لعل أكثر العلامات وضوحًا على التغيرات الجسمية التي تطرأ في طور بلوغ الأشد تلك التي يدركها الآخرون، والتي تظهر على السطح الخارجي للجسم؛ فالجلد يفقد بعض مرونته مما يؤدي إلى ظهور التجاعيد فيه, بالإضافة إلى فقدان هذه المرونة في أجزاءٍ أخرى من الجسم, كما يبدأ الشعر في الخفة مع مطلع هذا الطور, ويتحول إلى اللون الرماديّ، وهو مقدمات الشيب, وتزداد نسبة وزن الجسم التي ترجع إلى الدهنيات بشكلٍ واضحٍ, سواءً لدى النساء أو الرجال، على الرغم من أن مشكلة السمنة تكون أكثر حدة لدى النساء.
وتقلّ القوة العضلية بشكلٍ مستمر، ويكون معدل الضعف بطيئًا في البداية, ثم يتزايد تدريجيًّا طوال هذا الطور, وبالطبع فإن هذا المعدل تزداد سرعته بعد ذلك في المرحلة التالية من حياة الإنسان "أي: الشيخوخة والهرم", وقد حسب بعض الباحثين "Wolman 1982" معدل التناقص في القوة العضلية بين سن 30، 80 سنة فبلغ 42%, وهذا لا يعني أن الإنسان في الطور يكون عاجزًا عن أداء الأنشطة التي تتطلب جهدًا عضليًّا؛ فالأشخاص الذين تعودوا على العمل الجسميّ سوف يستمرون في إنتاجيتهم حتى في أواخر الخمسينات وأوائل الستينات، إلّا أن ذلك قد يتطلب وقتًا أطول.
ومع التقدم في العمر وخاصةً مع بلوغ نهاية هذا الطور يلاحظ انخفاض ملحوظ في كفاءة التنفس, وخاصةً عند الجري أو القفز أو التسلق, ويظهر ذلك خاصة لدى الأشخاص ذوي الوزن الزائد, أو الذين يعانون من بعض أمراض الجهاز التنفسي أو الجهاز الدوري, وخاصةً أمراض القلب وتصلُّب الشرايين وكلاهما
شائع في أواخر طور وسط العمر.
ويلاحظ أيضًا التغير في وظائف الحس؛ فالقوة البصرية تصل إلى قمتها في الرشد المبكر, وتظل مستقرةً نسبيًّا حتى العقد الرابع من العمر، وبعد ذلك يحدث هبوط فيها يتسم بأنه بطيء ولكنه مستقر, وفي جميع الحالات تقريبًا يمكن التغلب على مشكلات الدقة البصرية وتصحيح الضعف باستخدام النظارات والعدسات اللاصقة. ويلاحظ أن حجم إنسان العين يتناقص ابتداءً من سن الخمسين, مما يؤدي إلى قلة مقدار الضوء الذي يدخل العين, وهذا يعني أن الشخص في هذا السن يكون في حاجة إلى إضاءة أنصع ليرى بوضوح, وفي هذا السن أيضًا تنشأ وتلاحظ مشكلات تتصل بإدراك العمق والتكيف للظلام.
والمشكلة السمعية الأكثر شيوعًا في هذا الطور, والتي ترتبط بالتقدم في السن هي مشكلة الفقدان المستمر للسمع Presbycusis, وخاصةً إدراك النغمات ذات التردد المرتفع، والذي يحدث لدى الرجال أكثر من حدوثه لدى النساء, وفي الظروف العادية يكون للنقص السمعيّ أثر ضئيل في نشاط الحياة اليومية للإنسان في هذا الطور, وفي المرحلة التالية, وخاصةً إذا تَمَّ تصحيحه بسماعات الأذن, ويحدث أيضًا بعض النقص في حواس الذوق والسمع والحساسية اللمسية, وخاصة في أواخر الأربعينات، ولكنها لا تلاحظ بشكلٍ واضحٍ إلّا في المراحل المتأخرة من الحياة.
