كما هو الحال في النموِّ الجسميِّ, فإن بعض القدرات العقلية المعرفية تصل إلى قمتها خلال الرشد المبكر, وتؤكد البحوث أن المهام التي تتطلَّب السرعة في زمن الاستجابة أو زمن الرجع وذاكرة المدى القصير، والقدرة على إدراك العلاقات المعقدة, تُؤَدَّى بطريقة عالية الكفاءة خلال المراهقة وبداية العشرينات من العمر, كما أن بعض القدرات الابتكارية وخاصةً تلك التي تتطلَّبُ إنتاج أفكار, أو نواتج فريدة "الأصالة" أو متنوعة "المرونة", تصل إلى أعلى مستوياتها خلال الرشد المبكر أيضًا, إلّا أن معظم القدرات الأخرى تستمر في النموِّ بعد هذا الطور؛ فالقدرات العقلية المرتبطة بالنشاط اللغوي والسلوك الاجتماعي مثلًا تظل في حالة نموٍّ مستمرٍّ خلال الخمسينات من العمر, وربما بعد ذلك, وهذه هي المهارات والقدرات التي تتحسن بالتعلم والخبرة.
ويوجد سؤال هامٌّ تحيطه المشكلات المنهجية يتصل بالتحسن والتدهور في في ذلك دون شكٍّ، ومن ذلك درجة التقدُّمِ التكنولوجي في المجتمع؛ فالمجتمعات ذات المستوى التكنولوجي المتقدم تكون في حاجة إلى عدد أكبر من الأفراد ذوي القدرة العالية على التفكير المجرد، وعلى ذلك فإن مثل هذه المجتمعات أكثر تهيؤًا لتوفير مسالك وسبل لنمو هذا النمط من التفكير وطرق التعبير عنه، ومن هذه السبل التربية, وقد أيدت البحوث الحديثة وجود علاقة موجبة بين عدد سنوات الدراسة ونموّ مبادئ التفكير باستخدام العمليات الصورية, ويوجد عامل آخر يرتبط بالتفكير الصوري هو مستوى الذكاء, فمن المتوقَّع أن يكون الأشخاص الأكثر ذكاءً أكثر قدرةً على تنمية واستخدام العمليات الصورية أيضًا.
ويوجد جدل حادٌّ في أروقة علم نفس النموِّ حول ما أشرنا إليه من أن الراشدين لا يصلون جميعًا بالضرورة إلى المستوى المعرفي للعمليات الصورية, بل ربما لا يصل إلى هذه المرحلة بالفعل أكثر من 50% منهم, ويذكر "Dasen 1972" أن هذا النمط من التفكير أقل شيوعًا في الثقافات غير الغربية, وهذا القول أكده "Leskow Smock 1970" من قبل, كما يذكر آخرون "Elkind 1961" أن هذه القدرة أقل نموًّا لدى النساء, كما أنها لا تظهر إلّا لدى نسبة لا تزيد عن 17% من طلاب الجامعة "Tolmlinson- Keasey 1972", ويفسر بعض الباحثين هذه النتائج بأنها لا ترجع إلى عدم القدرة لدى هؤلاء على استخدام الاستدلال المنطقي كما يحدده مفهوم بياجيه عن العمليات الصورية, وإنما ترجع إلى أن بعض ميول الاستجابة وبعض خصائص الاختبارات المستخدمة لا تسمح لكلِّ شخصٍ بإظهار كفاءته بنفس الدرجة "Brodzinsky et al 1980", فإذا كان الشخص غير مهتم بالمهمة التي يؤديها في الموقف التجريبي أو الاختباري، أو كان على على درجة عالية من القلق نتيجة وضعه موضع التقويم، أو كانت المهارات المطلوبة لحل المشكلة قد تعرضت "للصدأ" نتيجةً لعدم الاستعمال, فإن أداء هذا الشخص حينئذٍ يكون أضعف من أدء شخصٍ آخر لديه الدافعية للعمل، ودرجة منخفضة من قلق التقويم، ويمارس بانتظام هذه المهارات اللازمة لحل المشكلة، ولعل أهم العوامل التي تؤثر في أداء الأفراد في هذه المهام اللازمة لحل المشكلة, ولعل أهم العوالم التي تؤثر في أداء الأفراد في هذه المهام الخاصة بالعمليات الصورية وغيرها من المهام التي استخدمها بياجيه, تعود في جوهرها إلى ما يُسَمَّى في الوقت الحاضر الأسلوب المعرفي Cognitive Style, والذي يدل على النمط الذي تَعَوَّدَ عليه الفرد كأسلوب في حل المشكلات؛ فالأشخاص الذين يتسمون بالأسلوب التأملي -أي: أولئك الأكثر حذرًا وحيطةً, وأكثر رويةً وأناةً, وأكثر انتظامًا, ويستخدمون التخطيط في سلوك حل المشكلة- يؤدون أداء جيدًا في هذا المهام, كما يؤدي في المهام
بنفس الجودة أصحاب أسلوب الاستقلال عن المجال Field- independent، وهم الأشخاص الأكثر قدرة على التمييز بين المعلومات المرتبطة وغير المرتبطة بسياق حل المشكلة, وعلى العكس فإن أولئك الأكثر اندفاعًا في الاستجابة لمواقف المشكلة، وأولئك الأكثر اعتمادًا على المجال, أو الذين يعانون من صعوبة التعرف على ما هو مرتبط بمشكلة معينة تتضمن معلومات أخرى, يؤدون أداءً سيئًا في هذه المهام.
