مقدمة الطبعة العربية
فكرت آثيراً قبل أن أبدأ بترجمة هذا الكتاب الذي يعتقد مؤلفوه أن أي
مواطن يجب أن يقرأه. فهل تنطبق رؤيتهم تلك على المواطن العربي
أيضاً، سواء أآان مريضاً أم طبيباً أم ممرضاً أم سياسياً؟
يقدم مؤلفوا هذا الكتاب عدة قناعات آمنوا بها – وشارآتهم إيمانهم بها
– منذ عدة عقود من الزمن.
القناعة الأولى هي أن ممارسة الطب يجب أن لاتبقى تكراراً روتينياً
لمعلومات قرأها الطبيب أو سمعها وحفظها عن ظهر قلب.
فالمعلومات تتجدد باستمرار، وعلى الطبيب أن يستمر بتطوير معارفه
طيلة الحياة عن طريق التساؤل المستمر عن جدوى مايقدمه لمرضاه
من تداخلات. فالعلم تراآمي، والطبيب مطالب بأن يرى المعلومات
الجديدة في ضوء ماسبقها من معارف متبعاً لتحقيق ذلك طريقة
٣
المراجعة المنهجية. والمراجعة المنهجية هي مراجعة آل الأبحاث
التي تناولت تداخلاً طبياً ما عبر التاريخ وبأي لغة وفي أية دولة.
وللمراجعة المنهجية أصول يوضحها هذا الكتاب، فمن بين أآوام
المنشورات، يجب انتقاء ماهو موثوق وهام، ثم دمج نتائجه والتوصل
إلى أفضل برهان علمي متوفر حول التداخل الطبي المدروس، سواءً
أآان تداخلاً تشخيصياً أم علاجياً أم وقائياً.
القناعة الثانية هي أن أفضل أشكال البحث العلمي نوعيةً عند تقييم
جدوى التداخلات الطبية هو النوع الذي يعرف بالتجربة المضبوطة
المعشاة. التجربة خير برهان قول مأثور ما زال صالحاً، ولكن
للتجربة أصول لابد منها إذا آانت الغاية التوصل إلى نتائج موثوقة،
لذلك فلابد من أن تكون التجربة مضبوطةً، ومن أن تكون معشاة (أو
عشوائية). ويقصد بكلمة مضبوطة هنا وجود مقارنة بين مجموعتين
من المرضى تعطى إحداهما العلاج المدروس وتعطى الثانية علاجاً
آخر للمقارنة. أما آلمة معشاة فتعني توزيع المرضى المشارآين
بالتجربة على مجموعتي المقارنة بشكل عشوائي، وفي هذا الكتاب
توضيح لأهمية المقارنة ولأهمية التوزيع العشوائي وهما مفهومان
هامان من المفاهيم المستخدمة في البحث العلمي الطبي، والتي
يستعرض هذا الكتاب أهمها بسلاسة. وبدون أن يصرح بذلك علانيةً،
٤
يقدم هذا الكتاب أيضاً شرحاً مبسطاً لمبادئ علم الاحصاء الحيوي
وعلم الوبائيات المستخدمة في تصميم وتنفيذ الأبحاث العلمية الصحية.
القناعة الثالثة هي أنه لايمكن صبغ التداخلات الطبية إما باللون
الأبيض أو باللون الأسود فقط، فمعظم التداخلات الطبية رمادية اللون:
لها فوائدها ولها محاذيرها، ولرغبات المريض أهمية آبرى في
ترجيح آفة الفوائد أو المحاذير. لذلك فإن الأطباء مطالبون باتخاذ
موقف مسؤول لايكتفي بالإقرار بوجود التداخلات الرمادية، بل يتعداه
باتجاه الإقرار بأن فوائد ومحاذير الكثير من المداخلات مازال
مجهولاً، وتوضيح ذلك للمرضى والتعاون معهم لسد مثل تلك الثغرات
المعرفية.
القناعة الرابعة هي أن فهم مبادئ البحث العلمي الصحيح ضروري
ليس للطبيب والباحث والمدير فحسب، بل أيضاً لأي مريض أومواطن
عادي، بسبب ما لهذه المبادئ من انعكاسات على صحتهم. فالمرضى
يجب أن لايبقوا متلقين سلبيين للرعاية الصحية، ومتفرجين بانتظار
أبحاث جديدة قد تكون مفيدةً لهم. بل يجب أن يعملوا على قلب مشاآلهم
الصحية إلى مشاريع للبحث العلمي، وأن يساعدوا في تنفيذ التجارب
وفي تطبيق نتائجها. ورغم أن آلمة تجريب توحي بأن الطبيب ليس
٥
متأآداً من أفضل علاج لحالة مرضية ما، فإنه يجب الاعتراف بأن
ذلك هو الواقع، وبأنه لابد من التجريب في آثير من الأحوال للتعرف
على العلاج المناسب. ولكن ليس التجريب عن طريق وصف علاج
رمادي وإدعاء المعرفة بأصله وفصله زوراً وبهتاناً، بل التجريب
العلمي العلني الشفاف الخاضع للمراقبة العلمية والأخلاقية.