حتى وقت قريب كان هناك افتراض أن الذكاء، مثله في ذلك مثل القوة العضلية والطول, يصل إلى أقصى نموِّه مع نهاية المراهقة وبداية الرشد "أي: أوائل العشرينات", وهذا الافتراض يقوم على الأسس البيولوجية للذكاء, أي: المخ والوظائف العصبية المرتبطة به, إلّا أن البحوث الحديثة أكدت أنه على الرغم من أن بعض جوانب الذكاء قد لا يتجاوز نموها طور الرشد المبكر، إلّا أن النموَّ العقلي يستمر حتى وسط العمر, والنمو المستمر يحدث خاصةً لتلك القدرات العقلية والمعرفية التي تتأثر بتراكم خبرات الحياة.
وقد استخدمت نسبة الذكاء كمقياسٍ لذكاء الأطفال وتلاميذ المدارس الابتدائية والإعداية "التعليم الأساسي" وكذلك طلاب المدارس الثانوية والجامعات، وظهرت اختبارات لقياس ذكاء الأطفال والمراهقين, وأخرى لقياس الراشدين, وحين استخدمت هذه الاختبارات في قياس ذكاء مجموعات مختلفة من مختلف الأعمار أمكننا دراسة النشاط العقلي في جميع الأعمار في وقت واحد أو في أوقات مختلفة, ونعرض فيما يلي نتائج البحوث في هذ الصدد.
حد النمو العقلي: من المسائل الهامة التي طُرِحَتْ حول ذكاء الراشدين ما يُسَمَّى حَدّ النمو العقلي، أي: في عمرٍ يصل الفرد إلى قمة أدائه في الوظائف النفسية التي تقيسها اختبارات الذكاء؟ وما هو العمر العقلي للراشد المتوسط؟
تمثل الإجابة على هذين السؤالين تاريخًا طريفًا, لقد كانت بداية تقدير العمر العقلي للراشدين على أساس البيانات التي توافرت أثناء الحرب العالمية الأولى هو 14عامًا، إلّا أن الحد ظل يتزايد بانتظام، فأصبح 15عامًا عند نشر الطبعة الثانية من مقياس ستانفرد-بينيه عام 1937، ثم ارتفع هذا الحد إلى بدايات العشرينات كما أكدت بحوث تقنين مقياس وكسلر لذكاء الراشدين WAlS.
وأكدت البحوث الطولية التي أُجْرِيَتْ ابتداءً من بحث ثورنديك المبكر عام 1926حتى بحوث Bayley التي أجريت في الخمسينات, أن التحسن في درجات اختبارات الذكاء تستمر إلى سن العشرين وما بعده بقليل. بل أن هذا الحد وصل إلى سن 25عامًا في الدراسة التي قامت بها جامعة بيركلي "وهو أقصى عمر شملته الدراسة", بل إن بعض المسوح التي أجريت في الخمسينات وأشهرها بحث Owens الأول, الذي أجراه عام 1953 تؤكد أنه، بالنسبة إلى بعض الجماعات على الأقل، تستمر درجات اختبارات الذكاء في الزيادة طوال حياة الإنسان.
وفي رأي "Anastasi 1958" أن الاختلاف بين نتائج البحوث المبكرة والبحوث المتأخرة يعكس تغيرات ثقافية وتحسينات في أدوات القياس؛ فاختبارات الذكاء المبكرة "ومنها مقياس ستانفرد-بينيه" أعدت في الأصل للأطفال، ثم عُدِّلَ محتواها فيما بعد بحيث يلائم أغراض قياس الراشدين, أما في الوقت الحاضر فقد ظهرت وتطورت أدوات قياس ملائمة للراشدين, تستثير اهتمامهم وتهيئ سقفًا ملائمًا وكافيًا يسمح بظهور التحسن المستمر, ومن ناحية أخرى فقد لوحظ أنه حتى عندما يعاد تطبيق الاختبارات المبكرة في الدراسات الحديثة تكون المتوسطات أعلى مما كانت عليه في الماضي "Owens 1953", وهذا الكسب الإضافي يعزى في جوهره إلى العوامل التربوية والثقافية.
بداية التدهور العقلي: ترتبط بمسألة توقف النموّ العقلي التي تناولناها مسألة أخرى لا تقل أهمية عنها في بحوث الراشدين, وهي بداية التدهور العقلي, بل إن المسألتين اندمجتا مع توافر الأدلة والبيانات؛ بحيث نستطيع القول أن الأمر يعتمد على طبيعة المفحوصين، وطبيعة الوظائف العقلية التي نقيسها، بحيث نحصل على منحنيات نمو مختلفة، قد يظهر بعضها ارتفاعًا مستمرًا طوال حياة الإنسان، ويظهر البعض الآخر ثبوتًا واستقرارًا لا يتدهور مع التقدم في السن "حيث يتوازى المنحنى مع خط الأساس"، ويظهر البعض الثالث هبوطًا تدريجيًّا أو مفاجئًا.
وتتوافر في الميدان عدة بحوث واسعة النطاق, ومن البحوث المبكرة خاصة
توجد ثلاثة مسوح رئيسية، أولها قام به عام 1933 "Jones and Conard, 1933" وفيه طبَّقَا اختبار ألفا الحربي على 1191 مفحوصًا, تمتد أعمارهم بين 10سنوات، 60عامًا, يمثلون تقريبًا الأصل الإحصائي الكامل لهذه الأعمار بولاية نيوانجلاند الأمريكية, وفي الدراسة الثانية طبَّقَ "Milles&Milles, 1932" صورة مختصرة وموقوتة من اختبارات أوتس للقدرة العقلية على 823 مفحوصًا تمتد أعمارهم بين 7سنوات، 94عامًا. أما البحث الثالث فقام به "Wechsler 1944" عند تقنين مقياسه الشهير في صورته الأولى التي عرفت في الماضي باسم مقياس وكسلر-بلفيو، وفيه جمع بيانات عن 670طفلًا، 1081 راشدًا تصل أعمارهم إلى 69عامًا, وكان اختيار عينة الراشدين على أساس أن يكون التوزيع المهني في كل فئةٍ عمرية متشابهًا إلى حَدٍّ كبيرٍ مع توزيعه في الإحصاء القومي العام في الولايات المتحدة, وقارن "Jones&Kaplan, 1945" بين منحنيات النمو التي توصلت إليها الدراسات الثلاث على أساس الدرجات المعيارية, وذلك لجعل نتائج هذه الدراسات قابلة للمقارنة.