ولعل هذه النتائج جميعًا دفعت بعض الباحثين المعاصرين إلى التشكك في مسلَّمة بياجيه, في أن المستوى الأعلى للنموِّ المعرفي يتم الوصول إليه بإحراز العمليات الصورية, وقد حاول بعضهم تحديد مستوياتٍ من النشاط المعرفي تتجاوز هذه المرحلة، ونشير فيما يلي إلى مجموعةٍ من البدائل الهامَّةِ لوصف النشاط العقلي لدى الراشدين، وأهمها وأكثرها شيوعًا ثلاثة هي:
1- إيجاد المشكلات: يرى آرلن "Arlin 1975" أن إيجاد المشكلة Problem- finding, هو المستوى الخامس من النشاط المعرفي "الأعلى من مستوى العمليات الصورية عند بياجيه", وهو الذي يتسم به سلوك الراشدين, ويتمثَّل ذلك في قدرة الراشد على توليد أسئلة جديدة ومرتبطة حول العالم الذي يحيط به, وعلى ذلك فإن الفرد هنا يطرح مشكلات جديدةً بدلًا من محض التنبه إلى المشكلات القائمة, كما أن الباحث عن المشكلات قد يكتشف طرقًا جديدةً في النظر إلى المسائل المألوفة من أجل الوصول إلى حلول جديدة ممكنة, ويرى آرلن أن هذا السلوك قد يكون هو العملية التي تربط بين البنى المعرفية عند بياجيه وعملية الابتكار. وفي رأيه أن العمليات الصورية هي شرطٌ ضروريٌّ, ولكنه غير كافٍ لحل المشكلة, وعلى أية حالٍ فإن هذه المرحلة الخامسة المقترحة لم تحظ بعد بالقبول العام لدى الباحثين، وهناك من يتشكك فيها على أسس تجريبية ومنطقية, وترى آمال صادق "1989" أن سلوك إيجاد المشكلات لا يقتصر على سلوك الراشدين، وإنما هو من خصائص التفكير الابتكاري والإبداعي بصفة عامة, سواء أكان في الطفولة أم المراهقة أم الرشد.
2- التفكير الجدلي: وهي عملية إضافية أخرى اقترحها ريجل Riegel" 1975 1973, لتفسير النشاط المعرفي لدى الراشدين, وخلاصة ذلك أنه يرى أن تفكير الراشدين يتسم بالخاصية الجدلية dialectic على طريقة الفيلسوف الألماني هيجل، أي: بالقدرة على التعرف على الصراع المعرفي, والتناقض بين الأفكار, وتقبله, بل وحتى الرغبة فيه والسعي إليه, وفي هذا ينتقد ريجل مسلَّمَة بياجيه في
أن التفكير باستخدام العمليات الصورية -وهو أعلى المستويات عنده- هو أكثر صور التفكير نضجًا, كما ينتقد أيضًا رأيه في أن التفكير الناضج ينشد تحقيق التوازن -أي: تحقيق حالة من عدم التوتر فيها يلائم كل شيء بعضه بعضًا "راجع الفصل الخامس من هذا الكتاب", وعلى العكس فإنه يرى أن التفكير الناضج "وهو بالطبع تفكير الراشدين" لا يسعى إلى التوازن أو خفض التوتر، وإنما هو سعيٌ مستمرٌّ نحو الأزمة المعرفية؛ فالعقل الناضج يحتاج إلى الاستثارة المستمرة، ويرحب بالتناقض الظاهري الذي يصاحب وجهتي نظر متعارضتين أو أكثر؛ لأن هذا هو "الغذاء" الذي يهيئ الفرصة لنمو العقل الإنساني.
ويرى ريجل أن التفكير الجدلي يمكن أن يحدث في أيِّ مرحلة من المراحل التي اقترحها بياجيه، على الرغم من أن محتوى العملية الجدلية يكون أقل تعقدًا بكثير في المراحل الدنيا؛ فطفل ما قبل المدرسة مثلًا يعزي صفات مطلقة للأشياء والأشخاص، فخصائص مثل كبير وصغير، ثقيل وخفيف, وغيرها، إما أن تكون أو لا تكون؛ فالشخص إما أن يكون كبيرًا أو صغيرًا, وبعد ذلك يصبح العقل أكثر وعيًا بالصراع والتناقض في هذه الخصائص؛ فالأخ الأكبر يكون أطول حين يقارن أخيه بأخيه الأصغر, ولكنه "أي: الأخ الأكبر" يكون أقصر حين يقارن بأبيه, فكيف يكون الشخص طويلًا وقصيرًا في نفس الوقت؟! إن الطفل يحل هذا التناقض الظاهري بالتعرف على أن بعض الخصائص لها خاصية نسبية، أي أنها لا تفهم إلّا في سياق خاص، أو في علاقتها بشيء آخر.
وهذا المستوى الذي يصل إليه الطفل لا يحل المشكلة المباشرة التي تواجهه، ولكنه يزوده باستراتيجية معرفية ضرورية لإدراك العالم من حوله من منظور أكثر اتساعًا وشمولًا وعمقًا.
وكما يفعل الصغار يفعل أيضًا الشباب والراشدون المبكرون، فهم يتعاملون مع العالم المحيط بهم من خلال المنظور الجدلي، والفرق بين الصغار والكبار هو المستوى الرفيع الذي تكون عليه هذه العملية في طور الرشد؛ فالتناقضات التي يوجهها الراشدون تكون أكثر حدوثًا على مستوى الأفكار المجردة, ولا تقتصر على المستوى العياني كما هو الحال عند الصغار.
وبهذا تكون حياة الراشد في جوهرها مجاهدة ومكابدة, مع تناقضات وصراعات كثيرة في حياته, تتصل بالأخلاق والسياسة والتربية والدين وفلسفة الحياة, ولعل هذا -والله أعلم- أحد ألوان الكَبَدِ الذي يعانيه الإنسان, والذي أشار إليه القرآن الكريم في قوله تعالى:
{لَقَدْ خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ فِي كَبَدٍ} [البلد: 4] .
إلّا أن الراشدين ليسوا بالضرورة في حاجةٍ إلى حل جميع التناقضات التي يواجهونها، فالإنسان الناضج -رأى ريجل- هو الذي يتقبل هذه التناقضات على أنها خاصية أساسية من خصائص الفكر والحياة الإنسانية.
