مقدمة :
لاحظ الإنسان منذ القدم أن الحالة النفسية / الإنفعالية / العاطفية
/ الوجدانية إنما تؤثر سلبا أو إيجابا فى الجسد .. ولذا لا عجب أن يطلق
الإغريق المقولة الشهيرة التى ما نزال نرددها حتى الآن – وبعد الآن
– ألا وهى : العقل السليم فى الجسم السليم .. وأن مسألة (تفتيت)
الإنسان إلى أجزاء وجزر منفصلة لم تعد تجدى فى التعامل مع علاج
الإضطرابات.
والإضطرابات السيكوسومائية (أى النفسية / الجسدية) تعنى
بإختصار أن الفرد لديه العديد من عوامل الإجهاد النفسى – والتى
تنعكس بدورها على الجوانب الجسدية .. فتظهر فى صورة مرض
مثل : قرحة المعدة، أو الشعور بالغثيان أو حتى (العنه) عند الرجال
والبرود الجنسى عند النساء، والإثنى عشر وقرحة القولون والربو
الشعبى بل وإرتفاع ضغط الدم، وقصور الشرايين التاجية وغيرها ..
وإذا تم التعامل فقط مع (الأعراض – دون الأسباب) لم تحل المشكلة
بل تتفاقم ولذا يطلق الأطباء والعلماء والمتخصصون فى الإضطرابات
السيكوسوماتية على أصحاب هذه الفئة من الأمراض أنهم : أصحاب
الملفات المنتفخة حيث أن المرضي من هذه الفئة ينتقلون من
طبيب إلى طبيب فيطلب الطبيب – ظنا منه أنه يريد أن يبدأ
بداية منطقية وعلمية سليمة – بضرورة إجراء الأشعة والفحوص
والتحاليل فينصاع صاحبنا المريض ... ويسارع الطبيب – بعد أن
4
يلقى نظرة سريعة على الفحوص والتحاليل بوصف الدواء وتحديد
الجرعات والتنبيه - إن وجد وقتا لذلك – بضرورة الإلتزام بأخذ
الجرعات فى موعدها حتى يسارع المرض إلى التلاشى ويدخل المريض فى
حالة الشفاء.
ولكن لا يدخل المريض أبدا فى حالة شفاء ؟ لماذا ؟ لأننا تعاملنا مع
(العرض) ولم نتعامل مع (المرض) وطالما أن الأمور سوف تسير هكذا
وعلى نفس الخطى والنهج فلن يكتب أبدا الشفاء للمريض.
وهنا تصرخ هذه الفئة من الإضطرابات بضرورة أننا – كأطباء
– حين نتعامل مع هذه الأمراض ضرورة أن نأخذ الحالة النفسية فى
الإعتبار، بل إننا إذا ركزنا على الحالة النفسية تلاشت الأعراض تدريجيا
وإنتهى المرض وذلك لأن مرضي السيكوسوماتى فى أعماقهم إنما يحتاجون
إلى مزيد من الرعاية والإهتمام والإنصات والإبتسام وأنهم بإختصار
جوعى إلى الحب، والحنان، والرعاية من قبل الآخرين، وحين يفتقد
المريض السيكوسوماتى إلى مثل هذه المشاعر فإن أعضاء جسده (تأكل
بعضها البعض) أنه يتألم وفى ألمه رسالة للآخرين أن إهتموا بى حتى وإن
بدت الصورة غير ما ترون، إمنحونى الحنان والضحك والاهتمام حتى
وإن ظهرت أمامكم (مستغنيا) أو (مستعليا) عن ذلك.
