الكاتب: رولو ماي، وإيرفين يالوم
المترجم: د. عادل مصطفى
دار النشر: دار النهضة العربية للطباعة والنشر - بيروت
تاريخ النشر:1999
"الضمير هو الصوت الذي يهتف بالإنسان في سرية وصمت أن يستخلص نفسه من تشتت خسران النفس ومن الاستغراق في (الناس) ، لكي يأخذ على عاتقه مسؤولية أن يكون نفسه. إنه نداء النفس لنفسها من الخسران إلى الأصالة"
تأتي هذه المقولة في مقدمة هذا الكتاب المتخصص، وهي في الواقع تعكس خلاصة ما ينادى به في المدرسة الوجودية. تأتي المدرسة الوجودية كمكمل للمدارس الأخرى فهي لا تنقض ما جاء علي لسان علماء النفس السابقين لظهورها. وهي تجعل المعالج (المشير) يرى العميل (المستشير) الفرد على ما هو عليه.
ليس العلاج النفسي الوجودي مدخلاً تقنياً محدداً يقدم مجموعة جديدة من القواعد العلاجية، بل هو توجه جديد يطرح تساؤلات عميقة حول طبيعة الكائن البشري، وحول طبيعة الخبرات الأساسية من مثل القلق واليأس والحزن والوحشة والعزلة واللانظامية.
المؤسس الحقيقي للوجودية المعاصرة هو المفكر الدنمركي المسيحي سورين كيركجارد الذي توفي عام 1855. لكن هناك أشخاص لهم ملامح وجودية ولهم تأثير على الفكر الوجودي مثل سارتر، وكامي، و رولو ماي، وفرنر مندل، وكذلك هيدجر وقد كتب عام 1927 تحفته الكبرى (الوجود والزمان) فكان له السيادة والريادة على الفكر الوجودي، ويعد كتابه بحق إنجيل المدرسة الوجودية بأسرها.
وفيما يلي بعض المبادئ الوجودية كما يعبر عنها علماء النفس الوجودي:
يصر الوجوديون دائما على أن يحملوا الإنسان المسئولية. فالإنسان من هذا المنطلق كائن (محكوم عليه بالحرية) يمارسها عن طريق اختيارات يقوم بها في كل لحظة. فالاختيار حتمي. حتى عدم الاختيار هو نوع من الاختيار أو هو اختيار مقنع. وما دام الإنسان حراً مختاراً فهو مسئول عن وجوده وعما يكون عليه. والمسؤولية هي توأم الحرية. ومن ثم ترتبط الحرية والفعل الحر دائما بالكرب والقلق. فيؤكد رولو ماي – مؤسس العلاج الوجودي في الولايات المتحدة – على مسؤولية الشخص المضطرب عن اضطرابا ته وعما يجري له في حياته مسؤولية مباشرة، ويحثه على أن يواجه ما يبدو له عوامل حتمية تجبره على التسليم أو الانسحاب وتجنب الحياة. وهنا يقول الكاتب أن إدراك الإنسان لوجوده (أنا أحيا الآن، وبوسعي أن أتولى أمر حياتي) أمر يمكن أن يكون له تأثير صحي شاف. حيث يظل الإنسان ضحية للظروف وللآخرين إلى أن يأتي اليوم الذي يقول فيه لنفسه: "إن الحياة حياتي والخبرة خبرتي ....... ولي أن أختار وجودي الخاص"
فالوجود الأصيل يهتف بالمرء أن يكون شجاعاً صريحاً يعبر بوضوح عما يريد، وأن يكون نفسه في كل موقف. إن المستشير في المشهد العلاجي مدعو إلى أن يفضي بذات نفسه ويعلن عنها بجسارة ويستكشفها بعمق ويعيها بوضوح. وبخاصة تلك الجوانب التي طمسها الإنكار والكبت والانتهاك.
أما الطبيب النمسوي فيكتور فرانكل مؤسس مدرسة العلاج بالمعنى الوجودية، فيري أن سعي الإنسان إلى البحث عن معنى في حياته هو قوة دافعة أولية وليس تبريراً ثانوياً لحوافزه الغريزية، وإذا كان الإنسان عند سارتر (يخترع) نفسه ويخلق ماهيته، فإن فرانكل يميل إلى أن معنى وجودنا ليس أمراً نبتدعه ونبرأه بل هو أمر نكتشفه ونستبينه. وقد تتعرض إرادة المعنى عند الإنسان إلى الإحباط وهو ما يعرف باسم (الإحباط الوجودي)، عندئذ ينشأ ما يسمى بالعصاب المعنوي، فالعصاب المعنوي لا يكمن في البعد النفسي بل في البعد العقلي أو الروحي. فهو لا يتولد من الصراعات بين الدوافع والغرائز، وإنما يتولد من الصراعات بين القيم المختلفة. إن (العلاج بالمعنى) يعتبر الإنسان كائناً معنياً في المقام الأول بتحقيق القيم لا بمجرد إرضاء الأهواء وإشباع الغرائز.
