دراسة الصحة النفسية للإنسان مبحث هام من مباحث علم النفس والطب النفسي، وهي تتطلب السعة والإحاطة والموضوعية والشمولية والعمق، وقد فتحت هذه الدراسة الطريق واسعاً فسيحاً لفهم الإنسان لجوانب توافقه مع محيطه ومجتمعه وجيله، ومن خلال هذه الوقفة النفسية التاريخية لكتاب الدكتور القدير طارق بن علي الحبيب -حفظه الله ورعاه- وسدد في سبيل الطب النفسي خطه وخطوه وخطاه، والتي تعتبر محاولة هادفة راسخة لفهم ماهية الطب النفسي، كعلم يهدف إلى تحقيق أقصى المحاولات لتلاؤم الإنسان مع بيئته، ثم كونه راضياً عن هذا التلاؤم، وتفاعله مع مقتضيات البيئة والمواقف التي تواجهه ثم مدى فاعليته في مجتمعه محققاً بذلك السعادة لنفسه وللآخرين، والطب النفسي وعلم الصحة النفسية هما أقرب العلوم احتكاكاً ومساساً بحياة الفرد اليومية.
ومنتهى أمل كل إنسان أن يكون صحيح الجسم صحيح النفس، وقد حظيت صحة الإنسان باهتمام البشرية منذ أيامها الأولى، لكنها أخفقت في التفرقة بين الجانب الجسماني والجانب النفسي فيها، ذلك أن الإنسان لم يكن عنده إلا القليل من الفهم للتكوين البيولوجي للجسم وتشريحه وجوانبه الفسيولوجية، وأقل القليل من الفهم للمكونات النفسية للجسم.
وبينما كانت أوروبا تغط في ظلام العصور الوسطى جاء الإسلام وبدأت حضارته في الازدهار وخاصة بين منتصف القرن الثامن إلى بداية القرن الثالث عشر الميلادي حين ازدهرت لدى العرب علوم الطب على يد الطبري والرازي وابن سينا، وكان المرضى النفسيون يعاملون معاملة حسنة في ضوء تعاليم الإسلام وما تحض عليه الشريعة الإسلامية من المعاملة الحسنة للضعيف والمريض، وقد تجلت عناية العرب في الإسلام بالمرضى بإنشائهم البيمارستان ذلك الذي أنشأه الوليد بن عبدالملك 707م، ومن أشهرها أيضاً بيمارستان هارون الرشيد وبيمارستان البرامكة وبيمارستان صلاح الدين الأيوبي 1182م، والبيمارستان المنصوري الذي أنشأه محمد بن قلادون.
هذا ويعتبر جالينوس علامة أخرى على هذا الطريق حيث عرف أهمية المخ مثل أبقراط واعتبره مركزاً أو قاعدة للعقل، وحاول إثبات ذلك تجريبياً حين عرض مخ وقلب خنزير حي، وبين أنه بضغط القلب لم تتأثر سوى الأوعية الدموية، بينما أنه بضغط المخ يمكن الوصول إلى حالة لا وعي وشلل، وقد أكد جالينوس اعتماد السلوك والحياة الانفعالية على الجسم مؤيداً فكرة أبقراط في أن الاختلالات التي تطرأ على جهاز الأخلاط تؤدي إلى معظم علل الإنسان وأمراضه والواقع أن هذا الاتجاه الطبيعي يمكن اعتباره شعلة قصيرة الأمد (480-100 ق.م) في ظلال الاتجاه الذي امتد أكثر من أربعة آلاف عام بالنسبة للنظر إلى الأمراض النفسية من حيث النشأة والمعالجة. (1)
ويشير الدكتور الفاضل طارق الحبيب من خلال كتابه الذي أسلفت لك عنوانه أن مفهوم المرض النفسي قد مر بثلاث مراحل عبر التاريخ:
1- العصور القديمة من التاريخ: والتي اعتمدت بشكل مطلق على الخبرة الخاصة، وكان ذلك في مصر القديمة وفي الحضارات الأشورية والبابلية والصينية والهندية، وقد كان يعنى بمسائل عامة لطبيعة الوجود وما وراء الطبيعة والروح والأخلاق والسياسة وكل ما يهم الناس في حياتهم العامة ولم يحققوا منه شيئاً.
2- العصور اليونانية والعربية: والتي اعتمدت على المهارة الإكلينيكية (السريرية) والخبرة التجريبية التي بدأت على يد أبقراط وجالينوس، ثم تم ترجمتها وتطويرها وتجديدها بواسطة العرب، وخاصة الرازي وابن سينا.
3- العصر الحديث: ويستند مفهوم المرض النفسي فيه إلى المنهج العلمي والبيولوجي (الحيوي) بشكل أساسي.