3- التفكير النسبي العملي في إطار سياقات معينة: اقترحت هذا النموذج جيزيلا لابوفى -فيف عام 1982 "Lambouvie Vief 1982", في نقدها المفصَّلِ لاستخدام نموذج بياجيه أو غيره من النماذج المتمركزة حول الطفل أو المراهق, في تفسير النمو المعرفي للراشدين, وفي رأيها أن التركيز على هذا النموذج يمكن أن يعبِّرُ عن تدهورٍ أو نكوصٍ في تفكير الراشدين, وليس تقدمًا أو تطورًا, ويمكن توظيف مثل هذا النموذج عند تناول النشاط المعرفي للمسنين المعمرين الذين قد يبلغون أرذل العمر؛ حيث الانتكاس والنكوص بالفعل, أما عند تفسير سلوك الراشدين، وهم الفئة العمرية التي تدل على القوة واكتمال النموّ، في إطار أفكار بياجيه فإننا نقع -في رأيها- في خطأ بالغ.
بل إن الاعتماد على النموذج التقليدي لبياجيه في تفسير تفكير الراشدين قد يوحي لنا بحدوث عمليات سوء توافق لديهم إذا لاحظنا أن تفكيرهم المنطقي والصوري يتناقص, بينما يتزايد لديهم التركيز الأكثر برجماسية,. والموجِّه عيانيًّا نحو الواقع, إلّا أن حقيقة الأمر أن هذا ما يحدث بالفعل في تفكير الراشدين, وهو علامة على مزيدٍ من التوافق والتقدم، بل إن التفكير الصوري قد يكون اختيارًا خاطئًا في طور الرشد بسبب الطابع المثالي الغالب عليه, والذي قد يبعده عن التوجه العملي نحو عالم الواقع.
ومن الملاحظ أنه مع تقدُّمِ الشباب في دراستهم الجامعية, أو في مجال حياتهم المهنية, تتناقص في تفكيرهم خاصية "المطلق", وتتزايد خاصية "النسبي"؛ ففي إدراك الراشد توجد منظورات متعددة, وسياقات مختلفة, وحلول بديلة للمشكلات، ولعل هذا يفسر لنا النقص في استخدام التفكير الصوري خلال الانتقال من المراهقة إلى الرشد, ويدل هذا على السعي نحو إحداث تكاملٍ جديدٍ في التفكير الإنساني من خلال تَقَبُّلِ ضوابط عالم الواقع وقيوده وحدوده وشروطه، وهذا كله من سمات تفكير الراشدين. وتعني هذه الاستراتيجية التوافقية أن الراشد يعتمد اعتمادًا أقل على البحث عن اليقين المنطقي في حل المشكلات، ولهذا فإن جزءًا من هذا التغير المعرفي يظهر لدى الراشدين المبكِّرِين في صورة التخصص والنسبية والواقعية, بدلًا من التفكير المطلق والمثالي والعام لدى من هم أصغر سنًّا.
وعلى هذا فلا بُدَّ لنا من استخدام محكاتٍ مختلفةٍ للحكم على النضج المعرفي في مرحلة الرشد؛ لأن استخدام المحكات الخاصة بمرحلة العمليات الصورية مضلل, والبديل لذلك ما يتسم به تفكير الراشدين من خصائص الالتزام والتخصص والخبرة العملية, وتوجيه الطاقة حتى يجد الشخص لنفسه مكانًا ومكانة في النسق الاجتماعي المعقد الذي يعيش فيه, وبهذا تحل الاهتمامات العملية الناضجة للراشدين محل انبهار المراهقين بممارسة المنطق الصوري المثالي.
وهكذا يسقط التصور الذي ظلَّ شائعًا لأكثر من نصف قرن، وهو أن التفكير المنطقي الصوري هو الصورة الأكثر نضجًا ورقيًّا في تفكير الإنسان، وأنه حالما يصل إليه المرء "مع البلوغ الجنسي ومرحلة المراهقة", فإنه يصبح سمة تفكيره طوال حياته بعد ذلك, فقد تَأَكَّدَ أن النشاط المعرفي للراشدين هو في جوهره من النوع النسبي والعملي والمحسوس والعياني والموجَّه نحو سياقٍ معين, وفهم الراشد لظروف الواقع وقيوده وضوابطه علامة على مزيدٍ من النضج والنمو المعرفيين, وليس مؤشرًا على انتكاسٍ إلى مرحلة العمليات العيانية السابقة "في نموذج بياجيه".
وهكذا ترى لابوني -فيف, وجود مرحلة خامسة في النمو المعرفي للإنسان تتلو مرحلة العمليات الصورية, وتظهر في صورة التفكير النسبي العملي السياقي, وتبدأ خصائص هذه المرحلة في الظهور في السنوات التي تتلو مباشرةً المرحلة الثانوية في التعليم، أو مع دخول المراهق سوق العمل، ولهذا فإنها أكثر احتمالًا في الظهور لأول مرةٍ في الطور الذي أسميناه بطور بلوغ السعي أو الشباب, وهي بالقطع من خصائص السلوك المعرفي في الرشد، ويزداد هذا النمط من التفكير تبلورًا مع التقدُّم في العمر الثاني للإنسان "الرشد".
وتعقيبًا على هذه التصورات المختلفة للنشاط المعرفي الراشدين نقول -إنصافًا لبياجيه: إنه كان يرى أن دخول الإنسان عالم العمل قد يؤدي إلى ظهور أنماطٍ جديدة من التكيف, صحيح أنه لم يقترح مرحلة خامسة في النمو المعرفي، إلّا أنه كان على وعيٍ بأن "العمليات الصورية" ليست خاتمة المطاف, وعلى الرغم من أنه لا يوجد بين علماء نفس النمو اتفاق حول وجود وطبيعة مرحلة متميزة بعد مرحلة العمليات الصورية, إلّا أن عددًا كبيرًا من البحوث الحديثة يصف لنا التغيرات التي تطرأ على تفكير الراشدين, والتي لا يمكن تناولها مباشرةً وبسهولةٍ في إطار نموذج بياجيه, والنماذج الثلاثة التي تناولناها ليست كلّ ما في حقيبة البحث النفسي الحديث، فهناك أيضًا نماذج أقل شيوعًا؛ منها نموذج الإفراط في
الملاءمة overaccomdation الذي ترى فيه "Haan 1982" أن نجاح الراشدين الصغار في التكيف والتوافق مع الظروف البيئية لا يتحقق بمجرد المواءمة، أي: عملية التوافق من جانب الإنسان بحيث يتكيف أفضل مع الظروف الراهنة، وتعديل سلوكه لمواجهة هذه المطالب كما يرى بياجيه، "راجع سيد أحمد عثمان، فؤاد أبو حطب 1978", وإنما ما يحدث في الرشد المبكر هو الإفراط في هذه المواءمة, وهوسلوك ترى هان أنه لا يتناقص إلّا مع بلوغ وسط العمر "مرحلة بلوغ الرشد"؛ حيث يكون فيها الفرد قد حقق نجاحًا مؤكدًا, أو حقَّقَ نوعًا من المصالحة بين نفسه ومقدار الإنجازات التي أحرزها، وعندئذ تخف وطأة المبالغة في المواءمة التي كان عليها في طور الرشد المبكر؛ حيث يلعب السياق الاجتماعي الدور الحاسم، وفي هذا يتفق نموذج هان مع نموذج لابوني -فيف, الذي أشرنا إليه.