إن سعي الإنسان إلى تحقيق المعنى والقيم هو أدعى للتوتر والقلق منه للاتزان والسكينة، غير أن هذا التوتر هو بعينه آية الصحة النفسية ودليلها، فالإنسان بحاجة إلى السعي والكدح في سبيل هدف يستحق أن يعيش من أجله. فلا شئ يعين الإنسان على البقاء والاستمرار والثبات في أحلك الظروف مثل معرفته أن هناك معنى في حياته، يقول نيتشة: (إن من لديه سبب يعيش من أجله، فإن بمقدوره غالبا أن يتحمل أي شئ في سبيله، وبمقدوره غالباً أن ينهض بأي شكل من الأشكال).
"الفراغ الوجودي" هو مصطلح أدخله فرانكل ويعني فقدان الفرد للشعور بأن حياته ذات معنى، والفراغ الوجودي ظاهرة واسعة الانتشار في القرن العشرين، ويكتشف هذا الفراغ عن نفسه في حالة الملل، الممل هو آية الفراغ الوجودي، فالفراغ هنا فراغ من المعنى وليس فراغاً من المشاغل والتلهيات.
من تمثلات هذا الفراغ الوجودي حالة تعرف باسم (عصاب يوم الأحد) أي عصاب العطلة الأسبوعية، وهو نوع من الاكتئاب والكرب يصيب الأشخاص الذين يصيرون واعين بما ينقص حياتهم من مضمون حينما ينحسر اندفاع الأسبوع المزدحم بالمشاغل، وتزداد وطأة الفراغ الداخلي يوم العطلة الأسبوعية ويتعرض المرضي للانتكاس وكثيرا ما يهاتفون المعالج متشبثين به مستغيثين من هول الوحدة ومن عضة الفراغ.
ومما يؤثر عن فرانكل توكيده الدائم على أن الوجود الإنساني تجاوز للذات أكثر مما هو تحقيق لها، وقوله إن الحرية ليست دائما تحرراً من الظروف ولكنها اتخاذ موقف إزاء هذه الظروف.
وعن مفهوم "الذنب الوجودي" يقول الكاتب أن الإنسان مذنب دائماً وأبداً، إنه مذنب منذ لحظة الميلاد، ومدين لنفسه بكل ما لم يحققه من الممكنات التي منحت له، وبكل ما كان يذخره له المستقبل ... مدين حتى النفس الأخير. يتمثل الذنب الوجودي إذن في هذا الفشل في تنفيذ التفويض الممنوح له بتحقيق كل ممكناته. فليست الهوية مورثاً نرثه بقدر ما هي إبداع نحققه.
أما عن الفرق بين القلق السوي والقلق العصابي، فللقلق السوي ثلاث خصائص: فهو أولا متناسب مع الموقف الذي نواجهه، وهو ثانياً لا يتطلب الكبت، وبمقدورنا أن نتصالح معه كما نتصالح مثلاً مع حقيقة أننا جميعا سوف نواجه الموت في النهاية، وهو ثالثاً قلق صحي مفيد يمكن أن نوظفه توظيفاً إبداعياً. أما القلق العصابي فهو في المقابل قلق لا يتناسب مع الموقف، وهو قلق مرتهن للكبت، وهو قلق مدمر غير بناء.
كذلك الذنب يمكن أن يأخذ كلا الشكلين: السوي والعصابي، فمشاعر الذنب العصابية تنجم عن خطايا موهومة، أما الذنب السوي فهو يرهف إحساسنا بالجانب الأخلاقي من سلوكنا.
ومن أهم المبادئ الوجودية هي القدرة البشرية على تجاوز الموقف الراهن. وقد أعلن نيتشه على لسان نبيه القديم زرادشت: (ولقد أسرّت إلىّ الحياة نفسها قائلة: انظر ... إنني ذلك الشيء الذي لابد أن يتخطى ذاته كل حين).
كما يرى جولدشتاين أن ما يميز الكائن الإنساني السوي هو هذه القدرة بالتحديد ... القدرة على أن يجرد ... أن يستعمل الرموز ... أن يوجه نفسه خارج الحدود المباشرة للمكان ... أما المرضى والمضطربون فإنهم يفقدون هذا النطاق ... نطاق (الإمكان).
ويحدد يالوم أربعة هموم نهائية ذات صلة كبيرة بالعلاج النفسي وهي: الموت، والحرية، والعزلة، واللامعنى.
والعزلة الوجودية هي أوغل في العمق من الصور الأخرى للعزلة، فمهما تكن علاقتنا بشخص آخر تبقي هناك فجوة نهائية تفصلنا عنه، فجوة يستحيل عبورها (كلنا يدخل الوجود وحيداً ، وكلنا لابد أن يرحل عنه وحيداً).
ليس هناك مذكر بالعزلة الوجودية أبلغ من مواجهة للموت. فكل من يواجه الموت أو يراه رؤى العين يصبح بلا استثناء على وعي حاد بحقيقة العزلة.
أما بالنسبة للامعنى الوجودي فيبدو أن الإنسان كائن مرتهن للمعنى ... ويسعى بطبيعته إلى المعنى ويحتاجه. والمعنى هو مخطط وإطار نستمد منه نظاماً هرمياً للقيم.