وتطرأ على الجهاز العصبي بعض التغيرات التي لا يكون لها في الظروف العادية إلّا أثر محدود في السلوك والإدراك والذكاء خلال مرحلة وسط العمر, فوزن المخ يتناقص بعد سن العشرين, ويكون هذا النقص تدريجيًّا في البداية, ثم تتزايد سرعته في مراحل العمر التالية, إلّا أن الدراسات التي استخدمت الرسام الكهربائي "EEG" والتي تسجل النشاط الكهربائي للمخ أظهرت فروقًا ضئيلة بين الراشدين المبكرين والراشدين في منتصف العمر, كما أن زمن الانعكاس البسيط "الناتج عن خبط الركبة مثلًا" يظل بدون تغير تقريبًا طوال الفترة من سن العشرين وحنى سن الثمانين, إلّا أن الأوجاع التي تصدر عن الرشد الكبير للمثيرات المركبة والمعقدة وغير المألوفة تكون أبطأ, ويظهر أيضًا بعض البطء في نشاط التوصيل العصبي وخاصة في الأعصاب الطرفية مما ينتج عنه بطءٍ عامٍّ في نشاط الجسم وعملياته "Timiras 1972".
وعلى الرغم من أن مرحلة بلوغ الأشد "وسط العمر" تتسم بهبوطٍ تدريجيٍّ في النشاط الجسمي بالمقارنة بالقمة التي وصل إليها هذا النشاط في العشرينات من
العمر، إلّا أن الإنسان لا يشعر بالتحوّل العكسي المفاجئ من التحسن إلى التدهور, فمن المعروف أنه منذ المراحل الأولى لحياة الإنسان تحدث العمليتان معًا, ومن ذلك مثلًا أن الخلايا العصبية لا تتكاثر بعد السنة الأولى من حياة الإنسان, ومعنى ذلك أن عددها لابد أن يتناقص تدريجيًّا. إلّا أنه بسبب الوفرة الهائلة لهذه الخلايا طوال مراحل العمر السابقة فإننا لا نشعر بالفقدان, ويظل هذا الشعور سائدًا حتى نهاية الستينات على الأقل، بل وحتى السبعينات أحيانًا, كما أن أمراض القلب في منتصف العمر ليست إلّا نتاج شروط وظروف تراكمية, وليست نتاج شروط وظروف مفاجئة؛ فبالنسبة للشخص العادي يبدأ نشاط القلب "كما يقاس في حالة الراحة" في الهبوط، ليس في منتصف العمر، وإنما ابتداءً من مطلع العشرينات من العمر بمعدلٍ يبلغ حوالي 1% في السنة، إلّا أن الظاهرة لا تلاحظ بوضوح إلّا في سن الخمسين تقريبًا, وعلى ذلك فإن طور بلوغ الأشد "وسط العمر" ليس نقطة تحوّل حادّة في نموِّ الإنسان الجسمي, وإنما هو ببساطة النقطة التي عندها يبدأ الميزان في الميل تدريجيًّا وبشكلٍ حتميٍّ من التحسن إلى التدهور.
وإذا كانت التغيرات الجسمية التي تظهر في الرشد الأوسط تتوجه نحو التدهور "وهي كذلك لدى بعض الأشخاص في هذا الطور"، فإن مما يستحق الذكر أنها لا تمثل عجزًا وضعفًا في المجتمع الحديث؛ فالقوة الحسية والنشاط العضلي والصحة الجسمية لم تعد مطلوبة وحدها للبقاء في عصرنا, فقليل من المهن والأعمال تتطلب الآن الدقة الحسية أو الاستجابة الحركية السريعة التي كانت مطلوبة في عصور سابقة, بالإضافة إلى أن الخبرة والحكمة والقدرة على الحكم التي تتوافر لدى الشخص في منتصف العمر تعتبر عوامل تعويضية ملائمة تتجاوز أيّ نقص أو تدهور يحدث في الجسم الإنساني.
