الصرع .. مرض عصبي
مرض "الصرع" .. لاشك أن هذه الكلمة لها وقع خاص غير مرغوب لدى كثير من الناس ويرتبط سماعها بشيء من الرهبة لكنه بالنسبة للأطباء بصفة عامة، والمتخصصين منهم في مجال الأعصاب والطب النفسي لا يعني سوى أحد الأمراض العصبية المألوفة ..
وهنا في هذا الفصل من الكتاب نقدم تعريفاً بمرض الصرع ونظرة عامة على الصرع كحالة مرضية وكيفية حدوث نوبات الصرع، ثم نعرض نبزه تاريخية عن المرض من خلال معلومات وردت في المراجع الطبية.
أكثر الأمراض العصبية انتشاراً:
يعتبر الصرع في الواقع اكثر الأمراض العصبية انتشاراً، حتى أن اتجاهاً قوياً ظهر في دول كثيرة لإيجاد مراكز متخصصة تهتم برعاية وتشخيص وعلاج مرضي الصرع، علاوة علي ظهور تخصص طبي مستقل عن هذا المرض (علم الصرع Epileptology)، وجمعيات تهتم بمختلف جوانبه في بعض بلدان العالم.
والصرع Epilepsy هو بصفة عامة نوبات تصيب بعض الناس نتيجة لخلل مؤقت في وظيفة الجهاز العصبي، وما يظهر علي مريض الصرع ليس سوى النتيجة النهائية لهذا الاضطراب، فقد يفقد الوعي بما حوله، أو يسقط بصورة مفاجئة في أي مكان أو تظهر عليه أي علامات غريبة، أو يقوم ببعض الحركات دون أن يدرى في الوقت الذي يكون فيه تحت تأثير النوبة، هذا ما يحدث ببساطة لكن هذه الحالة لاشك تشكل معضلة هامة، ولها جذورها وأسبابها وعواقبها وآثارها الهامة التي تؤثر في حياة المريض ومن حوله بصورة عميقة.
والخلاصة أن ما نراه بالفعل هو المحصلة النهائية لاضطراب النشاط الكهربائي والكيميائي داخل مخ الإنسان، وهو الصرع.
الأمراض العصبية والطب النفسي:
وقبل أن نمضي في التعريف بمرض الصرع الذي هو موضوع هذا الكتاب،ونبدأ في ذكر تفاصيل دقيقة عنه، نجد أنه من المهم أن نلقي نظرة عامة علي الأمراض العصبية والنفسية والتي أرى بحكم تخصصي في الطب النفسي،أنها الأكثر أهمية بين التخصصات الطبية المختلفة مثل الجراحة وأمراض النساء والطب الباطني ولا غرابة في ذلك فهناك من يعتبر هذه الأمراض التي تؤثر علي الجهاز العصبي والحالة النفسية هي "الأم" لما عداها من الحالات في جميع المجالات الأخرى.
ولعل ذلك يفتح الباب لمناقشة إحدى القضايا القديمة التي تعتبر أن الطب النفسي والعصبي يرتبط بجميع مجالات الطب، بل يتعداها إلي علوم أخرى خارج المجال الصحي وبعيدة تماماً عن الطب مثل النواحي الاجتماعية، والأمور الخاصة بالبيئة والعلاقات والتقاليد والعقائد والعادات، بل لا نبالغ إذا ذكرنا وجود ارتباط بين هذا التخصص وبين تراث الآداب والفلسفة والفنون في نفس الوقت.
وفي البداية تميزت الممارسة الطبية بنوع من الشمول، حيث يتم تناول الحالة كوحدة متكاملة وعلاج كل ما يعاني منه بالطرق التي كان يستخدمها الإنسان في ذلك العصر من الأعشاب والنباتات الطبيعية أو الطرق الروحية وتأثير الإيحاء، وكانت هذه الوسائل البسيطة ذات فعالية كبيرة في علاج كثير من أمراض الإنسان، ولقد أطلق علي الطبيب في أوقات سابقة لفظ "الحكيم" حيث كان عليه أن يستخدم كل ما لديه من خبرة وحكمة وحسن تصرف في علاج مرضاه، ولعل ذلك الوصف لا يزال يستخدم حتى الآن في بعض الأماكن تأثراً بهذا التراث.