وقد أجريت بحوث أكثر حداثة استخدمت الاختبارات السابقة أو صورًا مشتقة منها، ومن هذه الدراسات بحث "Matarazzo, 1972" الذي استخدم اختبار وكسلر، وبحث "Schaie, 1985" الذي استخدم بطارية القدرات العقلية الأولية لترستون, وقد أظهرت هذه البحوث اختلافات واضحة في نتائجها, وذلك اعتمادًا على منهج البحث المستخدم، أي: ما إذا كان المنهج طوليًّا أو مستعرضًا.
نتائج البحوث المستعرضة: أوضحت البحوث المستعرضة أن منتجات النموِّ تظهر قمتها في بداية العشرينات من العمر, وأن الأداء في سن العشرينات أعلى من الأداء في منتصف العمر أو مطلع الشيخوخة, وقد فسّر ذلك بأن الذكاء يبدأ عملية تدهور طويلة المدى ابتداءً من سن العشرين, وفي الدراسات المستعرضة الأكثر حداثة وُجِدَ أن قمة الأداء يبدو أنها تحدث بين سن 25، 35سنة, وبصفة عامة نقول: إن الأشخاص في منتصف العمر والشيخوخة "كما سنوضح فيما بعد" يؤدون أداءً أقل في هذه الاختبارات من الراشدين الصغار، وكان معدل النقص مختلفًا في كل دراسة عن الأخرى, ويرجع هذا الاختلاف في جوهره إلى الفروق بين العينات وتنوع المقاييس المستخدمة.
ومن أهم النتائج التي لوحظت في هذه البحوث أن الفروق الفردية "التباين" داخل كل مجموعة عمرية كانت كبيرة، وأنها تميل إلى الزيادة مع التقدم في
العمر, ولهذا لوحظ تداخل كبير بين درجات الأعمار حتى تلك التي يفصل بينها فاصل زمني واسع، فأكثر الأفراد تفوقًا في أكثر المجموعات تقدمًا في السن, كان أداؤه أفضل بكثير من أكثر الأفراد تخلفًا في أصغر المجموعات سنًّا.
هل العمر مؤشر على مستوى القدرة؟ تؤكد النتائج السابقة أن العمر مؤشر غير ملائم على مستوى القدرة، وقد تدعمت هذه النتيجة بالبحث الذي قام به "Milles&Milles, 1932" وفيه صنف عينة الراشدين إلى أربع مجموعات في ضوء مقدار التعليم, ابتداءً من مستوى المدرسة الابتدائية حتى مستوى الدراسات العليا. وتأكد أنه على الرغم من أن المجموعات الأربع أظهرت تدهورًا في متوسط الدرجات مع العمر, إلّا أن منحنيات النموّ العقلي لهذه المجموعات كانت مستقلة، فلم يحدث بينها تقابل أو تقاطع، وكانت مجموعة المستوى التعليمي المرتفع أكثر المجموات امتيازًا في الأداء العقلي, كما لوحظ أن الأفراد الذين بلغوا سن السبعين وكانوا من الذين واصلوا تعليمهم لما بعد مستوى البكالوريوس "دراسات عليا", كانت متواسطاتهم في اختبارات الذكاء أعلى من الأشخاص من سن العشرين الذين لم يتعد تعليمهم مستوى المدرسة الابتدائية.
ومن العوامل الأخرى التي تدفعنا إلى الحذر في تفسير النتائج التي تجعل العمر مؤشر القدرة الوحيد, ما نجده في البحوث التي استنتج منها التدهور العقلي بعد عمر معين؛ فالدراسات التي أشرنا إليها في الفقرة السابقة هي جميعًا من نوع البحوث المستعرضة، وبالتالي فربما تكون قد تأثرت بالتغيرات الثقافية التي أشرنا إليها في فصل سابق, فلا شكَّ أن مقدار التعليم يزداد جيلًا بعد جيل، وبالتالي فإن الجيل الذي بلغ الستين في هذه الدراسات تلقَّى مقدارًا من التعليم أقل من الجيل الذي لا يزال في سن العشرين والذي يقارن به, وعلى هذا فإن بعض التدهور الملاحظ في متوسطات الجيل الأكبر سنًّا قد يرجع إلى قلة التعليم وليس إلى التقدم في السن.
ويدعم هذا الفرض نتائج البحوث التي أجريت حول تقنين مقياس وكسلر بصورتيه الأصلية "وكسلر-بلفيو" والمعدلة في عامي 1944، 1955 على التوالي, فكلتا العينتين أظهرتا تدهورًا في درجات الذكاء خلال سنوات الرشد يتوازى مع نقصان مستوى التعليم ومقداره في الجماعات العمرية المتتابعة, إلّا أنه لوحظ على عينة التقنين الأكثر حداثة "Wechsler 1955" أن التحسن في الأداء العقلي يستمر لفترة أطول, وأن التدهور لا يظهر إلّا في عمرٍ أكثر تأخرًا إذا قورن بأداء عينة تقنين اختبار "وكسلر-بلفيو" الأقدم "Wechsler, 1944". وتتفق
هذه الاختلافات في النتائج مع الفروق التعليمية بين عينتي التقنين, وتعكس التغيرات التربوية في الفترة بين الدارستين "وطولها 15عامًا".