ويوجد نموذج آخر يؤكد أيضًا أهمية السياق الاجتماعي, يرى أن أهم خاصية معرفية في سلوك الراشدين هي "الإنجاز" achievement, وهو النموذج الذي اقترحه سكائي "1977 Schaie", وفيه يرى وجود أربعة مراحل للنمو المعرفي مدى الحياة هي: مرحلة الاكتساب, وتشير إلى طَوْرَي الطفولة والمراهقة, وفيهما ينشط الطفل والمراهق في بيئة "واقية حامية", ويكون هدفه الاكتساب المعرفي, ومع بلوغ الفرد مكانة الرشاد تصبح البيئة التي يعيش فيها أقل وقايةً وحمايةً له، وخاصة حمايته من نواتج الفشل في حل المشكلات, ولهذا فإن الهدف المعرفي في هذه الفترة "طور الرشد المبكر" ليس اكتساب المعرفة، كما كان الحال من قبل، وإنما إحراز الممكن والمحتمل، ولهذا يسمي سكائي هذا الطور بمرحلة الإنجاز, ثم يضيف إلى ذلك مرحلتين أخريين, هما مرحلة المسئولية في طور وسط العمر "بلوغ الأشد"، ثم إعادة التكامل في مرحلة الشيخوخة "العمر الثالث للإنسان", ويرى سكائي أن الإنسان في المراحل الثلاث الأخيرة "الإنجاز والمسئولية وإعادة التكامل" يكون مطالبًا بإحداث التكامل بين قدراته العقليةِ على مستويات عالية متزايدة التعقد من الأدوار الاجتماعية, ومرةً أخرى يلعب السياق الاجتماعي الدور الحاسم في النشاط العقلي للراشدين.
ويوجد نموذج ثالث -بين النماذج التي تعتمد في جوهرها على السياق الاجتماعي- قدمه كيرت فيشر "Fescher 1980", وفيه يقترح عشر مراحل من النموِّ المعرفي خلال دورة الحياة للإنسان، منها ست مراحل للطفولة، ومرحلة سابعة تميز ظهور علامات التفكير المجرد لأول مرة "مع المراهقة"، وتبقى
لمراحل الثلاث الأخيرة أوثق اتصالًا بتفكير الراشدين, وهي: بناء الخريطة المجردة abstract mapping, أو قدرة الراشد على إدراك العلاقة بين هويته المجردة والأشخاص الآخرين، وبناء النسق المجرد abstract sysems, أو القدرة على إدراك التآزر المتبادل بين هوية الراشد وغيره من الأشخاص الهامين, وكذلك التوقعات المجتمعية منه، ثم بناء نسق الأنساق المجردة system of abstract systems, ويعني: التآزر بين مختلف جوانب هوية الراشد طوال حيانه حتى يدرك "شخصيته" ككلٍّ له معنى, وهذه المراحل تتطلَّبُ إتقان بعض "المهارت المعرفية" على حدِّ تعبير فيشر, والتي يحتاج إليها الراشدون في السياق الاجتماعي الذي يتعاملون معه على النحو الذي أوضحته لابوتي-فيف.
ويمكننا أن نخلص من العرض السابق بالقول بأنه توجد على الأقل ثلاث خصائص هامة في تفكير الراشدين تستحق الاهتمام هي:
1- تفكير الراشدين يتسم بالنسبية, وهو بذلك يختلف عن تفكير المراهقين الذي يميل إلى أن يكون مطلقًا؛ فالراشدون أكثر تقبلًا لوجود أنساق معرفية متنافسة ومتعارضة, وينشأ ذلك جزئيًّا من اتساع العالم الاجتماعي للراشد، والذي يشمل وجهات نظر مختلفة, وأدوارا اجتماعية عديدة, بل ومتنافسة.
2- يدرك الراشدون أن التناقض هو خاصية من خصائص عالم الحقيقة والواقع, ولا يحتاج الأمر إلى حل الصراعات والتناقضات المعرفية لكي يحقق الراشد توافقه وتكيفه مع البيئة المحيطة به، وإنما قد يتحقق هذا التكيف يتقبل هذه التناقضات, بل إن تفكير الراشدين لا يقبل هذه التناقضات في عالم الواقع فحسب, وإنما قد يسعى إليها, ويعتمد عليها للوصول إلى حلول جديدة للمشكلات, من خلال النشاط الإبداعي "التفكير من خلال إيجاد المشكلات".
3- يسعى الراشدون في تفكيرهم إلى إحداث التكامل, أو التركيب بين جوانب المعرفة المتناقضة للوصل إلى تكوينٍ جديدٍ أكثر شمولًا واتساعًا, يسميه بعض الباحثين "Commons et al 1982" ما بعد الأنساق. ومعنى ذلك أنه بينما نجد المراهق يقتصر في تفكيره على الوصول إلى نسقٍ من التفكير مجردٍ وواحدٍ وعام ومنظم حول مبادئ العمليات الصورية, فإن الراشد -على العكس من ذلك- يبدأ في النظر إلى المعرفة على أنها تكامل وتآزر بين أنساق متعددة متنافسة, فوجود مفاهيم مختلفة متعددة حول الدين والعلم مثلًا, والتي تبدو ظاهريًّا لدى المراهق متعارضةً في وصف وتفسير الأمور الدينية والدنيوية, فإن ذلك لا يُعَدُّ بالنسبة للراشد محيرًا, كما كان يبدو من قبل, فبدلًا من النظر إلى إجابة واحدة صحيحة فإن الراشد يدرك أن المعرفة هي دائمًا تكامل وتركيب بين وجهات النظر التي تبدو متعارضة "في مثال العلم والدين قد يتجه نحو البحث في الإعجاز العلمي في القرآن الكريم مثلًا"، فكل خبرة ينظر إليها من زاوية مختلفة, أو من منظور مختلف, وتؤدي به إلى معلومات
واستبصارات جديدة.