وتحت عنوان (تاريخ الطب النفسي في بلاد المسلمين) أشار المؤلف -حفظه الله وأبقاه- إلى إسهامات العلماء السابقين من المسلمين في مجال الدراسات النفسانية، لكنها لم تحظ من قبل باهتمام الباحثين ومؤرخي هذه الدراسات النفسية، فالمؤرخون الغربيون يبدأون عادة بالدراسات النفسانية عند المفكرين اليونانيين، وبخاصة أفلاطون وأرسطو، ثم ينتقلون بعد ذلك مباشرة إلى المفكرين الأوروبيين في العصور الوسطى ثم في عصر النهضة الأوروبية الحديثة، ويغفلون إغفالاً تاماً ذكر إسهامات العلماء المسلمين في الدراسات النفسانية رغم أنه قد ترجم العديد منها إلى اللغة اللاتينية، وأثرت تأثيراً كبيراً في آراء المفكرين الأوروبيين أثناء العصور الوسطى وحتى بداية عصر النهضة الأوروبية الحديثة، ولم يكن إغفال ذكر إسهامات العلماء المسلمين في الدراسات النفسانية مقصوراً فقط على المؤرخين الغربيين، بل إننا نجد أيضاً أن العلماء العرب المعاصرين الذين يدرسون في الجامعات العربية مقررات في تاريخ الدراسات النفسانية يحذون حذو المؤرخين الغربيين في إغفال الإشارة إلى هذه الإسهامات، ويعد المصدر الوحيد الذي يرجع إليه الفضل في معرفاتنا الحالية بإسهامات العلماء المسلمين هم مؤرخوا الفلسفة الإسلامية من العرب وغير العرب، الذين أمدونا بملخصات مفيدة عن نظريات العلماء المسلمين في النفس البشرية، وبالرغم من الأهمية الكبيرة لتلك الملخصات إلا أنها غير كافية لإشباع رغبة علماء الأمة المعاصرين في معرفة آراء العلماء المسلمين السابقين في الموضوعات النفسانية المختلفة، من أجل أن يمكنهم من تقدير القيمة العلمية لتلك الإسهامات في تقدم عصور التاريخ.
وحول محور (المستشفيات العقلية) ألمح مؤلفنا الفاضل إلى ناحية من نواحي التقدم عند المسلمين فيما يدخل تحت ظاهرة الاهتمام بمرضى النفس، ومرضى العقل، وهو إنشاء بيمارستانات أي مستشفيات تهتم بهم، وتقوم على رعاية مصالحهم وشؤونهم، وهذه المستشفيات ظاهرة حية تاريخية على التقدم الفكري، والازدهار الحضاري عند المسلمين، في بداية مشارف الدولة الأموية العريقة، ويذكر المؤلف أن هذه الظاهرة ازدهرت على مدى قيام الدول والعصور التابعة للدولة الأموية ومن ذلك قوله: (لقد كانت القيروان في المغرب العربي في أواخر القرن التاسع الميلادي وأوائل القرن العاشر الميلادي عاصمة العلم والإشعاع الحضاري في زمن الأغالبة الذين شيدوا فيها البيمارستانات ثم شيدوا أمثالها في سوسة وصفاقس وتونس، وكانت الصدقات تنفق على المرضى وتقدم لهم في المواسم أطيب المآكل والحلويات.
وفي القرن الرابع عشر الميلادي (القرن الثامن الهجري) كان مستشفى قلاوون في القاهرة مثالاً مدهشاً للرعاية النفسية، فقد كان يحوي أربعة أقسام منفصلة للجراحة وطب العيون والأمراض الباطنة والأمراض العقلية، ولقد كانت الهبات السخية التي يدفعها الأغنياء في القاهرة تتيح للمستشفى أن يقدم مستوى عالياً من الرعاية الطبية ومتابعة المريض في فترة نقاهته حتى يعود إلى حياته الطبيعية.
وبين المؤلف الأديب أن هذه المستشفيات تثير الاهتمام من خلال ملاحظتين هما:
الأولى: هي معالجة المرضى العقليين في مستشفى عام والتي قد سبق المسلمون فيها الاتجاه الحديث بما يقرب من ستة قرون.
الثانية: هي إشراك المجتمع في رعاية المرضى.
وفي خاتمة المطاف بقي أن اقول إن مؤلف الكتاب -أثابه الله- قد وفق في استعراض هذه اللمحة الموجزة المختصرة عن تاريخ الطب النفسي في بلاد المسلمين وهي لمحة مليحة، ولفتة طريفة، سهلة لها من السهولة باع عميق، وفي نفس الوقت ممتنعة ولها من الإمتناع سهم عريق، هذا إلى جانب اتصاف المؤلف الحبيب بالموضوعية والحيادية والقسط والإنصاف، حيث أنه عُني بدراسة هذه الظاهرة من باب وضع القضية في الميزان حاكياً للمسلمين من معالم بارزة في تأسيس هذا العلم الطبي النفسي، وما للغربيين من مظاهر بارزة أثرت هذا العلم، وشاركت في وضع لبناته الأساسية، ولم يبق لي في خاتمة هذه الرحلة المباركة الميمونة إلا الإشارة إلى عالم نفسي روحاني سبق عصره بعدة قرون وهو أبو زيد البلخي في كتابه الرائد الذائع (مصالح الأبدان والأنفس) حيث يعتبر هذا الكتاب خطوة إسلامية، وخطة عربية ناضجة جريئة في وضع أساسيات هذا العلم، ولبنات هذا الطب، لدراسيه ومتذوقيه ومبتغيه ومحبيه.