نتائج البحوث الطولية: من أهم مشكلات البحوث المستعرضة أنها -كما بينا من قبل- لا تساعدنا على افتراض أن الفروق بين المجموعات العمرية ترجع في جوهرها إلى التقدم في السن؛ فالصغار قد يحصلون على درجاتٍ أعلى من الكبار في اختبارات الذكاء, ليس بسبب أنهم أكثر ذكاءً, وإنما بسبب متغيرات أخرى؛ مثل تحسين مستوى التعليم، وارتفاع مستوى التغذية، وزيادة فرص استخدام الوسائل التكنولوجية الحديثة, وعلى ذلك فإن الدرجات العالية تمثل الفروق بين الأجيال كما أشرنا آنفًا في مقابل "أو بالإضافة إلى" أثار التقدم في السن, وقد تأكَّدَ أثر الأجيال من الدراسات التي استخدمت اختباريْ ستانفورد -بينيه ووكسلر. لقد أظهرت هذه الدراسات معايير في كلِّ فترة زمنية أعلى من تلك التي سبقتها, والتفسير الواضح لهذا النمط من النتائج أن العينات اللاحقة تؤدي أفضل من العينات السابقة, إلّا أن ما ليس واضحًا ما إذا كانت هذه النتيجة تعني أن صغار اليوم أكثر ذكاء من صغار الأمس، أم أن صغار اليوم أكثر خبرة في التعامل مع الاختبارات.
وللتقليل من أثر الأجيال وإعطاء صورة أوضح عن التغيرات في الذكاء عبر الزمن استخدم المنهج الطولي, ومن الدراسات التي أجريت في هذا الميدان دراسة Owens التي نشرت في تقريرين أحدهما عام 1953 وثانيهما عام 1966، وفيها درس 127 مفحوصًا من الرجال, طبَّقَ عليهم في الأصل اختبار ألفا الحربي حينما كانوا طلابًا مستجدين في جامعة ولاية إيواء عام 1919, ثم أعاد اختبارهم بنفس المقاييس بعد حوالي ثلاثين عامًا "أي عام 1950", ثم استطاع إعادة اختبار 96 منهم عام 1961, وقد أظهر التقرير الأول "Owens 1953" أن الراشدين لم يظهروا أيّ تدهور عند إعادة اختبارهم, بل إن المجموعة أظهرت تحسنًا دالًّا في متوسط الكسب بلغ مقداره نصف الانحراف المعياري للتوزيع الأصلي, كما أن الاختبارات الفرعية الثمانية التي يتألف منها مقياس ألفا لم تظهر أيّ انخفاض له دلالة، بل إن خمسة من هذه الاختبارات الفرعية أظهرت زيادة في متوسط الدرجات.
وفي التقرير الثاني "Owens, 1966" حسب الباحث معاملات الارتباط بين درجات المفحوصين الذين ظلوا موضوعًا للبحث عام 1961 "وعددهم 96 مفحوصًا كما أشرنا", ويوضح الجدول رقم "17-1" هذه المعاملات قد سجَّل أووينز أيضًا التغيرات التي طرأت على مستويات الأداء طوال هذه السنوات في كلِّ مكون أساسي من مكونات اختبار ألفا، فوجد أن هؤلاء المفحوصين كانوا أعلى في الدرجة الكلية من متوسط عينة التقنين حينئذ بمقدار 0.7 وحدة انحراف معياري، ثم تحسنوا بما يسواي 1.3 وحدة انحراف معياري, فوق المتوسط في الاختبار الثاني "1950"، ثم لم تظهر فروق ذات دلالة إحصائية في الاختبار الثالث "1961"، ولاحظ الباحث أن الاختبار الفرعي الوحيد الذي أظهر تدهورًا خطيرًا بين عام 1950، 1961 هو الاختبار العددي وفي رأي أووينز أن التدهور في هذا الاختبار لا يرجع إلى الطبيعة الموقوتة لهذا الاختبار الفرعي؛ حيث لوحظ أن السماح للمفحوصين بضعف الوقت المحدد له لم يؤثر تأثيرًا دالًّا في أدائهم.
وتؤكد نتائج هذه الدراسة أن درجات الذكاء عند الراشدين تظل مستقرة مع الزمن، إلّا أن هذا الاستقرار ليس مطلقًا، وإنما يوجد تغير نسبي, وقد ربط أووينز التغيرات في درجات الذكاء بعوامل كثيرة في حياة الإنسان؛ منه مثلًا النجاح الاقتصادي-الاجتماعي الذي يرتبط بالتحسن في الاختبارات اللفظية والاستدلالية.
وتوجد دراسة طولية أخرى استغرقت 38 عامًا نشرها عام 1971 العالمان الأمريكيان "Kangas Bradway 1971" وفيها اختير المفحوصون لأول مرة عام 1931، كجزء من عينة ولاية كاليفورنيا في تقنين طبعة 1937 من مقياس ستانفرد-بينيه، وكانوا جميعًا من أطفال ما قبل المدرسة في هذا العام "1931" متوسط أعمارهم 4.8 سنة, وقد أعيد اختبار كثير منهم أعوام 1941، 1956، 1969, وأثناء التطبيقين الأخيرين استخدام الباحثان أيضًا مقياس وكسلر لذكاء الراشدين WAlS. وتؤكد نتائج هذا البحث أن نسب الذكاء في سن ما قبل المدرسة تتنبأ بالنشاط العقلي اللاحق، إلّا أن قوتها التنبؤية تتناقص مع طول الفترات الزمنية بين مرات الاختبار, وعلى هذا فإن نسب ذكاء أطفال ما قبل المدرسة تتنبأ بدرجة أفضل بنسب ذكائهم في مرحلة المراهقة إذا قورنت بطور الرشد.