ويوجد سؤال هامٌّ تحيطه المشكلات المنهجية يتصل بالتحسن والتدهور في في ذلك دون شكٍّ، ومن ذلك درجة التقدُّمِ التكنولوجي في المجتمع؛ فالمجتمعات ذات المستوى التكنولوجي المتقدم تكون في حاجة إلى عدد أكبر من الأفراد ذوي القدرة العالية على التفكير المجرد، وعلى ذلك فإن مثل هذه المجتمعات أكثر تهيؤًا لتوفير مسالك وسبل لنمو هذا النمط من التفكير وطرق التعبير عنه، ومن هذه السبل التربية, وقد أيدت البحوث الحديثة وجود علاقة موجبة بين عدد سنوات الدراسة ونموّ مبادئ التفكير باستخدام العمليات الصورية, ويوجد عامل آخر يرتبط بالتفكير الصوري هو مستوى الذكاء, فمن المتوقَّع أن يكون الأشخاص الأكثر ذكاءً أكثر قدرةً على تنمية واستخدام العمليات الصورية أيضًا.
ويوجد جدل حادٌّ في أروقة علم نفس النموِّ حول ما أشرنا إليه من أن الراشدين لا يصلون جميعًا بالضرورة إلى المستوى المعرفي للعمليات الصورية, بل ربما لا يصل إلى هذه المرحلة بالفعل أكثر من 50% منهم, ويذكر "Dasen 1972" أن هذا النمط من التفكير أقل شيوعًا في الثقافات غير الغربية, وهذا القول أكده "Leskow Smock 1970" من قبل, كما يذكر آخرون "Elkind 1961" أن هذه القدرة أقل نموًّا لدى النساء, كما أنها لا تظهر إلّا لدى نسبة لا تزيد عن 17% من طلاب الجامعة "Tolmlinson- Keasey 1972", ويفسر بعض الباحثين هذه النتائج بأنها لا ترجع إلى عدم القدرة لدى هؤلاء على استخدام الاستدلال المنطقي كما يحدده مفهوم بياجيه عن العمليات الصورية, وإنما ترجع إلى أن بعض ميول الاستجابة وبعض خصائص الاختبارات المستخدمة لا تسمح لكلِّ شخصٍ بإظهار كفاءته بنفس الدرجة "Brodzinsky et al 1980", فإذا كان الشخص غير مهتم بالمهمة التي يؤديها في الموقف التجريبي أو الاختباري، أو كان على على درجة عالية من القلق نتيجة وضعه موضع التقويم، أو كانت المهارات المطلوبة لحل المشكلة قد تعرضت "للصدأ" نتيجةً لعدم الاستعمال, فإن أداء هذا الشخص حينئذٍ يكون أضعف من أدء شخصٍ آخر لديه الدافعية للعمل، ودرجة منخفضة من قلق التقويم، ويمارس بانتظام هذه المهارات اللازمة لحل المشكلة، ولعل أهم العوامل التي تؤثر في أداء الأفراد في هذه المهام اللازمة لحل المشكلة, ولعل أهم العوالم التي تؤثر في أداء الأفراد في هذه المهام الخاصة بالعمليات الصورية وغيرها من المهام التي استخدمها بياجيه, تعود في جوهرها إلى ما يُسَمَّى في الوقت الحاضر الأسلوب المعرفي Cognitive Style, والذي يدل على النمط الذي تَعَوَّدَ عليه الفرد كأسلوب في حل المشكلات؛ فالأشخاص الذين يتسمون بالأسلوب التأملي -أي: أولئك الأكثر حذرًا وحيطةً, وأكثر رويةً وأناةً, وأكثر انتظامًا, ويستخدمون التخطيط في سلوك حل المشكلة- يؤدون أداء جيدًا في هذا المهام, كما يؤدي في المهام
بنفس الجودة أصحاب أسلوب الاستقلال عن المجال Field- independent، وهم الأشخاص الأكثر قدرة على التمييز بين المعلومات المرتبطة وغير المرتبطة بسياق حل المشكلة, وعلى العكس فإن أولئك الأكثر اندفاعًا في الاستجابة لمواقف المشكلة، وأولئك الأكثر اعتمادًا على المجال, أو الذين يعانون من صعوبة التعرف على ما هو مرتبط بمشكلة معينة تتضمن معلومات أخرى, يؤدون أداءً سيئًا في هذه المهام.
ولعل هذه النتائج جميعًا دفعت بعض الباحثين المعاصرين إلى التشكك في مسلَّمة بياجيه, في أن المستوى الأعلى للنموِّ المعرفي يتم الوصول إليه بإحراز العمليات الصورية, وقد حاول بعضهم تحديد مستوياتٍ من النشاط المعرفي تتجاوز هذه المرحلة، ونشير فيما يلي إلى مجموعةٍ من البدائل الهامَّةِ لوصف النشاط العقلي لدى الراشدين، وأهمها وأكثرها شيوعًا ثلاثة هي:
1- إيجاد المشكلات: يرى آرلن "Arlin 1975" أن إيجاد المشكلة Problem- finding, هو المستوى الخامس من النشاط المعرفي "الأعلى من مستوى العمليات الصورية عند بياجيه", وهو الذي يتسم به سلوك الراشدين, ويتمثَّل ذلك في قدرة الراشد على توليد أسئلة جديدة ومرتبطة حول العالم الذي يحيط به, وعلى ذلك فإن الفرد هنا يطرح مشكلات جديدةً بدلًا من محض التنبه إلى المشكلات القائمة, كما أن الباحث عن المشكلات قد يكتشف طرقًا جديدةً في النظر إلى المسائل المألوفة من أجل الوصول إلى حلول جديدة ممكنة, ويرى آرلن أن هذا السلوك قد يكون هو العملية التي تربط بين البنى المعرفية عند بياجيه وعملية الابتكار. وفي رأيه أن العمليات الصورية هي شرطٌ ضروريٌّ, ولكنه غير كافٍ لحل المشكلة, وعلى أية حالٍ فإن هذه المرحلة الخامسة المقترحة لم تحظ بعد بالقبول العام لدى الباحثين، وهناك من يتشكك فيها على أسس تجريبية ومنطقية, وترى آمال صادق "1989" أن سلوك إيجاد المشكلات لا يقتصر على سلوك الراشدين، وإنما هو من خصائص التفكير الابتكاري والإبداعي بصفة عامة, سواء أكان في الطفولة أم المراهقة أم الرشد.