الصحة والمرض:
من الحقائق المؤكدة منذ وقت طويل، وتدعمت في السنوات الأخيرة، بأن معدل التدهور الجسمي المصاحب للتقدم في السن يتحكم فيه جزئيًّا على الأقل الوراثة, إلّا أن ذلك لا يعني أن التقدم في السن عملية بيولوجية بحتة؛ فكثير من العوامل البيئية تلعب دورها في هذا الصدد, لقد تأكد مثلًا أن وفاة أحد الزوجين، والطلاق، وتغيير العمل أو محل الإقامة, قد تكون خبرات ضاغطة تسرع بالتقدم في السن, أو تزيد القابلية للإصابة ببعض الأمراض, وتظهر الإحصاءات الحيوية دور الكثير من العوامل البيئية في ذلك؛ فالمتزوجون مثلًا وخاصةً الرجال يميلون إلى العيش أطول من أندادهم من غير المتزوجين, ربما بسبب الاستقرار الاجتماعي
للكلسترول والأملاح, وزيادة تناول الأطعمة ذات الألياف, ولعل ما يؤكد أهمية ذلك ما كشفت عنه البحوث الطبية الحديثة, من أنَّ حوالي نصف حالات مرض السرطان في الإنسان ترتبط بالغذاء؛ فزيادة الدهنيات ترتبط بسرطان الثدي والقولون، كما قد تُحْدِثُ وتُطَوِّرُ أنواعًا أخرى من السرطان, ويمكن خفض المخاطرة بسرطان القولون بتناول الأطعمة ذات الألياف؛ ومن أمثلتها الحبوب والفاكهة والخضروات الطازجة.
ويوجد عامل آخر مرتبط بالصحة في منتصف العمر حظي باهتمامٍ كبير في السنوات الأخيرة, وهو ضغط الحياة العام؛ كما يتمثل في الأحداث المؤدية للإجهاد النفسي Stress, فقد لوحظ وجود علاقة موجبة بين مرض القلب وعدد التغيرات العظمى في حياة الإنسان ونوعها, والتي أشرنا إليها من قبل، مثل وفاة رفيق الحياة أو الطلاق أو فقد العمل أو التقاعد, ومع ذلك فإن كثيرًا من الناس يمرون بخبراتٍ ضاغطةٍ ومجهدةٍ في حياتهم دون أن يقعوا في أسر المرض, والسؤال الآن: ما الذي يميز المتوافقين مع هذه الضغوط دون سواهم؟
لقد حاول "Kobasa 1979" الإجابة على هذا السؤال بإجراء دراسة مقارنة بين مجموعتين من المديرين من المستويين المتوسط والمرتفع في سلَّمِ الإدارة, والذين يعانون من أحداث ضاغطة ومجهدة خلال السنوات الثلاث السابقة على البحث, وقسَّم المجموعة الكلية إلى مجموعتين فرعيتين؛ إحداهما عانت من الإجهاد دون أن تقع في غائلة المرض "مجموعة متوافقة"، بينما قررت المجموعة الثانية تعرضها لأمراضٍ عديدة بعد الأحداث المجهدة "مجموعة عدم توافق", وقد أظهرت النتائج أن أولئك الذين توافقوا مع ضغوط الحياة بمقارنتهم بالذين لم يتوافقوا كان لديهم إحساس أكثر وضوحًا بقيمتهم وأهدافهم في الحياة وإمكاناتهم، ولديهم ثقة أقوى بأنفسهم، كما كان لديهم اتجاه أكثر إيجابية نحو البيئة، بل اندمجوا فيها على نحوٍ أكثر إيجابية، وكانوا أقدر على تقييم التغيرات التي يتعرضون لها على نحوٍ له معنى، وتكاملها في خطة عامة لحياتهم, كما كانوا أكثر اتجاهًا نحو تقرير أن "موضع الضبط" بالنسبة لهذه الأحداث داخلي -أي: الاعتقاد في أنهم يمكنهم معالجة أحداث الحياة، ويمكنهم، إلى حَدٍّ ما، التحكم فيها, ويصف كوباسا الذين كانوا أكثر نجاحًا في التوافق مع ضغوط الحياة بأنهم ذوو شخصية جسورة ذات قدرة على الاحتمال.
وبالإضافة إلى متغيرات الشخصية يوجد عامل آخر يؤثر في الطريقة التي يتوافق بها المرء مع أحداث الحياة, يتصل بطبيعة هذه الأحداث نفسها، أي: ما إذا
كان الحدث يتم الشعور به منفصلًا عن الأحداث المجهدة الأخرى، أم أن المرء يشعر بضغوطٍ متعددةٍ متآنية في وقتٍ واحدٍ, أو متتابعة بشكل متلاحق. وتؤكد البحوث في هذا الصدد أن الإنسان يتوافق جيدًا مع الأحداث المنفصلة؛ مثل التقاعد أو المرض أو وفاة رفيق "أو رفيقة" الحياة, والأشق على المرء أن يتوافق مع سلسلة من هذه الأحداث تتوالى في نفس الوقت أو في أوقات متقاربة.