وقد حسب كانجاس وبرادوي في هذا البحث أيضًا التغيرات في متوسطات نسب الذكاء مع مرور الزمن، فوَجَدَا أن هناك زيادةً دالة في المتوسطات خلال هذه السنوات الثماني والثلاثين؛ فالمفحوصون الذين كان متوسط نسب ذكائهم في مقياس ستانفرد بينيه 111 عام 1930, أصبح متوسطهم 130 عام 1969, أما في مقياس وكسلر فقد كان متوسط نسب الذكاء الكلية 109 في عام 1956, وبلغ 118 في عام 1969. وهكذا لم يثبت هذا البحث -في اتفاق مع بحوث كثيرة أخرى أشرنا إلى أمثلة منها فيما سبق- وجود أي دلالة على التدهور في النشاط العقلي في هذه المقياس مع مرور الوقت, ومن الصعب بالطبع تحديد أسباب الزيادة في نسب الذكاء، فربما كان للممارسة السابقة للاختبارات دور في هذه الزيادة.
ومن البحوث الطولية الهامة أيضًا بحث "Tuddenham et al 1968" الذي أعيد فيه اختبار 164 من الذين تركوا القوات المسلحة الأمريكية بعد عشرين عامًا من الخدمة, وبعد أن مَرَّ على اختبارهم الأول 13عامًا، باستخدام اختبار
السلوكي والسرعة الحركية, ويوضح الجدول رقم "17-2" تصميم هذا البحث مع ملاحظة أن الأعمدة تدل على عينات مستعرضة, والسطور تدل على عينات طولية.
وقارن الباحثون بين الجماعات المختلفة في الدرجات الكلية "في صورة درجات معيارية" في اختبار القدرات العقلية الأولية, فلم يجدوا تدهورًا دالًّا في البيانات الطولية للجماعات من الأولى إلى الرابعة، وابتداءً من الجماعة التي يمثلها السطر الخامس "جماعة العمر من 53-67" ظهر تدهور منتظم مع التقدم في السن، وتتفق نتائج تحليل العينات المستقلة "الأعمدة" مع نتائج العينات الطولية "السطور", على الرغم من أن متوسطات العينات الأولى أقل قليلًا من متوسطات العينات الثانية، وهي فروق اصطناعية ترجع في جوهرها إلى أن عددًا من أفراد العينات الطولية لم يستمروا في المشاركة في البحث التتبعي, وربما يكون ذلك الانخفاض بسبب أن أولئك الذين أعيد اختبارهم هم الأكثرة قدرة, ولهذا نستطيع القول أن نتائج كل من العينات المستعرضة والعينات الطولية كما يظهرها هذا البحث متشابهة, وخاصةً فيما يتصل بتدهور النشاط العقلي، وأن هذا التدهور لا يبدأ إلّا بعد سن الخمسين.
وقد أفاد التصميم التتابعي الباحثين في دراسة أثر الوقت الذي يتم فيه الاختبار في أداء المفحوصين، ومن ذلك مثلًا: هل أولئك الذين اختبروا عام 1956 وهم من عمرٍ معين يختلفون عن أولئك الذين اختبروا في عامي 1963 أو 1970 وهم في نفس السن؟ للإجابة على هذا السؤال وجد الباحثون أنه بالنسبة للعينات الطولية لم يلاحظ دليلٌ على تغير مقترن بعام الاختبار بالنسبة لبعض الأعمار "46عامًا"، بينما لوحظ بعض هذا التغير في عمري 53،60 عامًا، فقد وجد أن أولئك الذين اختبروا عام 1970 من هاتين الفئتين العمريتين أدوا أفضل من أقرانهم الذين اختبروا في الأعوام السابقة, كما أدت نتائج تحليل العينات المستعرضة إلى نفس النتائج, وقد يرجع هذا الاختلاف إلى عوامل ثقافية تتمثل في ارتفاع مستوى التعليم وزيادة الاهتمام بالاختبارات والتقدم الصحي وغير ذلك.
وفي مثل هذا النوع من البحوث إذا جُمِعَتْ درجات الأفراد من عمرٍ معينٍ بصرف النظر عن زمن تطبيق الاختبار, يمكننا في هذه الحالة دراسة آثار العمر في ثلاث فرص مختلفة من القياس, وقد لاحظ الباحثون "Schaie وزملاؤه في دراساتهم التي نحن بصددها" أن أكبر فرق بين البيانات المستعرضة والطولية هو في الأعمار 53، 67, وقد أظهرت البيانات الطولية تدهورًا مقداره ثلاث وحدات معيارية، بينما أظهرت البيانات المستعرضة هذا التدهور بمقدار 9 وحدات, وفي رأي "Botwinick, 1977" أن هذه الاختلاف بين نوعي البيانات قد يرجع إلى المصادفة, وفيما عدا هذين العمرين فإن البيانات الطولية والمستعرضة اتفقتا تمامًا.
ويلخص "Shaie, 1994" نتائج بحوث التحليل التتابعي التي تركز على الفروق بين الأجيال في القدرات العقلية فيما يلي:
1- يوجد نموّ خطي موجب متصل "في صورة خط مستقيم" بالنسبة للقدرة الاستدلالية، أي: أن هذه القدرة تزيد مع التقدم في العمر.
2- يوجد نمو متقطع "أي: غير متصل" ولكنه موجب أيضًا بالنسب للقدرة اللفظية والقدرة المكانية.
3- يتخذ نمو القدرة العددية والقدرة على الطاقة اللفظية صورة الخط المنحنى؛ حيث يصل إلى قمته لدى جيل العشرينات من القرن الحالي, ثم يهبط تدريجيًّا لدى الأجيال اللاحقة.