ثم اتجه الطب بعد ذلك إلي التخصص وتم الفصل بين مختلف مجالات الممارسة الطبية للتأكيد علي إتقان كل فروع الطب بصورة مستقلة، وهذا شئ جيد، إلا أن الحاجة إلي الربط بين مختلف التخصصات الطبية قد عادت إلي دائرة الاهتمام من جديد حيث برزت الحاجة إلي تناول حالة كل مريض بصورة شاملة، فبالنسبة لمرض كالصرع مثلاً،وهو مصنف كأحد الأمراض العصبية، لابد أن نأخذ في الاعتبار الحالة الصحية العامة للمريض، ووجود أمراض أخرى مصاحبة يشكو منها، وظروفه المنزلية، ووضعه بالنسبة للأسرة، وفي المدرسة أو العمل وتاريخه المرضي السابق منذ ولادته وكل ما يؤثر في حالته الصحية والنفسية، وإذا أغفلنا أي من هذه الجوانب عند تناول الحالة ربما لا يمكننا وضع يدنا علي أسباب الحالة وجذورها وبالتالي لا نتمكن من التعامل مع المشكلة وعلاجها بطريقة سليمة.
مرض الصرع في التاريخ:
يعد الصرع أحد أقدم الأمراض التي عرفتها الإنسانية، وقد أطلق عليه قديماً "المرض المقدس"، وأحاطت به أساطير شتي تنسبه إلي غضب الآلهة، وذلك كما ورد في تراث قدماء المصريين والإغريق والرومان وكان من أشهر من ذكر أنه أصيب بهذا المرض "قمبيز" ملك فارس، ولعل ابقراط (350 ق م) أبو الطب هو أول من نزع عن الصرع قدسيته، فقد ذكر أنه مرض كسائر الأمراض الأخرى له أسبابه وخصائصه وعلاجه الطبي.
ورغم مرور سنوات طويلة وعصور مختلفة تراكمت خلالها الخبرات والمعلومات الطبية نتيجة الدراسة والملاحظة علي يد عظماء الأطباء من العرب والغربيين علي حد سواء، ورغم ما توصل إليه الإنسان في مجال العلوم الطبية من إنجازات، لا يزال الصرع واحداً من اكثر الأمراض التي تحيط بها الخرافات والأوهام التي ظلت ماثلة في أذهان الناس حتى يومنا هذا، فهناك من يربطه بالأرواح الشريرة أو ينسبه إلي تأثير السحر أو مس الجن وفعل العفاريت !
نبذة تاريخية:
يمتد تاريخ الطب إلي عصور قديمة للغاية،والدليل علي أن الأمراض العصبية كانت معروفة للأقدمين ما وجده علماء الآثار حين عثروا علي جماجم بشرية بها ثقوب وفتحات تدل علي إجراء عمليات جراحية في رأس المريض تماماً مثل ما يحدث في الوقت الحالي، والدليل علي أن هذه العمليات أجريت أثناء حياة هؤلاء الناس هو علامات التئام العظام في هذه المواضع مما يعطي انطباعاً بنجاح بعض هذه العمليات وبقاء المرضي أحياء بعدها لمدة من الزمن.
وفي ما ترك ليصل إلينا من تراث قدماء المصريين مسجلاً علي أوراق البردي التي تم اكتشافها، والتي يرجع تاريخ بعضها إلي عدة آلاف من السنين قبل الميلاد، والتي وجد عند فك رموزها أنها تحتوى علي معلومات طبية فيها وصف لكثير من الأمراض يوضح محاولة الإنسان في ذلك الوقت لفهم هذه الأمراض، كما تحتوى علي وصف بعض طرق العلاج وأنواع من الأدوية وكيفية استخدامها.