أما بالنسبة لأسباب الوفاة، فإنه بينما نجد أن سببه الرئيسي في الرشد المبكر يرجع إلى الحوادث أو الانتحار, فإن الأسباب الرئيسية في وسط العمر ترجع إلى المرض وخاصةً أمراض القلب والسرطان, فحوالي 40% من حالات الوفاة في هذا الطور ترجع لأمراض القلب "80% من حالات الوفاة بمرض القلب من الرجال". وبالطبع فإن لأمراض القلب صلة بالوراثة والنظام الغذائي "وخاصة تناول الأطعمة ذات الكولسترول المرتفع" والتدخين والسمنة ونقص التمرينات الرياضية, ومع ذلك فإن 50% من حالات مرض القلب لا ترتبط بأي سبب معروف, وقد حدد العلماء مؤخرًا1 نمطًا يسمونه النمط "أ" للسلوك, باعتباره الحلقة المفقودة والعامل الهام في إحداث مرض القلب المرتبط بالانسداد التاجي, وهذا النمط السلوكي ليس نمطًا في الشخصية, ولكنه لونٌ من متصل السلوك يرتبط بدرجات متفاوتة من المخاطرة بظهور مرض القلب, وفي أحد أطراف المتصل يوجد ما يسمى أنماط السلوك المرتبطة بالنمط "أ", والتي تشمل السرعة الزائدة في الكلام, وعدم الصبر على التأخير، والتنافسية الزائدة، والبحث المستمر عن الإنجاز، والشعور بعدم الراحة، الاستعداد للاستثارة حتى في المواقف التي لا تتطلَّبُ ذلك.
ويتسم النمط "أ" أيضًا بضغط الزمن وضيق الفترة الزمنية المتاحة؛ حيث يشعر الفرد أن لديه الكثير مما يجب إنجازه مع قلة الوقت المتاح, وكاستجابةٍ لضغط الزمن والميل نحو إحراز الإنجاز يجد أصحاب هذا النمط السلوكي أنفسهم في مشقة وكَبَدٍ مستمرٍّ سعيًا للتحكم في بيئتهم والسيطرة عليها, وبالإضافة إلى ذلك فإن أصحاب هذا النمط يتحركون ويتكلمون ويمشون, بل وحتى يأكلون بسرعة، بل قد يحاولون إنجاز مهمتين معًا وفي وقت واحد, وبسبب سعيهم الذي يكاد يكون قهريًّا نحو الإحراز, فإنهم يقدرون الذاتية بسرعة إنجاز أهداف عالية المكانة.
كما أن لديهم استعدادًا للسلوك العدواني؛ ففي أيِّ حوارٍ بسيطٍ قد يتحوّل الأمر لدى الشخص من النمط "أ" إلى مشادة عدائية غاضبة صاخبة, ولا توجد فروق بين الجنسين في ذلك، فسواء كان الشخص من هذا النمط رجلًا أو امرأةً فإنه يكون عرضةً للإصابة بمرض القلب.
وفي الطرف الثاني للمتصل نجد الأنماط المرتبطة بالسلوك "ب", والتي هي على العكس تمامًا مما سبق وصفه؛ حيث نجد شخصًا مسترخيًا هادئًا غير متسرعٍ في نظرته للعالم، أقل عدوانية، وسعيه للإنجاز عادةً ما يكون متدرجًا وبطيئًا.
والعلاقة السببية بين النمط "أ" من السلوك ومرض القلب تعتمد على أربع فئات من النتائج التي توصلت إليها البحوث.
1- وجود النمط "أ" من السلوك في الأفراد الذين يعانون من مرض القلب من نوع الانسداد التاجي.
2- القابلية الشديدة للإصابة بالمرض لدى الأشخاص من النمط "أ"، فهذا النمط يرتبط على الأقل بضعف عدد الحالات من مرضى القلب بمقارنته بالنمط "ب".
3- وجود اضطراب بيوكيميائي مرتبط بالانسداد التاجي لدى الأشخاص من النمط "أ".
4- التجارب الناجحة التي فيها إحداث السلوك من النمط "أ" داخل المعمل, أظهرت تغيرات بيوكيميائية شبيهة بما يحدث لمن يعانون من الانسداد التاجي.