وخلاصة القول بالنسبة لبحوث التحليل التتابعي التي تفصل بين آثار العمر وآثار الجيل, أن التناقص في معظم مجالات النشاط العقلي لا تحدث قبل الوصول إلى سن الستين, وحين يظهر بعض التدهور قبل سن الستين فإنه لا يكون كبيرًا، وليست له أهمية عملية "Shaie&Hertzog 1983". وقد يكون أفضل استنتاج يمكن استخلاصه من نتائج البحوث حول نموّ الذكاء لدى الراشدين في منتصف العمر, أن النقص في الأداء -إن وجد- هو الاستثناء وليس القاعدة العامة
وقد استخدمت نسبة الذكاء كمقياسٍ لذكاء الأطفال وتلاميذ المدارس الابتدائية والإعداية "التعليم الأساسي" وكذلك طلاب المدارس الثانوية والجامعات، وظهرت اختبارات لقياس ذكاء الأطفال والمراهقين, وأخرى لقياس الراشدين, وحين استخدمت هذه الاختبارات في قياس ذكاء مجموعات مختلفة من مختلف الأعمار أمكننا دراسة النشاط العقلي في جميع الأعمار في وقت واحد أو في أوقات مختلفة, ونعرض فيما يلي نتائج البحوث في هذ الصدد.
حد النمو العقلي: من المسائل الهامة التي طُرِحَتْ حول ذكاء الراشدين ما يُسَمَّى حَدّ النمو العقلي، أي: في عمرٍ يصل الفرد إلى قمة أدائه في الوظائف النفسية التي تقيسها اختبارات الذكاء؟ وما هو العمر العقلي للراشد المتوسط؟
تمثل الإجابة على هذين السؤالين تاريخًا طريفًا, لقد كانت بداية تقدير العمر العقلي للراشدين على أساس البيانات التي توافرت أثناء الحرب العالمية الأولى هو 14عامًا، إلّا أن الحد ظل يتزايد بانتظام، فأصبح 15عامًا عند نشر الطبعة الثانية من مقياس ستانفرد-بينيه عام 1937، ثم ارتفع هذا الحد إلى بدايات العشرينات كما أكدت بحوث تقنين مقياس وكسلر لذكاء الراشدين WAlS.
وأكدت البحوث الطولية التي أُجْرِيَتْ ابتداءً من بحث ثورنديك المبكر عام 1926حتى بحوث Bayley التي أجريت في الخمسينات, أن التحسن في درجات اختبارات الذكاء تستمر إلى سن العشرين وما بعده بقليل. بل أن هذا الحد وصل إلى سن 25عامًا في الدراسة التي قامت بها جامعة بيركلي "وهو أقصى عمر شملته الدراسة", بل إن بعض المسوح التي أجريت في الخمسينات وأشهرها بحث Owens الأول, الذي أجراه عام 1953 تؤكد أنه، بالنسبة إلى بعض الجماعات على الأقل، تستمر درجات اختبارات الذكاء في الزيادة طوال حياة الإنسان.
وفي رأي "Anastasi 1958" أن الاختلاف بين نتائج البحوث المبكرة والبحوث المتأخرة يعكس تغيرات ثقافية وتحسينات في أدوات القياس؛ فاختبارات الذكاء المبكرة "ومنها مقياس ستانفرد-بينيه" أعدت في الأصل للأطفال، ثم عُدِّلَ محتواها فيما بعد بحيث يلائم أغراض قياس الراشدين, أما في الوقت الحاضر فقد ظهرت وتطورت أدوات قياس ملائمة للراشدين, تستثير اهتمامهم وتهيئ سقفًا ملائمًا وكافيًا يسمح بظهور التحسن المستمر, ومن ناحية أخرى فقد لوحظ أنه حتى عندما يعاد تطبيق الاختبارات المبكرة في الدراسات الحديثة تكون المتوسطات أعلى مما كانت عليه في الماضي "Owens 1953", وهذا الكسب الإضافي يعزى في جوهره إلى العوامل التربوية والثقافية.
بداية التدهور العقلي: ترتبط بمسألة توقف النموّ العقلي التي تناولناها مسألة أخرى لا تقل أهمية عنها في بحوث الراشدين, وهي بداية التدهور العقلي, بل إن المسألتين اندمجتا مع توافر الأدلة والبيانات؛ بحيث نستطيع القول أن الأمر يعتمد على طبيعة المفحوصين، وطبيعة الوظائف العقلية التي نقيسها، بحيث نحصل على منحنيات نمو مختلفة، قد يظهر بعضها ارتفاعًا مستمرًا طوال حياة الإنسان، ويظهر البعض الآخر ثبوتًا واستقرارًا لا يتدهور مع التقدم في السن "حيث يتوازى المنحنى مع خط الأساس"، ويظهر البعض الثالث هبوطًا تدريجيًّا أو مفاجئًا.
وتتوافر في الميدان عدة بحوث واسعة النطاق, ومن البحوث المبكرة خاصة
توجد ثلاثة مسوح رئيسية، أولها قام به عام 1933 "Jones and Conard, 1933" وفيه طبَّقَا اختبار ألفا الحربي على 1191 مفحوصًا, تمتد أعمارهم بين 10سنوات، 60عامًا, يمثلون تقريبًا الأصل الإحصائي الكامل لهذه الأعمار بولاية نيوانجلاند الأمريكية, وفي الدراسة الثانية طبَّقَ "Milles&Milles, 1932" صورة مختصرة وموقوتة من اختبارات أوتس للقدرة العقلية على 823 مفحوصًا تمتد أعمارهم بين 7سنوات، 94عامًا. أما البحث الثالث فقام به "Wechsler 1944" عند تقنين مقياسه الشهير في صورته الأولى التي عرفت في الماضي باسم مقياس وكسلر-بلفيو، وفيه جمع بيانات عن 670طفلًا، 1081 راشدًا تصل أعمارهم إلى 69عامًا, وكان اختيار عينة الراشدين على أساس أن يكون التوزيع المهني في كل فئةٍ عمرية متشابهًا إلى حَدٍّ كبيرٍ مع توزيعه في الإحصاء القومي العام في الولايات المتحدة, وقارن "Jones&Kaplan, 1945" بين منحنيات النمو التي توصلت إليها الدراسات الثلاث على أساس الدرجات المعيارية, وذلك لجعل نتائج هذه الدراسات قابلة للمقارنة.