تستخدم الغالبية العظمى من المعالجين المتمرسين، بغض النظر عن انتمائهم لمدرسة أيدولوجية معينة، كثيراً من النظرات والتوجهات الوجودية، فما من معالج على سبيل المثال إلا ويدرك أن وعي المرء بمحدوديته وفنائه قد يحفز داخله نقلة كبرى في منظور الرؤية. وما من معالج إلا ويدرك أن "العلاقة" هي التي تداوي وتشفي. وأن مأزق الاختيار يعذب الإنسان المضطرب. وأن المعالج يجب أن يحفز في الإنسان المضطرب إرادة الفعل. وأن أغلب الأشخاص المضطربين مبتلون بافتقار حياتهم إلى المعنى.
يؤمن المعالج الوجودي بأن كل شخص مضطرب هو مسئول عما يحل به من كرب، ولا يدخر وسعاً في تنبيهه إلى هذه الحقيقة. فليست الجينات السيئة ولا الحظ العاثر هو الذي جعل الشخص المضطرب منبوذاً ينفض عنه الآخرون ويهملونه، ولن يكون هناك أمل في التغيير ما لم يدرك الأشخاص المضطربين أنهم مسئولون عن اضطراباتهم الخاصة.
في رأي الكاتب أنه يجب على المعالج أن يقف على طرق الشخص المضطرب في تجنب المسؤولية، ويضع يده على شواهد تنصله ويبصره بها. ويري الكاتب أن الواقع هو أن هؤلاء الأشخاص يعرفون ما يجب أن يفعلوه، وما يليق بهم أن يفعلوه. وفي رأي الكاتب أنه يجب على المعالج أن يحض هؤلاء الأشخاص على أن يتخذوا القرارات، وأن يقدم لهم العون في ذلك. والقاعدة العامة بصدد اتخاذ القرار هي أن مهمة المعالج ليست خلق القرار بل (تخليصه) فهو لا يصنع للشخص قراره نيابة عنه، بل يزيل العوائق التي تعوق المريض عن اتخاذ القرار.
القلق في الإطار الوجودي وثيق الصلة بالحياة ولصيق بالوجود، بحيث ينأى مفهومه عن مفهوم القلق في أي إطار مرجعي آخر. فالطريف أن المعالج الوجودي لا يعمد إلى استئصال القلق! (اللهم إلا الدرجات الزائدة المعطلة منه)، فالحياة لا يمكن أن تعاش بلا قلق. إن مهمة المعالج هي أن يخفض القلق إلى مستويات محتملة لكي يوظفه ويستخدمه استخداما بناءا.
كذلك يكتشف الناس في العلاج النفسي أن العلاقات الشخصية قد تخفف وطأة العزلة ولكنها لا يمكن أن تمحوها، فالعزلة صميمة لا مهرب منها، ولا يمكن لأي علاقة أن تنفي العزلة، غير أن الإنسان يمكن أن يشارك شخصاً آخر عزلته بطريقة تخفف شيئا من ألم العزلة. فإذا سلم الإنسان تسليماً بوضعه الوجودي المعزول، واحتمله بشجاعة وعزم، عندئذ فقط يمكنه أن يتجه بحب نحو الآخرين، أما أن تملكه الرعب من مواجهة العزلة فلن يكون بمقدوره أن يتجه إلى الآخرين. كل ما يستطيع فعله آنذاك هو أن (يستعمل) الآخرين كدرع تحميه من العزلة، في مثل هذه الحالة لن تكون العلاقات سوى إخفاقات مفككة وإجهاضات وصور مشوهة لما ينبغي أن تكون عليه العلاقات الأصيلة. وعن مفهوم الحب يقول الكاتب إنك لكي تكون في حب حقيقي مع شخص آخر، يلزمك بالضرورة أن تكون أيضاً قانعاً بنفسك متوجهاً إليها مؤتنساً بها.
يحس بعض الأفراد (ولا سيما المصابين باضطراب الشخصية البينية أو الحدية) عندما ينفردون بأنفسهم بالهلع الناجم عن انحلال حدود الذات، يبدأ هؤلاء الأفراد يشكون في وجودهم الخاص. ويعتقدون أنهم لا يوجدون إلا في حضور شخص آخر. أي لا يوجدون إلا بقدر ما يستجيب لهم فرد آخر ويفكر بهم. يحاول الكثيرون أن يتخلصوا من العزلة عن طريق الانصهار أو الالتحام، فيلينون حدود الذات ويصبحون جزءا من فرد آخر. إنهم يتجنبون النمو الشخصي والإحساس بالعزلة الذي يصاحب النمو.
وممارسة الجنس القهرية هي أيضاً استجابة شائعة للعزلة المخيفة، وقد تمنح الممارسات الجنسية الشاردة انفراجة قوية للفرد المنعزل. غير أنها انفراجة وقتية، وهي وقتية لأنها ليست علاقة، بل صورة كاريكاتورية لعلاقة، فالذي يمارس الجنس قهرياً لا يتصل بالوجود الكلي للآخر بل بالجزء الذي يفي بحاجته من ذلك الآخر، إنه لا يعرف الآخر، فهو لا يرى من الآخر ولا يريه إلا تلك الجوانب التي تيسر أمر الإغواء والفعل الجنسي.