ويعبر مصطفى زيور فى كتابه (فى النفس 1982 ) عن
التحليل النفسى العميق لمرضي الإضطرابات السيكوسوماتية
قائلا : إن أهم ما يميز مرضي قرحة المعدة – كمثال – هو
5
التنكر لما يصطرع فى أنفسهم من حاجة إلى إلتماس الحب والركون إلى
الغير أملين من أن يتلقوا الرعاية والاهتمام من الغير، نراهم يبذلون
العطاء، فالحرمان الذى يفرض عليهم – من قبلهم – لا يلبث أن يستثنى
وظائف التغذية فتنشط المعدة حيث إفرازها الذى يؤدى إلى إضطراب
.( مزمن ( مصطفى زيور، 1982 ، ص 265
وفى المقابل نقول أن المريض السيكوسوماتى لو وجد الرعاية والحب
فإن معدته لن تثور وتتمرد وتفرز إفرازات تضر بصاحبها وكأن زيادة
الإفرازات ما هى إلا دموع تسفحها (أو تسكبها) المعدة حزنا على ما
آل إليه حالها من وحدة وفراغ وإهمال وعدم إهتمام من قبل الآخر
– هذا الآخر الذى سيظل موضوع حب وعداء ورغبة فى الإقتراب منه،
ورغبة فى الإبتعاد عنه ... وعلى قدر قدرة الفرد على (حسم) الصراع
يكون سواء أو عدم سواء الفرد مع الأخذ فى الإعتبار أن مسألة الصراع
تلك ليس لها (موسم محدد) بل الصراع مستمر ما إستمرت حياة
الإنسان على سطح الأرض.
فى حين يرى أحمد عكاشة ( 1998 ) أن أهم ما يميز مصاب قرحة المعدة
– كمثال – أنه شخص جسور، ودءوب، يعمل بإتقان، ويتميز بالقدرة على
المثابرة، ولكنه لا يعترف بلهفته للسلبية اولإعتمادية مما يسبب له صراعا
نفسيا يوقعه فى المرض، كذلك يتميز بالشخصية الفمية فهو قد تثبت فى
6
نموه ونضوجه على المراحل المبكرة مما جعله يعتمد على الغذاء
السلبى ليس فقط من ناحية الطعام بل يحتاج إلى الحب أيضا، ولذا
يلاحظ أن مريض قرحة المعدة – كمثال – يتحسن بالطعام وتسوء
.(675 ، حالته بالجوع (أحمد عكاشة، 1998
وذلك لأنه قد إرتبط فى ذهنه من التى تقدم له الطعام؟ إنها
الأم ..صاحبة الحضن الحنون، وياحبذا لو كانت الأم تقدم الطعام
ممزوجا بالحب والرعاية (مثل الأم التى ترضع طفلها وهى تبتسم فى
وجهه أو تناغيه أو حتى تربت على خده- وهي تقدم الطعام له مع
الحنان (ألا يقول المثل الشعبى : لاقينى ولا تغدينى) أى أن المقابلة
والإهتمام بالشخص لاشك أنها سوف تترك آثارا إيجابية فى جسد وروح
وعقل وإنفعال الفرد أكثر بكثير من طعام يقدم وسط مناخ من الحزن
والإهمال والوحدة وترك الفرد نهبا للضياع والتشتت والقهر والحرمان.
والا يقول المثل الشعبي أيضا (بصلة المحب خروف) أي أن
القيمة ليست في نوعية الطعام حتي وان كان فقيرا في عناصره ولكن
في المحب الذي يقدمه، واليد الحنون التي تمنحه، والوجه البشوش
الذي يحتويه، ومناخ الاهتمام والحنان الذي يحتويني ويجعلني أشعر
كأنني (ملك متوج) أو (كأنني ملكت كل هذا العالم بمن فيه) أبعد هذا
الاحساس بالامتلاء يكون هناك متسعا للمعدة أو حتي للعقل أن يسأل
7
عن (نوعية أو قيمة أو حتي جودة الطعام؟!!!).
فى حين يرى البعض أن المريض السيكوسوماتى فى الغالب يتميز
بأنه : -
- عصبى .
- شديد التوتر .
- طموح .
- ناجح .
- دائما ما يحاول لفت أنظار الآخرين إليه وإلى نجاحاته.
- واسع الأنشطة الإجتماعية (أى يتحرك مع الناس وبينهم) وليس
بعيداً عنهم .
- مكتف بذاته .
- يحب الإعتماد على ذاته .
إلا أن التحليل النفسى العميق يكشف عن أن مثل هذه الشخصيات
إنما تتوارى فى الحقيقة خلف هذه الإنجازات، وأن كل ما سبق ذكره
من سمات وخصائص يمكن ملاحظتها عند هؤلاء الأشخاص إنما تصرخ
وتكشف عن أن الظاهر عكس الباطن تماماً لأنه فى الحقيقة يخفى
شعوراً قويا ومدمراً لا يمكن أبدا إنكاره من أنه يعانى من: -
- الوحدة .
