identity moratorium: وهذه الفئة تشمل أولئك الذين لا يظهرون دليلًا واضحًا على الالتزام, ومع ذلك فهم غير قادرين على اتخاذ قراراتٍ حول حياتهم بسبب ما يتعرضون له من أزمات شخصية في عدد من لمجالات الاجتماعية, وهم يجاهدون للوصول إلى درجة من الإدراك الواضح لهويتهم, وهم يشبهون فئة إحراز الهوية "الفئة الأولى", إلّا أنهم بسبب عدم التزامهم بموقفٍ محدد يظهرون درجة عالية من القلق وكثيرًا من المسايرة للآخرين، كما أنهم أقل رضًا بإنجازهم, وأكثر استعدادًا لتغيير تعليمهم أو مهنتهم، وقد تنهار حياتهم الأسرية لأتفه الأسباب.
4- خلط الهوية: identity diffusion: وأصحاب هذه المكانة يتفقون مع من هم في الفئة السابقة في أنهم ليس لديهم التزامٌ برأي واضحٍ أو موقف محدد إزاء القضايا الخلافية في الحياة الاجتماعية, إلّا أنهم يختلفون عنهم في أنهم لا يعانون من أزمات شخصية في مجالات هوية الحياة، فهم فئة اللاالتزام واللاأزمة معًا, وفي وقت واحد, ولهذا فهم أقل الفئات قدرةً على الوصول إلى قرارت حاسمة ومواقف واضحة في مسائل الحياة المختلفة، وهم أقل الناس تقديرًا لأنفسهم، كما أن درجاتهم تكون منخفضة في الاستدلال الخلقي والاستقلال النفسي والألفة بالآخرين, أضف إلى ذلك أن مستوى القلق لديهم أعلى من الجميع, ولهذا فهم لا يزالون بهذه الخصائص جميعًا في طور ما قبل الرشد السيكولوجي, حتى ولو وصلوا إلى العمر القانوني له.