وقد أثبت أوتو ويل أن المراهقين الذين ينشأون في أسر تعهدتهم بالحب والمساندة يكونون أقدر على تركها وتحمل البعد والواحدة إذا ما أزف وقت الانفصال عنها في مقتبل الشباب. بينما يجد الذين نشأوا في أسر معذبة مفككة صعوبة كبيرة في ترك الأسرة. فكلما ساءت الأسرة واضطربت كلما تعذر على الأبناء تركها. وكأن هؤلاء الأبناء لم تحسن الأسرة تجهيزهم للانفصال ومن ثم يتشبثون بها كدريئة تقيهم ألم العزلة والقلق. وعلى المعالج أن يجد طريقة يساعد بها الشخص على مواجهة الوحدة بتدرج مناسب وفي ظل نظام من الدعم والمساندة ملائم لذلك الإنسان، وينصح بعض المعالجين عملائهم في مرحلة متقدمة من العلاج بأن يلزموا أنفسهم بفترات من الوحدة. ويرصدون أثناءها أفكارهم ومشاعرهم ويسجلونها.
كذلك بالنسبة للمعني في حياة الإنسان، فكلما التمسنا الإشباع الذاتي عن عمد وقصد راوغنا وأفلت منا، ولكن كلما حققنا معنى يتجاوز ذاتنا واتتنا السعادة عن رضا وطيب خاطر. ويرى فرانكل أن هذا يعني أن بعض الأفراد يجب أن نحثهم على أن يصرفوا نظرهم عن أنفسهم، وهو ما يسميه فرانكل (خفض التفكر). وفي رأي الكاتب أن يجب أن يجد المعالج طريقة تنمي في عميله شيئاً من الشغف بالآخرين والاهتمام بهم.
وأما عن العلاقة العلاجية، يقول الكاتب: تؤدي العلاقة بين المعالج والعميل (المستشير) وظائف مركزية كثيرة في العلاج. فهي مثلا تساعد العميل على أن يجلو علاقاته الأخرى ويخلصها من الشوائب، فجميع المستشيرين تقريباً يحرفون جانباً من علاقتهم بمعالجهم، وبوسع المعالج، أن يساعد المريض على أن يميز بين الواقع والتحريف.
هناك أيضاً فائدة كامنة فيما ينهجه المدخل الوجودي من دفع العميل إلى إقامة علاقة حقيقية مع المعالج (كنقيض لعلاقة الطرح) فما أن يصبح العميل قادراً على أن يقيم علاقة عميقة بالمعالج حتى يكون ذلك شهادة على أنه قد تغير، إنه ليتعلم أن إمكانية الحب تكمن داخله، ولا ضير أن تكون صلته بالمعالج عابرة مؤقتة، فخبرة الألفة هي خبرة باقية لا يمكن أن تسلب أو تنتزع. فهي تبقى في عالمه الداخلي كنقطة مرجعية دائمة وعلامة تذكرة بقدرته على الاقتراب الحميم، وقابليته للود والألفة.
إن لقاءا حميماً مع معالج هو خبرة تحمل للعميل ما لا تحمله علاقاته بسائر الناس، فالمعالج أولاً هو شخص يكن له العميل احتراماً خاصاً، والمعالج ثانياً وهو الأهم ، هو شخص (ربما الوحيد) الذي يعرف العميل معرفة حقة ... يعرفه كما هو بالفعل. فأن تفضي إلى شخص بأدق أسرارك وأفحش أفكارك وأخفى أحزانك وتفاهاتك وأهوائك ثم تبقى مقبولا من جانبه – تلك خبرة إيجابية إلى أقصى حد.
يؤكد جميع المفكرين الوجوديين أن العناية الحقيقية بشخص آخر تعني أن نهتم بنمو هذا الآخر وأن نحيى فيه شيئا ما. إن مبرر وجود المعالج هو أن يكون (قابلة) يولد في العميل تلك الحياة التي لم يعشها بعد. فالمعالج ليس مشكلاً ولا موجهاً، بل هو على حد قول سكوين (كاشف إمكانيات).
ربما يكون أهم المفهومات قاطبة في وصف علاقة (المعالج – العميل) هو ما أسماه رولو ماي وآخرون بالحضور، فالمعالج يجب أن يواكب العميل وأن يسعى نحو علاقة أصيلة به. وحتى لو كان المعالج يقضي معه ساعة واحدة كل أسبوع فإن من الأهمية بمكان أن يكون المعالج (هناك) طيلة هذه الساعة.
يؤكد العلاج الوجودي على الأهمية الكبرى لفعل (الحضور) وفعل المواجهة أو الملاقاة من جانب المعالج. وقد وضح كارل ياسبرز، وهو طبيب نفسي صار فيما بعد فيلسوفاً وجودياً، يده على أهمية الحضور وخطورة افتقاده، إذ يقول: "كم فوتنا على أنفسنا من فرص للفهم، لأننا في لحظة حاسمة فريدة، ورغم كل ما نختزنه من معرفة، كنا نفتقد تلك الفضيلة البسيطة، فضيلة الحضور الإنساني المليء."