ويرى بعض الباحثين أن الأشخاص من النمط "أ" عادةً ما يكونون مشغولين إلى حَدٍّ كبير بعملهم وأسرتهم على نحوٍ يجعلهم يتجاهلون الأعراض الجسمية التي تُعَدُّ مؤشرات هامة على المرض, ويؤدي ذلك بدوره إلى الإصابة بمرض القلب, واستفحال هذه الإصابة بسبب تقاعسهم في البحث عن المشورة الطبية, أو تغيير سلوكهم لخفض التوتر.
وتقلّ القوة العضلية بشكلٍ مستمر، ويكون معدل الضعف بطيئًا في البداية, ثم يتزايد تدريجيًّا طوال هذا الطور, وبالطبع فإن هذا المعدل تزداد سرعته بعد ذلك في المرحلة التالية من حياة الإنسان "أي: الشيخوخة والهرم", وقد حسب بعض الباحثين "Wolman 1982" معدل التناقص في القوة العضلية بين سن 30، 80 سنة فبلغ 42%, وهذا لا يعني أن الإنسان في الطور يكون عاجزًا عن أداء الأنشطة التي تتطلب جهدًا عضليًّا؛ فالأشخاص الذين تعودوا على العمل الجسميّ سوف يستمرون في إنتاجيتهم حتى في أواخر الخمسينات وأوائل الستينات، إلّا أن ذلك قد يتطلب وقتًا أطول.
ومع التقدم في العمر وخاصةً مع بلوغ نهاية هذا الطور يلاحظ انخفاض ملحوظ في كفاءة التنفس, وخاصةً عند الجري أو القفز أو التسلق, ويظهر ذلك خاصة لدى الأشخاص ذوي الوزن الزائد, أو الذين يعانون من بعض أمراض الجهاز التنفسي أو الجهاز الدوري, وخاصةً أمراض القلب وتصلُّب الشرايين وكلاهما
شائع في أواخر طور وسط العمر.
ويلاحظ أيضًا التغير في وظائف الحس؛ فالقوة البصرية تصل إلى قمتها في الرشد المبكر, وتظل مستقرةً نسبيًّا حتى العقد الرابع من العمر، وبعد ذلك يحدث هبوط فيها يتسم بأنه بطيء ولكنه مستقر, وفي جميع الحالات تقريبًا يمكن التغلب على مشكلات الدقة البصرية وتصحيح الضعف باستخدام النظارات والعدسات اللاصقة. ويلاحظ أن حجم إنسان العين يتناقص ابتداءً من سن الخمسين, مما يؤدي إلى قلة مقدار الضوء الذي يدخل العين, وهذا يعني أن الشخص في هذا السن يكون في حاجة إلى إضاءة أنصع ليرى بوضوح, وفي هذا السن أيضًا تنشأ وتلاحظ مشكلات تتصل بإدراك العمق والتكيف للظلام.
والمشكلة السمعية الأكثر شيوعًا في هذا الطور, والتي ترتبط بالتقدم في السن هي مشكلة الفقدان المستمر للسمع Presbycusis, وخاصةً إدراك النغمات ذات التردد المرتفع، والذي يحدث لدى الرجال أكثر من حدوثه لدى النساء, وفي الظروف العادية يكون للنقص السمعيّ أثر ضئيل في نشاط الحياة اليومية للإنسان في هذا الطور, وفي المرحلة التالية, وخاصةً إذا تَمَّ تصحيحه بسماعات الأذن, ويحدث أيضًا بعض النقص في حواس الذوق والسمع والحساسية اللمسية, وخاصة في أواخر الأربعينات، ولكنها لا تلاحظ بشكلٍ واضحٍ إلّا في المراحل المتأخرة من الحياة.
وتطرأ على الجهاز العصبي بعض التغيرات التي لا يكون لها في الظروف العادية إلّا أثر محدود في السلوك والإدراك والذكاء خلال مرحلة وسط العمر, فوزن المخ يتناقص بعد سن العشرين, ويكون هذا النقص تدريجيًّا في البداية, ثم تتزايد سرعته في مراحل العمر التالية, إلّا أن الدراسات التي استخدمت الرسام الكهربائي "EEG" والتي تسجل النشاط الكهربائي للمخ أظهرت فروقًا ضئيلة بين الراشدين المبكرين والراشدين في منتصف العمر, كما أن زمن الانعكاس البسيط "الناتج عن خبط الركبة مثلًا" يظل بدون تغير تقريبًا طوال الفترة من سن العشرين وحنى سن الثمانين, إلّا أن الأوجاع التي تصدر عن الرشد الكبير للمثيرات المركبة والمعقدة وغير المألوفة تكون أبطأ, ويظهر أيضًا بعض البطء في نشاط التوصيل العصبي وخاصة في الأعصاب الطرفية مما ينتج عنه بطءٍ عامٍّ في نشاط الجسم وعملياته "Timiras 1972".