2- التفكير الجدلي: وهي عملية إضافية أخرى اقترحها ريجل Riegel" 1975 1973, لتفسير النشاط المعرفي لدى الراشدين, وخلاصة ذلك أنه يرى أن تفكير الراشدين يتسم بالخاصية الجدلية dialectic على طريقة الفيلسوف الألماني هيجل، أي: بالقدرة على التعرف على الصراع المعرفي, والتناقض بين الأفكار, وتقبله, بل وحتى الرغبة فيه والسعي إليه, وفي هذا ينتقد ريجل مسلَّمَة بياجيه في
أن التفكير باستخدام العمليات الصورية -وهو أعلى المستويات عنده- هو أكثر صور التفكير نضجًا, كما ينتقد أيضًا رأيه في أن التفكير الناضج ينشد تحقيق التوازن -أي: تحقيق حالة من عدم التوتر فيها يلائم كل شيء بعضه بعضًا "راجع الفصل الخامس من هذا الكتاب", وعلى العكس فإنه يرى أن التفكير الناضج "وهو بالطبع تفكير الراشدين" لا يسعى إلى التوازن أو خفض التوتر، وإنما هو سعيٌ مستمرٌّ نحو الأزمة المعرفية؛ فالعقل الناضج يحتاج إلى الاستثارة المستمرة، ويرحب بالتناقض الظاهري الذي يصاحب وجهتي نظر متعارضتين أو أكثر؛ لأن هذا هو "الغذاء" الذي يهيئ الفرصة لنمو العقل الإنساني.
ويرى ريجل أن التفكير الجدلي يمكن أن يحدث في أيِّ مرحلة من المراحل التي اقترحها بياجيه، على الرغم من أن محتوى العملية الجدلية يكون أقل تعقدًا بكثير في المراحل الدنيا؛ فطفل ما قبل المدرسة مثلًا يعزي صفات مطلقة للأشياء والأشخاص، فخصائص مثل كبير وصغير، ثقيل وخفيف, وغيرها، إما أن تكون أو لا تكون؛ فالشخص إما أن يكون كبيرًا أو صغيرًا, وبعد ذلك يصبح العقل أكثر وعيًا بالصراع والتناقض في هذه الخصائص؛ فالأخ الأكبر يكون أطول حين يقارن أخيه بأخيه الأصغر, ولكنه "أي: الأخ الأكبر" يكون أقصر حين يقارن بأبيه, فكيف يكون الشخص طويلًا وقصيرًا في نفس الوقت؟! إن الطفل يحل هذا التناقض الظاهري بالتعرف على أن بعض الخصائص لها خاصية نسبية، أي أنها لا تفهم إلّا في سياق خاص، أو في علاقتها بشيء آخر.
وهذا المستوى الذي يصل إليه الطفل لا يحل المشكلة المباشرة التي تواجهه، ولكنه يزوده باستراتيجية معرفية ضرورية لإدراك العالم من حوله من منظور أكثر اتساعًا وشمولًا وعمقًا.
وكما يفعل الصغار يفعل أيضًا الشباب والراشدون المبكرون، فهم يتعاملون مع العالم المحيط بهم من خلال المنظور الجدلي، والفرق بين الصغار والكبار هو المستوى الرفيع الذي تكون عليه هذه العملية في طور الرشد؛ فالتناقضات التي يوجهها الراشدون تكون أكثر حدوثًا على مستوى الأفكار المجردة, ولا تقتصر على المستوى العياني كما هو الحال عند الصغار.
وبهذا تكون حياة الراشد في جوهرها مجاهدة ومكابدة, مع تناقضات وصراعات كثيرة في حياته, تتصل بالأخلاق والسياسة والتربية والدين وفلسفة الحياة, ولعل هذا -والله أعلم- أحد ألوان الكَبَدِ الذي يعانيه الإنسان, والذي أشار إليه القرآن الكريم في قوله تعالى:
{لَقَدْ خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ فِي كَبَدٍ} [البلد: 4] .
إلّا أن الراشدين ليسوا بالضرورة في حاجةٍ إلى حل جميع التناقضات التي يواجهونها، فالإنسان الناضج -رأى ريجل- هو الذي يتقبل هذه التناقضات على أنها خاصية أساسية من خصائص الفكر والحياة الإنسانية.
3- التفكير النسبي العملي في إطار سياقات معينة: اقترحت هذا النموذج جيزيلا لابوفى -فيف عام 1982 "Lambouvie Vief 1982", في نقدها المفصَّلِ لاستخدام نموذج بياجيه أو غيره من النماذج المتمركزة حول الطفل أو المراهق, في تفسير النمو المعرفي للراشدين, وفي رأيها أن التركيز على هذا النموذج يمكن أن يعبِّرُ عن تدهورٍ أو نكوصٍ في تفكير الراشدين, وليس تقدمًا أو تطورًا, ويمكن توظيف مثل هذا النموذج عند تناول النشاط المعرفي للمسنين المعمرين الذين قد يبلغون أرذل العمر؛ حيث الانتكاس والنكوص بالفعل, أما عند تفسير سلوك الراشدين، وهم الفئة العمرية التي تدل على القوة واكتمال النموّ، في إطار أفكار بياجيه فإننا نقع -في رأيها- في خطأ بالغ.