المترجم: د. عادل مصطفى
دار النشر: دار النهضة العربية للطباعة والنشر - بيروت
تاريخ النشر:1999
"الضمير هو الصوت الذي يهتف بالإنسان في سرية وصمت أن يستخلص نفسه من تشتت خسران النفس ومن الاستغراق في (الناس) ، لكي يأخذ على عاتقه مسؤولية أن يكون نفسه. إنه نداء النفس لنفسها من الخسران إلى الأصالة"
تأتي هذه المقولة في مقدمة هذا الكتاب المتخصص، وهي في الواقع تعكس خلاصة ما ينادى به في المدرسة الوجودية. تأتي المدرسة الوجودية كمكمل للمدارس الأخرى فهي لا تنقض ما جاء علي لسان علماء النفس السابقين لظهورها. وهي تجعل المعالج (المشير) يرى العميل (المستشير) الفرد على ما هو عليه.
ليس العلاج النفسي الوجودي مدخلاً تقنياً محدداً يقدم مجموعة جديدة من القواعد العلاجية، بل هو توجه جديد يطرح تساؤلات عميقة حول طبيعة الكائن البشري، وحول طبيعة الخبرات الأساسية من مثل القلق واليأس والحزن والوحشة والعزلة واللانظامية.
المؤسس الحقيقي للوجودية المعاصرة هو المفكر الدنمركي المسيحي سورين كيركجارد الذي توفي عام 1855. لكن هناك أشخاص لهم ملامح وجودية ولهم تأثير على الفكر الوجودي مثل سارتر، وكامي، و رولو ماي، وفرنر مندل، وكذلك هيدجر وقد كتب عام 1927 تحفته الكبرى (الوجود والزمان) فكان له السيادة والريادة على الفكر الوجودي، ويعد كتابه بحق إنجيل المدرسة الوجودية بأسرها.
وفيما يلي بعض المبادئ الوجودية كما يعبر عنها علماء النفس الوجودي:
يصر الوجوديون دائما على أن يحملوا الإنسان المسئولية. فالإنسان من هذا المنطلق كائن (محكوم عليه بالحرية) يمارسها عن طريق اختيارات يقوم بها في كل لحظة. فالاختيار حتمي. حتى عدم الاختيار هو نوع من الاختيار أو هو اختيار مقنع. وما دام الإنسان حراً مختاراً فهو مسئول عن وجوده وعما يكون عليه. والمسؤولية هي توأم الحرية. ومن ثم ترتبط الحرية والفعل الحر دائما بالكرب والقلق. فيؤكد رولو ماي – مؤسس العلاج الوجودي في الولايات المتحدة – على مسؤولية الشخص المضطرب عن اضطرابا ته وعما يجري له في حياته مسؤولية مباشرة، ويحثه على أن يواجه ما يبدو له عوامل حتمية تجبره على التسليم أو الانسحاب وتجنب الحياة. وهنا يقول الكاتب أن إدراك الإنسان لوجوده (أنا أحيا الآن، وبوسعي أن أتولى أمر حياتي) أمر يمكن أن يكون له تأثير صحي شاف. حيث يظل الإنسان ضحية للظروف وللآخرين إلى أن يأتي اليوم الذي يقول فيه لنفسه: "إن الحياة حياتي والخبرة خبرتي ....... ولي أن أختار وجودي الخاص"
فالوجود الأصيل يهتف بالمرء أن يكون شجاعاً صريحاً يعبر بوضوح عما يريد، وأن يكون نفسه في كل موقف. إن المستشير في المشهد العلاجي مدعو إلى أن يفضي بذات نفسه ويعلن عنها بجسارة ويستكشفها بعمق ويعيها بوضوح. وبخاصة تلك الجوانب التي طمسها الإنكار والكبت والانتهاك.
أما الطبيب النمسوي فيكتور فرانكل مؤسس مدرسة العلاج بالمعنى الوجودية، فيري أن سعي الإنسان إلى البحث عن معنى في حياته هو قوة دافعة أولية وليس تبريراً ثانوياً لحوافزه الغريزية، وإذا كان الإنسان عند سارتر (يخترع) نفسه ويخلق ماهيته، فإن فرانكل يميل إلى أن معنى وجودنا ليس أمراً نبتدعه ونبرأه بل هو أمر نكتشفه ونستبينه. وقد تتعرض إرادة المعنى عند الإنسان إلى الإحباط وهو ما يعرف باسم (الإحباط الوجودي)، عندئذ ينشأ ما يسمى بالعصاب المعنوي، فالعصاب المعنوي لا يكمن في البعد النفسي بل في البعد العقلي أو الروحي. فهو لا يتولد من الصراعات بين الدوافع والغرائز، وإنما يتولد من الصراعات بين القيم المختلفة. إن (العلاج بالمعنى) يعتبر الإنسان كائناً معنياً في المقام الأول بتحقيق القيم لا بمجرد إرضاء الأهواء وإشباع الغرائز.