ومن هذه البرديات الشهيرة بردية "ايبرس" التي تحتوى علي معلومات طبية عن كثير من الأمراض وعلاجها، وسميت كذلك نسبة إلي العالم الألماني الذي اكتشفها في صعيد مصر،ويرجع تاريخها إلي عام1550قم ولا تزال هذه البردية في متحف ليبرج وتحتوى علي 811 وصفة طبية وطولها حوالي 20 متراً بعرض 30 سم، وعدد سطورها 2289 سطراً، كما توجد برديات أخرى تحتوى علي معلومات طبية مثل بردية "هيرست" وبردية "برلين" كما أن هناك برديات عربية تحتوى علي وصفات للعلاج بالأعشاب والنباتات لبعض الأمراض.
ومع التطور الطبي والإنجازات التي شهدتها كل العلوم مثل التشريح ووظائف الأعضاء وما ترتب علي ذلك من فهم لدور الجهاز العصبي في الإنسان، فقد أمكن معرفة أسباب كثير من الأمراض العصبية، ودراسة الخلل الذي يصيب المخ والأعصاب وتشخيص طبيعته وموضعه، مما يسهم في وضع الأسلوب الأمثل للعلاج إضافة إلي التطور الهائل الذي شهده النصف الثاني من القرن العشرين في طرق العلاج والأنواع الحديثة من العقاقير ذات الفعالية العالية، مما جعل عملية التشخيص والعلاج في العصر الحالي تصل إلي مستوى متقدم للغاية.
انتشار مرض الصرع:
بالنسبة للصرع فإن الاهتمام به يرجع لكونه أكثر الأمراض العصبية انتشاراً، وليس ذلك مجرد انطباع ولكنه حقيقة تؤكدها الأرقام والسؤال الآن هو:
هل يعتبر الصرع أحد الأمراض الشائعة أم أنه نادر الحدوث ؟
والإجابة علي هذا التساؤل من الأهمية بمكان، فالانتشار الواسع لأي مرض علاوة علي طبيعة هذا المرض ومضاعفاته هي الأمور التي يترتب عليها الاهتمام الطبي بهذا المرض وتحديد موقعه ضمن المشكلات الصحية التي لها الأولوية في وضع برامج الوقاية والعلاج.
إحصائيات وأرقام عن الصرع:
لغة الأرقام لا تكذب،وهي دائماً التقدير الدقيق لحجم المشكلة بعيداً عن أي انطباع، فما ذكرناه بالنسبة للانتشار الواسع لمرض الصرع والذي يضعه في موقع الصدارة بالنسبة لجميع الأمراض العصبية الأخرى فإن الأرقام تذكر أن هذا المرض يصيب نسبة تقع بين 0,5 إلي 1% من عدد السكان طبقاً للإحصائيات التي أجريت في بلدان مختلفة،ورغم أن أحداً لا يستطيع أن يدعي أنه يعلم علي وجه الدقة عدد حالات الصرع في معظم بلاد العالم الثالث حيث لا توجد إحصائيات دقيقة فإن الانطباع العام من واقع أعداد المرضي الذين يزورون العيادات والمستشفيات يؤكد أن الصرع يأتي في مقدمة الأمراض العصبية التي يعالجها الأطباء في العيادات والمستشفيات والمراكز الصحية ؟
ومعني رقم 0,5 إلي 1% بالنسبة لعدد السكان في مصر أن حوالي نصف مليون شخص مصابون بمرض الصرع، ويصل عدد مرضي الصرع طبقاً للإحصائيات إلي اكثر من مليون شخص في الولايات المتحدة، وتدل الأرقام أيضاً علي أن عدد الحالات الجديدة من مرض الصرع يصل إلي 100 حالة في كل 100 ألف من السكان.