- الفراغ .
- رغبة ملحة فى أن يتواصل إنسانيا مع الناس .
- وأن يرتبط بالناس .
8
- وأن تهتم به الناس وتتبع أحواله بل وتظهر أهتماما بذلك من خلال
سؤاله وتقصي أخباره وأحواله حتي وان بدي فى الظاهر أنه كاره لهذا
التدخل فى شؤونه ولكنه فى الحقيقة – الكامنة بداخلها – مسرور وسعيد
جدا لهذا الإهتمام والذى يشير إلى أن هناك – فى هذا العالم – من
يتذكره، بل ويرفع (سماعة التليفون) ويسأل عنه.
- رغبة فى أن يفوض بعض المهام لهؤلاء الناس حتى يؤدوها نيابة
عنه، حتى يشعر بالإمتلاء، والإمتداد، والإندياح، والإندماج مع الآخرين
.. هذا الآخر الذى سيظل هو محور (الاقدام – الأحجام) و (الاحجام –
الاحجام) و (الاقدام – الاقدام).
لكن مأساة الإنسان السيكوسوماتى أنه لا يحاول ولا يبدى رغباته
تلك للناس .. ويكبت مشاعره فى الإحتياج و(الفضفضة) إلي الآخر، وتكون
النتيجة الحتمية لهذا الكبت مزيدا من الضغوط على الأعصاب،
والأجهزة العضوية وما تفرزه من مواد قد تؤدى إلى إلحاق أضرار جد
خطيرة بجميع أجهزة الجسم مع الأخذ فى الإعتبار أن التركيز فقط على
(الأعراض) دون الإقتراب من (الأسباب) لن يحل أبدا المشكلة .. بل
قد يقود إلى تفاقمها .. حتى تصبح أعضاء جسد هذا الشخص أشبه
بفريق من العازفين .. ولكنهم للأسف يعزفون لحنا جنائزيا يسبب
الآلام والأحزان ويشيع فى الحضور – أى الشخص قبل الآخر – حالة
9
من الضياع والتشتت والإكتئاب بل وربما التفكير الجاد في الانتحار
خاصة وأن لديه ملفات منتفخة من الفحوص والتحاليل والاشاعات بل
(والروشتات) وان هذا الجسد قد (تعاطي) مئات من العقاقير المتنوعة
بل وربما المتعارضة وها هو الالام ترفض مبارحته أو الرحيل بعيداً عنه
فمتي تنتهي المأساة ويعود سليما كما كان قبل أن يدخل في هذا المعترك
الذي يبدو في الافق أنه ليس له نهاية حتي الآن؟.
ولذا فقد جاء هذا الكتيب ليشمل جزءين
الجزء الأول : التأصيل النظرى : ويشمل الفصول الآتية
الفصل الأول : مدخل إلى تاريخ الإضطرابات السيكوسوماتية.
الفصل الثانى : مدخل إلى تعريف الإضطرابات السيكوسوماتية.
الفصل الثالث : العلاقة بين النفس والجسم.
الفصل الرابع : الإنفعالات والإضطرابات السيكوسوماتية.
الفصل الخامس : نماذج من الإضطرابات السيكوسوماتية.
الجزء الميدانى : دراسة ميدانية بعنوان : الإضطرابات السيكوسوماتية
وبعض متغيرات الشخصية والعوامل الديموجرافية لدى مرضي السكر
من النوع الثانى.
ونرجوا أن نكون قد حاولنا أن نخطى بالعلم خطوات
10
قليلة فى مجال الفهم الأفضل لهذه النوعية من الإضطرابات.
ولذا فأن هذا الكتيب سيكون جد مفيد لجميع المتخصصين في
العلوم الانسانية وخاصة الطب النفسي وعلم النفس وكل من يتعامل
مع النفس الانسانية . وكذا سيكون هذا الكتيب مفيد للقاريء المهتم
بالمعرفة والجاد في اتخاذ خطوات لفض المجهلة بالنفس الانسانية.
والله من وراء القصد
أ.د / محمد