إن سعي الإنسان إلى تحقيق المعنى والقيم هو أدعى للتوتر والقلق منه للاتزان والسكينة، غير أن هذا التوتر هو بعينه آية الصحة النفسية ودليلها، فالإنسان بحاجة إلى السعي والكدح في سبيل هدف يستحق أن يعيش من أجله. فلا شئ يعين الإنسان على البقاء والاستمرار والثبات في أحلك الظروف مثل معرفته أن هناك معنى في حياته، يقول نيتشة: (إن من لديه سبب يعيش من أجله، فإن بمقدوره غالبا أن يتحمل أي شئ في سبيله، وبمقدوره غالباً أن ينهض بأي شكل من الأشكال).
"الفراغ الوجودي" هو مصطلح أدخله فرانكل ويعني فقدان الفرد للشعور بأن حياته ذات معنى، والفراغ الوجودي ظاهرة واسعة الانتشار في القرن العشرين، ويكتشف هذا الفراغ عن نفسه في حالة الملل، الممل هو آية الفراغ الوجودي، فالفراغ هنا فراغ من المعنى وليس فراغاً من المشاغل والتلهيات.
من تمثلات هذا الفراغ الوجودي حالة تعرف باسم (عصاب يوم الأحد) أي عصاب العطلة الأسبوعية، وهو نوع من الاكتئاب والكرب يصيب الأشخاص الذين يصيرون واعين بما ينقص حياتهم من مضمون حينما ينحسر اندفاع الأسبوع المزدحم بالمشاغل، وتزداد وطأة الفراغ الداخلي يوم العطلة الأسبوعية ويتعرض المرضي للانتكاس وكثيرا ما يهاتفون المعالج متشبثين به مستغيثين من هول الوحدة ومن عضة الفراغ.
ومما يؤثر عن فرانكل توكيده الدائم على أن الوجود الإنساني تجاوز للذات أكثر مما هو تحقيق لها، وقوله إن الحرية ليست دائما تحرراً من الظروف ولكنها اتخاذ موقف إزاء هذه الظروف.
وعن مفهوم "الذنب الوجودي" يقول الكاتب أن الإنسان مذنب دائماً وأبداً، إنه مذنب منذ لحظة الميلاد، ومدين لنفسه بكل ما لم يحققه من الممكنات التي منحت له، وبكل ما كان يذخره له المستقبل ... مدين حتى النفس الأخير. يتمثل الذنب الوجودي إذن في هذا الفشل في تنفيذ التفويض الممنوح له بتحقيق كل ممكناته. فليست الهوية مورثاً نرثه بقدر ما هي إبداع نحققه.
أما عن الفرق بين القلق السوي والقلق العصابي، فللقلق السوي ثلاث خصائص: فهو أولا متناسب مع الموقف الذي نواجهه، وهو ثانياً لا يتطلب الكبت، وبمقدورنا أن نتصالح معه كما نتصالح مثلاً مع حقيقة أننا جميعا سوف نواجه الموت في النهاية، وهو ثالثاً قلق صحي مفيد يمكن أن نوظفه توظيفاً إبداعياً. أما القلق العصابي فهو في المقابل قلق لا يتناسب مع الموقف، وهو قلق مرتهن للكبت، وهو قلق مدمر غير بناء.
كذلك الذنب يمكن أن يأخذ كلا الشكلين: السوي والعصابي، فمشاعر الذنب العصابية تنجم عن خطايا موهومة، أما الذنب السوي فهو يرهف إحساسنا بالجانب الأخلاقي من سلوكنا.
ومن أهم المبادئ الوجودية هي القدرة البشرية على تجاوز الموقف الراهن. وقد أعلن نيتشه على لسان نبيه القديم زرادشت: (ولقد أسرّت إلىّ الحياة نفسها قائلة: انظر ... إنني ذلك الشيء الذي لابد أن يتخطى ذاته كل حين).
كما يرى جولدشتاين أن ما يميز الكائن الإنساني السوي هو هذه القدرة بالتحديد ... القدرة على أن يجرد ... أن يستعمل الرموز ... أن يوجه نفسه خارج الحدود المباشرة للمكان ... أما المرضى والمضطربون فإنهم يفقدون هذا النطاق ... نطاق (الإمكان).
ويحدد يالوم أربعة هموم نهائية ذات صلة كبيرة بالعلاج النفسي وهي: الموت، والحرية، والعزلة، واللامعنى.
والعزلة الوجودية هي أوغل في العمق من الصور الأخرى للعزلة، فمهما تكن علاقتنا بشخص آخر تبقي هناك فجوة نهائية تفصلنا عنه، فجوة يستحيل عبورها (كلنا يدخل الوجود وحيداً ، وكلنا لابد أن يرحل عنه وحيداً).
ليس هناك مذكر بالعزلة الوجودية أبلغ من مواجهة للموت. فكل من يواجه الموت أو يراه رؤى العين يصبح بلا استثناء على وعي حاد بحقيقة العزلة.
أما بالنسبة للامعنى الوجودي فيبدو أن الإنسان كائن مرتهن للمعنى ... ويسعى بطبيعته إلى المعنى ويحتاجه. والمعنى هو مخطط وإطار نستمد منه نظاماً هرمياً للقيم.