بل إن الاعتماد على النموذج التقليدي لبياجيه في تفسير تفكير الراشدين قد يوحي لنا بحدوث عمليات سوء توافق لديهم إذا لاحظنا أن تفكيرهم المنطقي والصوري يتناقص, بينما يتزايد لديهم التركيز الأكثر برجماسية,. والموجِّه عيانيًّا نحو الواقع, إلّا أن حقيقة الأمر أن هذا ما يحدث بالفعل في تفكير الراشدين, وهو علامة على مزيدٍ من التوافق والتقدم، بل إن التفكير الصوري قد يكون اختيارًا خاطئًا في طور الرشد بسبب الطابع المثالي الغالب عليه, والذي قد يبعده عن التوجه العملي نحو عالم الواقع.
ومن الملاحظ أنه مع تقدُّمِ الشباب في دراستهم الجامعية, أو في مجال حياتهم المهنية, تتناقص في تفكيرهم خاصية "المطلق", وتتزايد خاصية "النسبي"؛ ففي إدراك الراشد توجد منظورات متعددة, وسياقات مختلفة, وحلول بديلة للمشكلات، ولعل هذا يفسر لنا النقص في استخدام التفكير الصوري خلال الانتقال من المراهقة إلى الرشد, ويدل هذا على السعي نحو إحداث تكاملٍ جديدٍ في التفكير الإنساني من خلال تَقَبُّلِ ضوابط عالم الواقع وقيوده وحدوده وشروطه، وهذا كله من سمات تفكير الراشدين. وتعني هذه الاستراتيجية التوافقية أن الراشد يعتمد اعتمادًا أقل على البحث عن اليقين المنطقي في حل المشكلات، ولهذا فإن جزءًا من هذا التغير المعرفي يظهر لدى الراشدين المبكِّرِين في صورة التخصص والنسبية والواقعية, بدلًا من التفكير المطلق والمثالي والعام لدى من هم أصغر سنًّا.
وعلى هذا فلا بُدَّ لنا من استخدام محكاتٍ مختلفةٍ للحكم على النضج المعرفي في مرحلة الرشد؛ لأن استخدام المحكات الخاصة بمرحلة العمليات الصورية مضلل, والبديل لذلك ما يتسم به تفكير الراشدين من خصائص الالتزام والتخصص والخبرة العملية, وتوجيه الطاقة حتى يجد الشخص لنفسه مكانًا ومكانة في النسق الاجتماعي المعقد الذي يعيش فيه, وبهذا تحل الاهتمامات العملية الناضجة للراشدين محل انبهار المراهقين بممارسة المنطق الصوري المثالي.
وهكذا يسقط التصور الذي ظلَّ شائعًا لأكثر من نصف قرن، وهو أن التفكير المنطقي الصوري هو الصورة الأكثر نضجًا ورقيًّا في تفكير الإنسان، وأنه حالما يصل إليه المرء "مع البلوغ الجنسي ومرحلة المراهقة", فإنه يصبح سمة تفكيره طوال حياته بعد ذلك, فقد تَأَكَّدَ أن النشاط المعرفي للراشدين هو في جوهره من النوع النسبي والعملي والمحسوس والعياني والموجَّه نحو سياقٍ معين, وفهم الراشد لظروف الواقع وقيوده وضوابطه علامة على مزيدٍ من النضج والنمو المعرفيين, وليس مؤشرًا على انتكاسٍ إلى مرحلة العمليات العيانية السابقة "في نموذج بياجيه".
وهكذا ترى لابوني -فيف, وجود مرحلة خامسة في النمو المعرفي للإنسان تتلو مرحلة العمليات الصورية, وتظهر في صورة التفكير النسبي العملي السياقي, وتبدأ خصائص هذه المرحلة في الظهور في السنوات التي تتلو مباشرةً المرحلة الثانوية في التعليم، أو مع دخول المراهق سوق العمل، ولهذا فإنها أكثر احتمالًا في الظهور لأول مرةٍ في الطور الذي أسميناه بطور بلوغ السعي أو الشباب, وهي بالقطع من خصائص السلوك المعرفي في الرشد، ويزداد هذا النمط من التفكير تبلورًا مع التقدُّم في العمر الثاني للإنسان "الرشد".
وتعقيبًا على هذه التصورات المختلفة للنشاط المعرفي الراشدين نقول -إنصافًا لبياجيه: إنه كان يرى أن دخول الإنسان عالم العمل قد يؤدي إلى ظهور أنماطٍ جديدة من التكيف, صحيح أنه لم يقترح مرحلة خامسة في النمو المعرفي، إلّا أنه كان على وعيٍ بأن "العمليات الصورية" ليست خاتمة المطاف, وعلى الرغم من أنه لا يوجد بين علماء نفس النمو اتفاق حول وجود وطبيعة مرحلة متميزة بعد مرحلة العمليات الصورية, إلّا أن عددًا كبيرًا من البحوث الحديثة يصف لنا التغيرات التي تطرأ على تفكير الراشدين, والتي لا يمكن تناولها مباشرةً وبسهولةٍ في إطار نموذج بياجيه, والنماذج الثلاثة التي تناولناها ليست كلّ ما في حقيبة البحث النفسي الحديث، فهناك أيضًا نماذج أقل شيوعًا؛ منها نموذج الإفراط في
الملاءمة overaccomdation الذي ترى فيه "Haan 1982" أن نجاح الراشدين الصغار في التكيف والتوافق مع الظروف البيئية لا يتحقق بمجرد المواءمة، أي: عملية التوافق من جانب الإنسان بحيث يتكيف أفضل مع الظروف الراهنة، وتعديل سلوكه لمواجهة هذه المطالب كما يرى بياجيه، "راجع سيد أحمد عثمان، فؤاد أبو حطب 1978", وإنما ما يحدث في الرشد المبكر هو الإفراط في هذه المواءمة, وهوسلوك ترى هان أنه لا يتناقص إلّا مع بلوغ وسط العمر "مرحلة بلوغ الرشد"؛ حيث يكون فيها الفرد قد حقق نجاحًا مؤكدًا, أو حقَّقَ نوعًا من المصالحة بين نفسه ومقدار الإنجازات التي أحرزها، وعندئذ تخف وطأة المبالغة في المواءمة التي كان عليها في طور الرشد المبكر؛ حيث يلعب السياق الاجتماعي الدور الحاسم، وفي هذا يتفق نموذج هان مع نموذج لابوني -فيف, الذي أشرنا إليه.