وعلى الرغم من أن مرحلة بلوغ الأشد "وسط العمر" تتسم بهبوطٍ تدريجيٍّ في النشاط الجسمي بالمقارنة بالقمة التي وصل إليها هذا النشاط في العشرينات من
العمر، إلّا أن الإنسان لا يشعر بالتحوّل العكسي المفاجئ من التحسن إلى التدهور, فمن المعروف أنه منذ المراحل الأولى لحياة الإنسان تحدث العمليتان معًا, ومن ذلك مثلًا أن الخلايا العصبية لا تتكاثر بعد السنة الأولى من حياة الإنسان, ومعنى ذلك أن عددها لابد أن يتناقص تدريجيًّا. إلّا أنه بسبب الوفرة الهائلة لهذه الخلايا طوال مراحل العمر السابقة فإننا لا نشعر بالفقدان, ويظل هذا الشعور سائدًا حتى نهاية الستينات على الأقل، بل وحتى السبعينات أحيانًا, كما أن أمراض القلب في منتصف العمر ليست إلّا نتاج شروط وظروف تراكمية, وليست نتاج شروط وظروف مفاجئة؛ فبالنسبة للشخص العادي يبدأ نشاط القلب "كما يقاس في حالة الراحة" في الهبوط، ليس في منتصف العمر، وإنما ابتداءً من مطلع العشرينات من العمر بمعدلٍ يبلغ حوالي 1% في السنة، إلّا أن الظاهرة لا تلاحظ بوضوح إلّا في سن الخمسين تقريبًا, وعلى ذلك فإن طور بلوغ الأشد "وسط العمر" ليس نقطة تحوّل حادّة في نموِّ الإنسان الجسمي, وإنما هو ببساطة النقطة التي عندها يبدأ الميزان في الميل تدريجيًّا وبشكلٍ حتميٍّ من التحسن إلى التدهور.
وإذا كانت التغيرات الجسمية التي تظهر في الرشد الأوسط تتوجه نحو التدهور "وهي كذلك لدى بعض الأشخاص في هذا الطور"، فإن مما يستحق الذكر أنها لا تمثل عجزًا وضعفًا في المجتمع الحديث؛ فالقوة الحسية والنشاط العضلي والصحة الجسمية لم تعد مطلوبة وحدها للبقاء في عصرنا, فقليل من المهن والأعمال تتطلب الآن الدقة الحسية أو الاستجابة الحركية السريعة التي كانت مطلوبة في عصور سابقة, بالإضافة إلى أن الخبرة والحكمة والقدرة على الحكم التي تتوافر لدى الشخص في منتصف العمر تعتبر عوامل تعويضية ملائمة تتجاوز أيّ نقص أو تدهور يحدث في الجسم الإنساني.
الصحة والمرض:
من الحقائق المؤكدة منذ وقت طويل، وتدعمت في السنوات الأخيرة، بأن معدل التدهور الجسمي المصاحب للتقدم في السن يتحكم فيه جزئيًّا على الأقل الوراثة, إلّا أن ذلك لا يعني أن التقدم في السن عملية بيولوجية بحتة؛ فكثير من العوامل البيئية تلعب دورها في هذا الصدد, لقد تأكد مثلًا أن وفاة أحد الزوجين، والطلاق، وتغيير العمل أو محل الإقامة, قد تكون خبرات ضاغطة تسرع بالتقدم في السن, أو تزيد القابلية للإصابة ببعض الأمراض, وتظهر الإحصاءات الحيوية دور الكثير من العوامل البيئية في ذلك؛ فالمتزوجون مثلًا وخاصةً الرجال يميلون إلى العيش أطول من أندادهم من غير المتزوجين, ربما بسبب الاستقرار الاجتماعي
للكلسترول والأملاح, وزيادة تناول الأطعمة ذات الألياف, ولعل ما يؤكد أهمية ذلك ما كشفت عنه البحوث الطبية الحديثة, من أنَّ حوالي نصف حالات مرض السرطان في الإنسان ترتبط بالغذاء؛ فزيادة الدهنيات ترتبط بسرطان الثدي والقولون، كما قد تُحْدِثُ وتُطَوِّرُ أنواعًا أخرى من السرطان, ويمكن خفض المخاطرة بسرطان القولون بتناول الأطعمة ذات الألياف؛ ومن أمثلتها الحبوب والفاكهة والخضروات الطازجة.