الصرع في الصغار والكبار:
تدل الأرقام أيضاً علي انتشار الصرع في كل الأعمار تقريباً بنسب متفاوتة، ففي الأطفال دون الخامسة أي قبل مرحلة المدرسة تزيد نسبة حدوث الصرع بنسبة تصل إلي أكثر من ثلاثة أضعاف حدوثه في البالغين فنسبة حدوث الصرع في الأطفال دون الخامسة تقدر بحوالي 150 في كل 100 ألف، بينما تقل هذه النسبة إلي حوالي 40 في كل 100 ألف في مرحلة العمر بين 20 إلي 70 سنة وتأخذ نسبة حدوث الصرع في التزايد في مرحلة الشيخوخة بعد سن السبعين لأسباب أخرى لتصل إلي أكثر من 75 في كل 100 ألف وهذا يدل علي أن الصرع يصيب الأطفال والشيوخ بنسبة اكبر من حدوثه في البالغين في مرحلة منتصف العمر.
ومما يؤكد أهمية الصرع أنه عند تحديد أهم الأمراض التي تصيب الشباب في أمريكا وكندا كان الصرع أحد هذه الحالات وقد احتل مرتبة ضمن الأمراض الخمسة الأولي هناك، وفي دراسة علي أطفال المدارس في إنجلترا تم تقدير عدد المصابين بالصرع بحوالي 100 ألف طفل، أي ما يكفي لملء إستاد "ويمبلي " الشهير في لندن !
بين الرجل والمرأة:
يهمنا أن نعرف أيهما أكثر lv عرضة للإصابة بمرض الصرع .. الرجل أم المرأة ؟ والحقيقة أن كثير من الأمراض العصبية والنفسية تتفاوت درجة الإصابة بها وانتشارها بين الرجل والمرأة، فهناك بعض الأمراض تصيب الرجال فقط رغم أنها تنقل إليهم عن طريق المرأة التي تحمل الصفة الوراثية ولا تبدو عليها علامات المرض مثل بعض حالات ضمور العضلات التي تصيب الأطفال من الذكور فقط، وهناك حالات أخرى مقصورة علي الإناث مثل تلك المتعلقة بالحمل والولادة، وحتى الأمراض التي تصيب الجنسين بصفة عامة يلاحظ تفاوت في عدد الحالات بين الرجال والنساء ، مثال ذلك مرض الاكتئاب النفسي الذي يحدث في المرأة بنسبة تزيد علي ثلاثة أضعاف حدوثه بين الرجال، بينما تكثر حالات إصابة الرأس من الحوادث المختلفة في الرجال نتيجة لتعرضهم للإصابة أثناء أداء الأعمال الشاقة والتنقل والسفر.
أما بالنسبة للفرق بين الرجل والمرأة في مرض الصرع فإن الإصابة بالمرض وانتشاره يرتبط بمراحل العمر، ففي الأطفال قبل الخامسة تكون إصابة البنات بالصرع أكثر من الأولاد، وفي فترة العمر من الخامسة وحتى العاشرة يكون انتشار المرض بنسبة متساوية بين الذكور والإناث، أما في العقد الثاني من العمر أي من العاشرة وحتى سن العشرين فتكون حالات الصرع أكثر في الفتيات عن الذكور من الشباب بنسبة 3:4، أما في البالغين فوق سن العشرين فإن نسبة الصرع في الرجال تكون أكثر منها في النساء بمقدار الضعف، وربما كان سبب ذلك كثرة تعرض الرجال للإصابة كما ذكرنا وينتج الصرع عن إصابات الرأس كإحدى مضاعفاتها.
حقائق وإحصائيات أخرى:
قد نجد في الأرقام التي ذكرناها إجابة علي بعض التساؤلات حول مدى انتشار مرض الصرع، وحول حجم وطبيعة المشكلة ويكفي أن نعلم لتأكيد ذلك أنه رغم أن الصرع هو أكثر الأمراض العصبية انتشاراً من واقع الأرقام التي تؤكد أنه يصيب ما يقرب من 0,5 إلي 1% من الناس، فإن الانتشار الحقيقي للمرض قد يفوق ذلك، فمن واقع إحصائيات المرضي الذين يترددون علي عيادات الأمراض العصبية والنفسية، وأولئك الذين يترددون علي الأطباء الممارسين في المراكز الصحية نجد أن حوالي 75% من مرضي الصرع يراهم فقط الطبيب العام وليس الأخصائي.