وقد أجريت بحوث أكثر حداثة استخدمت الاختبارات السابقة أو صورًا مشتقة منها، ومن هذه الدراسات بحث "Matarazzo, 1972" الذي استخدم اختبار وكسلر، وبحث "Schaie, 1985" الذي استخدم بطارية القدرات العقلية الأولية لترستون, وقد أظهرت هذه البحوث اختلافات واضحة في نتائجها, وذلك اعتمادًا على منهج البحث المستخدم، أي: ما إذا كان المنهج طوليًّا أو مستعرضًا.
نتائج البحوث المستعرضة: أوضحت البحوث المستعرضة أن منتجات النموِّ تظهر قمتها في بداية العشرينات من العمر, وأن الأداء في سن العشرينات أعلى من الأداء في منتصف العمر أو مطلع الشيخوخة, وقد فسّر ذلك بأن الذكاء يبدأ عملية تدهور طويلة المدى ابتداءً من سن العشرين, وفي الدراسات المستعرضة الأكثر حداثة وُجِدَ أن قمة الأداء يبدو أنها تحدث بين سن 25، 35سنة, وبصفة عامة نقول: إن الأشخاص في منتصف العمر والشيخوخة "كما سنوضح فيما بعد" يؤدون أداءً أقل في هذه الاختبارات من الراشدين الصغار، وكان معدل النقص مختلفًا في كل دراسة عن الأخرى, ويرجع هذا الاختلاف في جوهره إلى الفروق بين العينات وتنوع المقاييس المستخدمة.
ومن أهم النتائج التي لوحظت في هذه البحوث أن الفروق الفردية "التباين" داخل كل مجموعة عمرية كانت كبيرة، وأنها تميل إلى الزيادة مع التقدم في
العمر, ولهذا لوحظ تداخل كبير بين درجات الأعمار حتى تلك التي يفصل بينها فاصل زمني واسع، فأكثر الأفراد تفوقًا في أكثر المجموعات تقدمًا في السن, كان أداؤه أفضل بكثير من أكثر الأفراد تخلفًا في أصغر المجموعات سنًّا.
هل العمر مؤشر على مستوى القدرة؟ تؤكد النتائج السابقة أن العمر مؤشر غير ملائم على مستوى القدرة، وقد تدعمت هذه النتيجة بالبحث الذي قام به "Milles&Milles, 1932" وفيه صنف عينة الراشدين إلى أربع مجموعات في ضوء مقدار التعليم, ابتداءً من مستوى المدرسة الابتدائية حتى مستوى الدراسات العليا. وتأكد أنه على الرغم من أن المجموعات الأربع أظهرت تدهورًا في متوسط الدرجات مع العمر, إلّا أن منحنيات النموّ العقلي لهذه المجموعات كانت مستقلة، فلم يحدث بينها تقابل أو تقاطع، وكانت مجموعة المستوى التعليمي المرتفع أكثر المجموات امتيازًا في الأداء العقلي, كما لوحظ أن الأفراد الذين بلغوا سن السبعين وكانوا من الذين واصلوا تعليمهم لما بعد مستوى البكالوريوس "دراسات عليا", كانت متواسطاتهم في اختبارات الذكاء أعلى من الأشخاص من سن العشرين الذين لم يتعد تعليمهم مستوى المدرسة الابتدائية.
ومن العوامل الأخرى التي تدفعنا إلى الحذر في تفسير النتائج التي تجعل العمر مؤشر القدرة الوحيد, ما نجده في البحوث التي استنتج منها التدهور العقلي بعد عمر معين؛ فالدراسات التي أشرنا إليها في الفقرة السابقة هي جميعًا من نوع البحوث المستعرضة، وبالتالي فربما تكون قد تأثرت بالتغيرات الثقافية التي أشرنا إليها في فصل سابق, فلا شكَّ أن مقدار التعليم يزداد جيلًا بعد جيل، وبالتالي فإن الجيل الذي بلغ الستين في هذه الدراسات تلقَّى مقدارًا من التعليم أقل من الجيل الذي لا يزال في سن العشرين والذي يقارن به, وعلى هذا فإن بعض التدهور الملاحظ في متوسطات الجيل الأكبر سنًّا قد يرجع إلى قلة التعليم وليس إلى التقدم في السن.
ويدعم هذا الفرض نتائج البحوث التي أجريت حول تقنين مقياس وكسلر بصورتيه الأصلية "وكسلر-بلفيو" والمعدلة في عامي 1944، 1955 على التوالي, فكلتا العينتين أظهرتا تدهورًا في درجات الذكاء خلال سنوات الرشد يتوازى مع نقصان مستوى التعليم ومقداره في الجماعات العمرية المتتابعة, إلّا أنه لوحظ على عينة التقنين الأكثر حداثة "Wechsler 1955" أن التحسن في الأداء العقلي يستمر لفترة أطول, وأن التدهور لا يظهر إلّا في عمرٍ أكثر تأخرًا إذا قورن بأداء عينة تقنين اختبار "وكسلر-بلفيو" الأقدم "Wechsler, 1944". وتتفق
هذه الاختلافات في النتائج مع الفروق التعليمية بين عينتي التقنين, وتعكس التغيرات التربوية في الفترة بين الدارستين "وطولها 15عامًا".