ويوجد عامل آخر مرتبط بالصحة في منتصف العمر حظي باهتمامٍ كبير في السنوات الأخيرة, وهو ضغط الحياة العام؛ كما يتمثل في الأحداث المؤدية للإجهاد النفسي Stress, فقد لوحظ وجود علاقة موجبة بين مرض القلب وعدد التغيرات العظمى في حياة الإنسان ونوعها, والتي أشرنا إليها من قبل، مثل وفاة رفيق الحياة أو الطلاق أو فقد العمل أو التقاعد, ومع ذلك فإن كثيرًا من الناس يمرون بخبراتٍ ضاغطةٍ ومجهدةٍ في حياتهم دون أن يقعوا في أسر المرض, والسؤال الآن: ما الذي يميز المتوافقين مع هذه الضغوط دون سواهم؟
لقد حاول "Kobasa 1979" الإجابة على هذا السؤال بإجراء دراسة مقارنة بين مجموعتين من المديرين من المستويين المتوسط والمرتفع في سلَّمِ الإدارة, والذين يعانون من أحداث ضاغطة ومجهدة خلال السنوات الثلاث السابقة على البحث, وقسَّم المجموعة الكلية إلى مجموعتين فرعيتين؛ إحداهما عانت من الإجهاد دون أن تقع في غائلة المرض "مجموعة متوافقة"، بينما قررت المجموعة الثانية تعرضها لأمراضٍ عديدة بعد الأحداث المجهدة "مجموعة عدم توافق", وقد أظهرت النتائج أن أولئك الذين توافقوا مع ضغوط الحياة بمقارنتهم بالذين لم يتوافقوا كان لديهم إحساس أكثر وضوحًا بقيمتهم وأهدافهم في الحياة وإمكاناتهم، ولديهم ثقة أقوى بأنفسهم، كما كان لديهم اتجاه أكثر إيجابية نحو البيئة، بل اندمجوا فيها على نحوٍ أكثر إيجابية، وكانوا أقدر على تقييم التغيرات التي يتعرضون لها على نحوٍ له معنى، وتكاملها في خطة عامة لحياتهم, كما كانوا أكثر اتجاهًا نحو تقرير أن "موضع الضبط" بالنسبة لهذه الأحداث داخلي -أي: الاعتقاد في أنهم يمكنهم معالجة أحداث الحياة، ويمكنهم، إلى حَدٍّ ما، التحكم فيها, ويصف كوباسا الذين كانوا أكثر نجاحًا في التوافق مع ضغوط الحياة بأنهم ذوو شخصية جسورة ذات قدرة على الاحتمال.
وبالإضافة إلى متغيرات الشخصية يوجد عامل آخر يؤثر في الطريقة التي يتوافق بها المرء مع أحداث الحياة, يتصل بطبيعة هذه الأحداث نفسها، أي: ما إذا
كان الحدث يتم الشعور به منفصلًا عن الأحداث المجهدة الأخرى، أم أن المرء يشعر بضغوطٍ متعددةٍ متآنية في وقتٍ واحدٍ, أو متتابعة بشكل متلاحق. وتؤكد البحوث في هذا الصدد أن الإنسان يتوافق جيدًا مع الأحداث المنفصلة؛ مثل التقاعد أو المرض أو وفاة رفيق "أو رفيقة" الحياة, والأشق على المرء أن يتوافق مع سلسلة من هذه الأحداث تتوالى في نفس الوقت أو في أوقات متقاربة.