ويوجد نموذج آخر يؤكد أيضًا أهمية السياق الاجتماعي, يرى أن أهم خاصية معرفية في سلوك الراشدين هي "الإنجاز" achievement, وهو النموذج الذي اقترحه سكائي "1977 Schaie", وفيه يرى وجود أربعة مراحل للنمو المعرفي مدى الحياة هي: مرحلة الاكتساب, وتشير إلى طَوْرَي الطفولة والمراهقة, وفيهما ينشط الطفل والمراهق في بيئة "واقية حامية", ويكون هدفه الاكتساب المعرفي, ومع بلوغ الفرد مكانة الرشاد تصبح البيئة التي يعيش فيها أقل وقايةً وحمايةً له، وخاصة حمايته من نواتج الفشل في حل المشكلات, ولهذا فإن الهدف المعرفي في هذه الفترة "طور الرشد المبكر" ليس اكتساب المعرفة، كما كان الحال من قبل، وإنما إحراز الممكن والمحتمل، ولهذا يسمي سكائي هذا الطور بمرحلة الإنجاز, ثم يضيف إلى ذلك مرحلتين أخريين, هما مرحلة المسئولية في طور وسط العمر "بلوغ الأشد"، ثم إعادة التكامل في مرحلة الشيخوخة "العمر الثالث للإنسان", ويرى سكائي أن الإنسان في المراحل الثلاث الأخيرة "الإنجاز والمسئولية وإعادة التكامل" يكون مطالبًا بإحداث التكامل بين قدراته العقليةِ على مستويات عالية متزايدة التعقد من الأدوار الاجتماعية, ومرةً أخرى يلعب السياق الاجتماعي الدور الحاسم في النشاط العقلي للراشدين.
ويوجد نموذج ثالث -بين النماذج التي تعتمد في جوهرها على السياق الاجتماعي- قدمه كيرت فيشر "Fescher 1980", وفيه يقترح عشر مراحل من النموِّ المعرفي خلال دورة الحياة للإنسان، منها ست مراحل للطفولة، ومرحلة سابعة تميز ظهور علامات التفكير المجرد لأول مرة "مع المراهقة"، وتبقى
لمراحل الثلاث الأخيرة أوثق اتصالًا بتفكير الراشدين, وهي: بناء الخريطة المجردة abstract mapping, أو قدرة الراشد على إدراك العلاقة بين هويته المجردة والأشخاص الآخرين، وبناء النسق المجرد abstract sysems, أو القدرة على إدراك التآزر المتبادل بين هوية الراشد وغيره من الأشخاص الهامين, وكذلك التوقعات المجتمعية منه، ثم بناء نسق الأنساق المجردة system of abstract systems, ويعني: التآزر بين مختلف جوانب هوية الراشد طوال حيانه حتى يدرك "شخصيته" ككلٍّ له معنى, وهذه المراحل تتطلَّبُ إتقان بعض "المهارت المعرفية" على حدِّ تعبير فيشر, والتي يحتاج إليها الراشدون في السياق الاجتماعي الذي يتعاملون معه على النحو الذي أوضحته لابوتي-فيف.
ويمكننا أن نخلص من العرض السابق بالقول بأنه توجد على الأقل ثلاث خصائص هامة في تفكير الراشدين تستحق الاهتمام هي:
1- تفكير الراشدين يتسم بالنسبية, وهو بذلك يختلف عن تفكير المراهقين الذي يميل إلى أن يكون مطلقًا؛ فالراشدون أكثر تقبلًا لوجود أنساق معرفية متنافسة ومتعارضة, وينشأ ذلك جزئيًّا من اتساع العالم الاجتماعي للراشد، والذي يشمل وجهات نظر مختلفة, وأدوارا اجتماعية عديدة, بل ومتنافسة.
2- يدرك الراشدون أن التناقض هو خاصية من خصائص عالم الحقيقة والواقع, ولا يحتاج الأمر إلى حل الصراعات والتناقضات المعرفية لكي يحقق الراشد توافقه وتكيفه مع البيئة المحيطة به، وإنما قد يتحقق هذا التكيف يتقبل هذه التناقضات, بل إن تفكير الراشدين لا يقبل هذه التناقضات في عالم الواقع فحسب, وإنما قد يسعى إليها, ويعتمد عليها للوصول إلى حلول جديدة للمشكلات, من خلال النشاط الإبداعي "التفكير من خلال إيجاد المشكلات".
3- يسعى الراشدون في تفكيرهم إلى إحداث التكامل, أو التركيب بين جوانب المعرفة المتناقضة للوصل إلى تكوينٍ جديدٍ أكثر شمولًا واتساعًا, يسميه بعض الباحثين "Commons et al 1982" ما بعد الأنساق. ومعنى ذلك أنه بينما نجد المراهق يقتصر في تفكيره على الوصول إلى نسقٍ من التفكير مجردٍ وواحدٍ وعام ومنظم حول مبادئ العمليات الصورية, فإن الراشد -على العكس من ذلك- يبدأ في النظر إلى المعرفة على أنها تكامل وتآزر بين أنساق متعددة متنافسة, فوجود مفاهيم مختلفة متعددة حول الدين والعلم مثلًا, والتي تبدو ظاهريًّا لدى المراهق متعارضةً في وصف وتفسير الأمور الدينية والدنيوية, فإن ذلك لا يُعَدُّ بالنسبة للراشد محيرًا, كما كان يبدو من قبل, فبدلًا من النظر إلى إجابة واحدة صحيحة فإن الراشد يدرك أن المعرفة هي دائمًا تكامل وتركيب بين وجهات النظر التي تبدو متعارضة "في مثال العلم والدين قد يتجه نحو البحث في الإعجاز العلمي في القرآن الكريم مثلًا"، فكل خبرة ينظر إليها من زاوية مختلفة, أو من منظور مختلف, وتؤدي به إلى معلومات
واستبصارات جديدة.