تستخدم الغالبية العظمى من المعالجين المتمرسين، بغض النظر عن انتمائهم لمدرسة أيدولوجية معينة، كثيراً من النظرات والتوجهات الوجودية، فما من معالج على سبيل المثال إلا ويدرك أن وعي المرء بمحدوديته وفنائه قد يحفز داخله نقلة كبرى في منظور الرؤية. وما من معالج إلا ويدرك أن "العلاقة" هي التي تداوي وتشفي. وأن مأزق الاختيار يعذب الإنسان المضطرب. وأن المعالج يجب أن يحفز في الإنسان المضطرب إرادة الفعل. وأن أغلب الأشخاص المضطربين مبتلون بافتقار حياتهم إلى المعنى.
يؤمن المعالج الوجودي بأن كل شخص مضطرب هو مسئول عما يحل به من كرب، ولا يدخر وسعاً في تنبيهه إلى هذه الحقيقة. فليست الجينات السيئة ولا الحظ العاثر هو الذي جعل الشخص المضطرب منبوذاً ينفض عنه الآخرون ويهملونه، ولن يكون هناك أمل في التغيير ما لم يدرك الأشخاص المضطربين أنهم مسئولون عن اضطراباتهم الخاصة.
في رأي الكاتب أنه يجب على المعالج أن يقف على طرق الشخص المضطرب في تجنب المسؤولية، ويضع يده على شواهد تنصله ويبصره بها. ويري الكاتب أن الواقع هو أن هؤلاء الأشخاص يعرفون ما يجب أن يفعلوه، وما يليق بهم أن يفعلوه. وفي رأي الكاتب أنه يجب على المعالج أن يحض هؤلاء الأشخاص على أن يتخذوا القرارات، وأن يقدم لهم العون في ذلك. والقاعدة العامة بصدد اتخاذ القرار هي أن مهمة المعالج ليست خلق القرار بل (تخليصه) فهو لا يصنع للشخص قراره نيابة عنه، بل يزيل العوائق التي تعوق المريض عن اتخاذ القرار.
القلق في الإطار الوجودي وثيق الصلة بالحياة ولصيق بالوجود، بحيث ينأى مفهومه عن مفهوم القلق في أي إطار مرجعي آخر. فالطريف أن المعالج الوجودي لا يعمد إلى استئصال القلق! (اللهم إلا الدرجات الزائدة المعطلة منه)، فالحياة لا يمكن أن تعاش بلا قلق. إن مهمة المعالج هي أن يخفض القلق إلى مستويات محتملة لكي يوظفه ويستخدمه استخداما بناءا.
كذلك يكتشف الناس في العلاج النفسي أن العلاقات الشخصية قد تخفف وطأة العزلة ولكنها لا يمكن أن تمحوها، فالعزلة صميمة لا مهرب منها، ولا يمكن لأي علاقة أن تنفي العزلة، غير أن الإنسان يمكن أن يشارك شخصاً آخر عزلته بطريقة تخفف شيئا من ألم العزلة. فإذا سلم الإنسان تسليماً بوضعه الوجودي المعزول، واحتمله بشجاعة وعزم، عندئذ فقط يمكنه أن يتجه بحب نحو الآخرين، أما أن تملكه الرعب من مواجهة العزلة فلن يكون بمقدوره أن يتجه إلى الآخرين. كل ما يستطيع فعله آنذاك هو أن (يستعمل) الآخرين كدرع تحميه من العزلة، في مثل هذه الحالة لن تكون العلاقات سوى إخفاقات مفككة وإجهاضات وصور مشوهة لما ينبغي أن تكون عليه العلاقات الأصيلة. وعن مفهوم الحب يقول الكاتب إنك لكي تكون في حب حقيقي مع شخص آخر، يلزمك بالضرورة أن تكون أيضاً قانعاً بنفسك متوجهاً إليها مؤتنساً بها.
يحس بعض الأفراد (ولا سيما المصابين باضطراب الشخصية البينية أو الحدية) عندما ينفردون بأنفسهم بالهلع الناجم عن انحلال حدود الذات، يبدأ هؤلاء الأفراد يشكون في وجودهم الخاص. ويعتقدون أنهم لا يوجدون إلا في حضور شخص آخر. أي لا يوجدون إلا بقدر ما يستجيب لهم فرد آخر ويفكر بهم. يحاول الكثيرون أن يتخلصوا من العزلة عن طريق الانصهار أو الالتحام، فيلينون حدود الذات ويصبحون جزءا من فرد آخر. إنهم يتجنبون النمو الشخصي والإحساس بالعزلة الذي يصاحب النمو.
وممارسة الجنس القهرية هي أيضاً استجابة شائعة للعزلة المخيفة، وقد تمنح الممارسات الجنسية الشاردة انفراجة قوية للفرد المنعزل. غير أنها انفراجة وقتية، وهي وقتية لأنها ليست علاقة، بل صورة كاريكاتورية لعلاقة، فالذي يمارس الجنس قهرياً لا يتصل بالوجود الكلي للآخر بل بالجزء الذي يفي بحاجته من ذلك الآخر، إنه لا يعرف الآخر، فهو لا يرى من الآخر ولا يريه إلا تلك الجوانب التي تيسر أمر الإغواء والفعل الجنسي.