نتائج البحوث الطولية: من أهم مشكلات البحوث المستعرضة أنها -كما بينا من قبل- لا تساعدنا على افتراض أن الفروق بين المجموعات العمرية ترجع في جوهرها إلى التقدم في السن؛ فالصغار قد يحصلون على درجاتٍ أعلى من الكبار في اختبارات الذكاء, ليس بسبب أنهم أكثر ذكاءً, وإنما بسبب متغيرات أخرى؛ مثل تحسين مستوى التعليم، وارتفاع مستوى التغذية، وزيادة فرص استخدام الوسائل التكنولوجية الحديثة, وعلى ذلك فإن الدرجات العالية تمثل الفروق بين الأجيال كما أشرنا آنفًا في مقابل "أو بالإضافة إلى" أثار التقدم في السن, وقد تأكَّدَ أثر الأجيال من الدراسات التي استخدمت اختباريْ ستانفورد -بينيه ووكسلر. لقد أظهرت هذه الدراسات معايير في كلِّ فترة زمنية أعلى من تلك التي سبقتها, والتفسير الواضح لهذا النمط من النتائج أن العينات اللاحقة تؤدي أفضل من العينات السابقة, إلّا أن ما ليس واضحًا ما إذا كانت هذه النتيجة تعني أن صغار اليوم أكثر ذكاء من صغار الأمس، أم أن صغار اليوم أكثر خبرة في التعامل مع الاختبارات.
وللتقليل من أثر الأجيال وإعطاء صورة أوضح عن التغيرات في الذكاء عبر الزمن استخدم المنهج الطولي, ومن الدراسات التي أجريت في هذا الميدان دراسة Owens التي نشرت في تقريرين أحدهما عام 1953 وثانيهما عام 1966، وفيها درس 127 مفحوصًا من الرجال, طبَّقَ عليهم في الأصل اختبار ألفا الحربي حينما كانوا طلابًا مستجدين في جامعة ولاية إيواء عام 1919, ثم أعاد اختبارهم بنفس المقاييس بعد حوالي ثلاثين عامًا "أي عام 1950", ثم استطاع إعادة اختبار 96 منهم عام 1961, وقد أظهر التقرير الأول "Owens 1953" أن الراشدين لم يظهروا أيّ تدهور عند إعادة اختبارهم, بل إن المجموعة أظهرت تحسنًا دالًّا في متوسط الكسب بلغ مقداره نصف الانحراف المعياري للتوزيع الأصلي, كما أن الاختبارات الفرعية الثمانية التي يتألف منها مقياس ألفا لم تظهر أيّ انخفاض له دلالة، بل إن خمسة من هذه الاختبارات الفرعية أظهرت زيادة في متوسط الدرجات.
وفي التقرير الثاني "Owens, 1966" حسب الباحث معاملات الارتباط بين درجات المفحوصين الذين ظلوا موضوعًا للبحث عام 1961 "وعددهم 96 مفحوصًا كما أشرنا", ويوضح الجدول رقم "17-1" هذه المعاملات قد سجَّل أووينز أيضًا التغيرات التي طرأت على مستويات الأداء طوال هذه السنوات في كلِّ مكون أساسي من مكونات اختبار ألفا، فوجد أن هؤلاء المفحوصين كانوا أعلى في الدرجة الكلية من متوسط عينة التقنين حينئذ بمقدار 0.7 وحدة انحراف معياري، ثم تحسنوا بما يسواي 1.3 وحدة انحراف معياري, فوق المتوسط في الاختبار الثاني "1950"، ثم لم تظهر فروق ذات دلالة إحصائية في الاختبار الثالث "1961"، ولاحظ الباحث أن الاختبار الفرعي الوحيد الذي أظهر تدهورًا خطيرًا بين عام 1950، 1961 هو الاختبار العددي وفي رأي أووينز أن التدهور في هذا الاختبار لا يرجع إلى الطبيعة الموقوتة لهذا الاختبار الفرعي؛ حيث لوحظ أن السماح للمفحوصين بضعف الوقت المحدد له لم يؤثر تأثيرًا دالًّا في أدائهم.
وتؤكد نتائج هذه الدراسة أن درجات الذكاء عند الراشدين تظل مستقرة مع الزمن، إلّا أن هذا الاستقرار ليس مطلقًا، وإنما يوجد تغير نسبي, وقد ربط أووينز التغيرات في درجات الذكاء بعوامل كثيرة في حياة الإنسان؛ منه مثلًا النجاح الاقتصادي-الاجتماعي الذي يرتبط بالتحسن في الاختبارات اللفظية والاستدلالية.
وتوجد دراسة طولية أخرى استغرقت 38 عامًا نشرها عام 1971 العالمان الأمريكيان "Kangas Bradway 1971" وفيها اختير المفحوصون لأول مرة عام 1931، كجزء من عينة ولاية كاليفورنيا في تقنين طبعة 1937 من مقياس ستانفرد-بينيه، وكانوا جميعًا من أطفال ما قبل المدرسة في هذا العام "1931" متوسط أعمارهم 4.8 سنة, وقد أعيد اختبار كثير منهم أعوام 1941، 1956، 1969, وأثناء التطبيقين الأخيرين استخدام الباحثان أيضًا مقياس وكسلر لذكاء الراشدين WAlS. وتؤكد نتائج هذا البحث أن نسب الذكاء في سن ما قبل المدرسة تتنبأ بالنشاط العقلي اللاحق، إلّا أن قوتها التنبؤية تتناقص مع طول الفترات الزمنية بين مرات الاختبار, وعلى هذا فإن نسب ذكاء أطفال ما قبل المدرسة تتنبأ بدرجة أفضل بنسب ذكائهم في مرحلة المراهقة إذا قورنت بطور الرشد.