أما بالنسبة لأسباب الوفاة، فإنه بينما نجد أن سببه الرئيسي في الرشد المبكر يرجع إلى الحوادث أو الانتحار, فإن الأسباب الرئيسية في وسط العمر ترجع إلى المرض وخاصةً أمراض القلب والسرطان, فحوالي 40% من حالات الوفاة في هذا الطور ترجع لأمراض القلب "80% من حالات الوفاة بمرض القلب من الرجال". وبالطبع فإن لأمراض القلب صلة بالوراثة والنظام الغذائي "وخاصة تناول الأطعمة ذات الكولسترول المرتفع" والتدخين والسمنة ونقص التمرينات الرياضية, ومع ذلك فإن 50% من حالات مرض القلب لا ترتبط بأي سبب معروف, وقد حدد العلماء مؤخرًا1 نمطًا يسمونه النمط "أ" للسلوك, باعتباره الحلقة المفقودة والعامل الهام في إحداث مرض القلب المرتبط بالانسداد التاجي, وهذا النمط السلوكي ليس نمطًا في الشخصية, ولكنه لونٌ من متصل السلوك يرتبط بدرجات متفاوتة من المخاطرة بظهور مرض القلب, وفي أحد أطراف المتصل يوجد ما يسمى أنماط السلوك المرتبطة بالنمط "أ", والتي تشمل السرعة الزائدة في الكلام, وعدم الصبر على التأخير، والتنافسية الزائدة، والبحث المستمر عن الإنجاز، والشعور بعدم الراحة، الاستعداد للاستثارة حتى في المواقف التي لا تتطلَّبُ ذلك.
ويتسم النمط "أ" أيضًا بضغط الزمن وضيق الفترة الزمنية المتاحة؛ حيث يشعر الفرد أن لديه الكثير مما يجب إنجازه مع قلة الوقت المتاح, وكاستجابةٍ لضغط الزمن والميل نحو إحراز الإنجاز يجد أصحاب هذا النمط السلوكي أنفسهم في مشقة وكَبَدٍ مستمرٍّ سعيًا للتحكم في بيئتهم والسيطرة عليها, وبالإضافة إلى ذلك فإن أصحاب هذا النمط يتحركون ويتكلمون ويمشون, بل وحتى يأكلون بسرعة، بل قد يحاولون إنجاز مهمتين معًا وفي وقت واحد, وبسبب سعيهم الذي يكاد يكون قهريًّا نحو الإحراز, فإنهم يقدرون الذاتية بسرعة إنجاز أهداف عالية المكانة.
كما أن لديهم استعدادًا للسلوك العدواني؛ ففي أيِّ حوارٍ بسيطٍ قد يتحوّل الأمر لدى الشخص من النمط "أ" إلى مشادة عدائية غاضبة صاخبة, ولا توجد فروق بين الجنسين في ذلك، فسواء كان الشخص من هذا النمط رجلًا أو امرأةً فإنه يكون عرضةً للإصابة بمرض القلب.
وفي الطرف الثاني للمتصل نجد الأنماط المرتبطة بالسلوك "ب", والتي هي على العكس تمامًا مما سبق وصفه؛ حيث نجد شخصًا مسترخيًا هادئًا غير متسرعٍ في نظرته للعالم، أقل عدوانية، وسعيه للإنجاز عادةً ما يكون متدرجًا وبطيئًا.
والعلاقة السببية بين النمط "أ" من السلوك ومرض القلب تعتمد على أربع فئات من النتائج التي توصلت إليها البحوث.
1- وجود النمط "أ" من السلوك في الأفراد الذين يعانون من مرض القلب من نوع الانسداد التاجي.
2- القابلية الشديدة للإصابة بالمرض لدى الأشخاص من النمط "أ"، فهذا النمط يرتبط على الأقل بضعف عدد الحالات من مرضى القلب بمقارنته بالنمط "ب".
3- وجود اضطراب بيوكيميائي مرتبط بالانسداد التاجي لدى الأشخاص من النمط "أ".
4- التجارب الناجحة التي فيها إحداث السلوك من النمط "أ" داخل المعمل, أظهرت تغيرات بيوكيميائية شبيهة بما يحدث لمن يعانون من الانسداد التاجي.
ويرى بعض الباحثين أن الأشخاص من النمط "أ" عادةً ما يكونون مشغولين إلى حَدٍّ كبير بعملهم وأسرتهم على نحوٍ يجعلهم يتجاهلون الأعراض الجسمية التي تُعَدُّ مؤشرات هامة على المرض, ويؤدي ذلك بدوره إلى الإصابة بمرض القلب, واستفحال هذه الإصابة بسبب تقاعسهم في البحث عن المشورة الطبية, أو تغيير سلوكهم لخفض التوتر.