وقد أثبت أوتو ويل أن المراهقين الذين ينشأون في أسر تعهدتهم بالحب والمساندة يكونون أقدر على تركها وتحمل البعد والواحدة إذا ما أزف وقت الانفصال عنها في مقتبل الشباب. بينما يجد الذين نشأوا في أسر معذبة مفككة صعوبة كبيرة في ترك الأسرة. فكلما ساءت الأسرة واضطربت كلما تعذر على الأبناء تركها. وكأن هؤلاء الأبناء لم تحسن الأسرة تجهيزهم للانفصال ومن ثم يتشبثون بها كدريئة تقيهم ألم العزلة والقلق. وعلى المعالج أن يجد طريقة يساعد بها الشخص على مواجهة الوحدة بتدرج مناسب وفي ظل نظام من الدعم والمساندة ملائم لذلك الإنسان، وينصح بعض المعالجين عملائهم في مرحلة متقدمة من العلاج بأن يلزموا أنفسهم بفترات من الوحدة. ويرصدون أثناءها أفكارهم ومشاعرهم ويسجلونها.
كذلك بالنسبة للمعني في حياة الإنسان، فكلما التمسنا الإشباع الذاتي عن عمد وقصد راوغنا وأفلت منا، ولكن كلما حققنا معنى يتجاوز ذاتنا واتتنا السعادة عن رضا وطيب خاطر. ويرى فرانكل أن هذا يعني أن بعض الأفراد يجب أن نحثهم على أن يصرفوا نظرهم عن أنفسهم، وهو ما يسميه فرانكل (خفض التفكر). وفي رأي الكاتب أن يجب أن يجد المعالج طريقة تنمي في عميله شيئاً من الشغف بالآخرين والاهتمام بهم.
وأما عن العلاقة العلاجية، يقول الكاتب: تؤدي العلاقة بين المعالج والعميل (المستشير) وظائف مركزية كثيرة في العلاج. فهي مثلا تساعد العميل على أن يجلو علاقاته الأخرى ويخلصها من الشوائب، فجميع المستشيرين تقريباً يحرفون جانباً من علاقتهم بمعالجهم، وبوسع المعالج، أن يساعد المريض على أن يميز بين الواقع والتحريف.
هناك أيضاً فائدة كامنة فيما ينهجه المدخل الوجودي من دفع العميل إلى إقامة علاقة حقيقية مع المعالج (كنقيض لعلاقة الطرح) فما أن يصبح العميل قادراً على أن يقيم علاقة عميقة بالمعالج حتى يكون ذلك شهادة على أنه قد تغير، إنه ليتعلم أن إمكانية الحب تكمن داخله، ولا ضير أن تكون صلته بالمعالج عابرة مؤقتة، فخبرة الألفة هي خبرة باقية لا يمكن أن تسلب أو تنتزع. فهي تبقى في عالمه الداخلي كنقطة مرجعية دائمة وعلامة تذكرة بقدرته على الاقتراب الحميم، وقابليته للود والألفة.
إن لقاءا حميماً مع معالج هو خبرة تحمل للعميل ما لا تحمله علاقاته بسائر الناس، فالمعالج أولاً هو شخص يكن له العميل احتراماً خاصاً، والمعالج ثانياً وهو الأهم ، هو شخص (ربما الوحيد) الذي يعرف العميل معرفة حقة ... يعرفه كما هو بالفعل. فأن تفضي إلى شخص بأدق أسرارك وأفحش أفكارك وأخفى أحزانك وتفاهاتك وأهوائك ثم تبقى مقبولا من جانبه – تلك خبرة إيجابية إلى أقصى حد.
يؤكد جميع المفكرين الوجوديين أن العناية الحقيقية بشخص آخر تعني أن نهتم بنمو هذا الآخر وأن نحيى فيه شيئا ما. إن مبرر وجود المعالج هو أن يكون (قابلة) يولد في العميل تلك الحياة التي لم يعشها بعد. فالمعالج ليس مشكلاً ولا موجهاً، بل هو على حد قول سكوين (كاشف إمكانيات).
ربما يكون أهم المفهومات قاطبة في وصف علاقة (المعالج – العميل) هو ما أسماه رولو ماي وآخرون بالحضور، فالمعالج يجب أن يواكب العميل وأن يسعى نحو علاقة أصيلة به. وحتى لو كان المعالج يقضي معه ساعة واحدة كل أسبوع فإن من الأهمية بمكان أن يكون المعالج (هناك) طيلة هذه الساعة.
يؤكد العلاج الوجودي على الأهمية الكبرى لفعل (الحضور) وفعل المواجهة أو الملاقاة من جانب المعالج. وقد وضح كارل ياسبرز، وهو طبيب نفسي صار فيما بعد فيلسوفاً وجودياً، يده على أهمية الحضور وخطورة افتقاده، إذ يقول: "كم فوتنا على أنفسنا من فرص للفهم، لأننا في لحظة حاسمة فريدة، ورغم كل ما نختزنه من معرفة، كنا نفتقد تلك الفضيلة البسيطة، فضيلة الحضور الإنساني المليء."