وقد حسب كانجاس وبرادوي في هذا البحث أيضًا التغيرات في متوسطات نسب الذكاء مع مرور الزمن، فوَجَدَا أن هناك زيادةً دالة في المتوسطات خلال هذه السنوات الثماني والثلاثين؛ فالمفحوصون الذين كان متوسط نسب ذكائهم في مقياس ستانفرد بينيه 111 عام 1930, أصبح متوسطهم 130 عام 1969, أما في مقياس وكسلر فقد كان متوسط نسب الذكاء الكلية 109 في عام 1956, وبلغ 118 في عام 1969. وهكذا لم يثبت هذا البحث -في اتفاق مع بحوث كثيرة أخرى أشرنا إلى أمثلة منها فيما سبق- وجود أي دلالة على التدهور في النشاط العقلي في هذه المقياس مع مرور الوقت, ومن الصعب بالطبع تحديد أسباب الزيادة في نسب الذكاء، فربما كان للممارسة السابقة للاختبارات دور في هذه الزيادة.
ومن البحوث الطولية الهامة أيضًا بحث "Tuddenham et al 1968" الذي أعيد فيه اختبار 164 من الذين تركوا القوات المسلحة الأمريكية بعد عشرين عامًا من الخدمة, وبعد أن مَرَّ على اختبارهم الأول 13عامًا، باستخدام اختبار
السلوكي والسرعة الحركية, ويوضح الجدول رقم "17-2" تصميم هذا البحث مع ملاحظة أن الأعمدة تدل على عينات مستعرضة, والسطور تدل على عينات طولية.
وقارن الباحثون بين الجماعات المختلفة في الدرجات الكلية "في صورة درجات معيارية" في اختبار القدرات العقلية الأولية, فلم يجدوا تدهورًا دالًّا في البيانات الطولية للجماعات من الأولى إلى الرابعة، وابتداءً من الجماعة التي يمثلها السطر الخامس "جماعة العمر من 53-67" ظهر تدهور منتظم مع التقدم في السن، وتتفق نتائج تحليل العينات المستقلة "الأعمدة" مع نتائج العينات الطولية "السطور", على الرغم من أن متوسطات العينات الأولى أقل قليلًا من متوسطات العينات الثانية، وهي فروق اصطناعية ترجع في جوهرها إلى أن عددًا من أفراد العينات الطولية لم يستمروا في المشاركة في البحث التتبعي, وربما يكون ذلك الانخفاض بسبب أن أولئك الذين أعيد اختبارهم هم الأكثرة قدرة, ولهذا نستطيع القول أن نتائج كل من العينات المستعرضة والعينات الطولية كما يظهرها هذا البحث متشابهة, وخاصةً فيما يتصل بتدهور النشاط العقلي، وأن هذا التدهور لا يبدأ إلّا بعد سن الخمسين.
وقد أفاد التصميم التتابعي الباحثين في دراسة أثر الوقت الذي يتم فيه الاختبار في أداء المفحوصين، ومن ذلك مثلًا: هل أولئك الذين اختبروا عام 1956 وهم من عمرٍ معين يختلفون عن أولئك الذين اختبروا في عامي 1963 أو 1970 وهم في نفس السن؟ للإجابة على هذا السؤال وجد الباحثون أنه بالنسبة للعينات الطولية لم يلاحظ دليلٌ على تغير مقترن بعام الاختبار بالنسبة لبعض الأعمار "46عامًا"، بينما لوحظ بعض هذا التغير في عمري 53،60 عامًا، فقد وجد أن أولئك الذين اختبروا عام 1970 من هاتين الفئتين العمريتين أدوا أفضل من أقرانهم الذين اختبروا في الأعوام السابقة, كما أدت نتائج تحليل العينات المستعرضة إلى نفس النتائج, وقد يرجع هذا الاختلاف إلى عوامل ثقافية تتمثل في ارتفاع مستوى التعليم وزيادة الاهتمام بالاختبارات والتقدم الصحي وغير ذلك.
وفي مثل هذا النوع من البحوث إذا جُمِعَتْ درجات الأفراد من عمرٍ معينٍ بصرف النظر عن زمن تطبيق الاختبار, يمكننا في هذه الحالة دراسة آثار العمر في ثلاث فرص مختلفة من القياس, وقد لاحظ الباحثون "Schaie وزملاؤه في دراساتهم التي نحن بصددها" أن أكبر فرق بين البيانات المستعرضة والطولية هو في الأعمار 53، 67, وقد أظهرت البيانات الطولية تدهورًا مقداره ثلاث وحدات معيارية، بينما أظهرت البيانات المستعرضة هذا التدهور بمقدار 9 وحدات, وفي رأي "Botwinick, 1977" أن هذه الاختلاف بين نوعي البيانات قد يرجع إلى المصادفة, وفيما عدا هذين العمرين فإن البيانات الطولية والمستعرضة اتفقتا تمامًا.
ويلخص "Shaie, 1994" نتائج بحوث التحليل التتابعي التي تركز على الفروق بين الأجيال في القدرات العقلية فيما يلي:
1- يوجد نموّ خطي موجب متصل "في صورة خط مستقيم" بالنسبة للقدرة الاستدلالية، أي: أن هذه القدرة تزيد مع التقدم في العمر.
2- يوجد نمو متقطع "أي: غير متصل" ولكنه موجب أيضًا بالنسب للقدرة اللفظية والقدرة المكانية.
3- يتخذ نمو القدرة العددية والقدرة على الطاقة اللفظية صورة الخط المنحنى؛ حيث يصل إلى قمته لدى جيل العشرينات من القرن الحالي, ثم يهبط تدريجيًّا لدى الأجيال اللاحقة.
وخلاصة القول بالنسبة لبحوث التحليل التتابعي التي تفصل بين آثار العمر وآثار الجيل, أن التناقص في معظم مجالات النشاط العقلي لا تحدث قبل الوصول إلى سن الستين, وحين يظهر بعض التدهور قبل سن الستين فإنه لا يكون كبيرًا، وليست له أهمية عملية "Shaie&Hertzog 1983". وقد يكون أفضل استنتاج يمكن استخلاصه من نتائج البحوث حول نموّ الذكاء لدى الراشدين في منتصف العمر, أن النقص في الأداء -إن وجد- هو الاستثناء وليس القاعدة العامة