وفي الإحصائيات التي تهتم بانتشار المرض بين طلبة المدارس يصعب حصر التلاميذ المصابين بالصرع حيث لا يذهب بعضهم إلي المدرسة بسبب مضاعفات المرض، لكن الإحصائيات التي أجريت
علي المرضي المترددين علي العيادات الخاصة بأمراض المراهقين أثبتت أن الصرع يشكل ما يقرب من 65 % من الأمراض العصبية و حوالي 10% من كل الحالات التي تتردد علي هذه العيادات، كما تدل إحصائيات أخرى علي أن الصرع أحد الأسباب الرئيسية للإعاقة للأطفال والمراهقين حيث يتسبب في أكثر من ثلث حالات الإعاقة العقلية.
أسباب الصرع
حين نبحث عن أسباب مرض الصرع نجد قائمة طويلة من الأسباب التي تنشأ عنها حالات الصرع، لكن السبب الحقيقي يبقي غير معلوم في الغالبية العظمي من الحالات بما يزيد عن 75% من مرضي الصرع لذلك أطلق علي هذه الحالات "الأولية" Primary أو غير معروفة السببIdiopathic ، أو التي لا يوجد لدى المريض عند فحصه بدقة أي خلل عضوي، والواقع أن هناك خلل ما حتى في هذه الحالات التي يطلق عليها الأولية لكن المشكلة تكون في اكتشافه والتعرف عليه، أما في البقية من الحالات والتي يطلق عليها الثانوية فإن الخلل العضوي في المخ والذي يمكن أن يتسبب في الصرع يكون من الوضوح بحيث يمكن بالفحص الطبي والتصوير بالأشعة التوصل إلي تشخيصه.
انتقال الصرع بالوراثة:
دائما ما نتوجه بهذا السؤال إلي كل مريض في عيادة الأمراض العصبية والنفسية:
هل هناك من أفراد الأسرة أو من الأقارب أي شخص لديه نوبات تشنج أو يعالج من حالة صرع ؟
ورغم أن الانتقال الوراثي لمرض الصرع من جيل إلي جيل ليس من الأمور المؤكدة إلا أن كثير من الدراسات قد أجريت في هذا الاتجاه، منها دراسة العالم "لينوكس Lennox" للتوائم المتشابهة حيث وجد أن إصابة أحدهما بالصرع غالباً ما تعني أن التوأم الآخر سوف يصاب بنفس الحالة، وفي دراسة أخرى تم فحص عدد كبير جداً يزيد علي 12 ألف من أقارب الدرجة الأولي لمرضي الصرع من الأخوة والأبوين والأبناء، وقد تبين أن مرض الصرع يزيد حدوثه لدى هؤلاء الأقارب بمعدل خمس مرات أكثر من الأشخاص العاديين.
أما المشكلة الأكبر التي كثيراً ما تواجهني في العيادة حين تسألني زوجة مريض الصرع:
هل تعني إصابة زوجي بالصرع أن أطفالنا سوف يصابون به أيضاً ؟ .. أستطيع أن أتبين القلق الذي يساور كثير من الناس حول هذه النقطة، أي إمكانية انتقال المرض إلي الأبناء بالوراثة، والحقيقة العلمية التي أستطيع تأكيدها في هذا المجال هي أن إمكانية إصابة أي من أطفال مريض الصرع بالمرض ضئيلة للغاية، وليس ذلك الكلام لمجرد بث الاطمئنان لدى المريض وأسرته، ولكن فرصة أطفال مرضي الصرع في أن تكون حياتهم طبيعية تماماً دون الإصابة تصل إلي 39 مرة من كل 40 طبقاً لإحصائيات موثوق بها، وهذا معناه ببساطة شديدة أننا إذا افترضنا أن أحد مرضي الصرع قد تزوج وأنجب عدد من الأطفال يصل إلي أربعين طفلاً ـ وهذا افتراض نظري بالطبع ـ فإن واحداً فقط من كل هذه الذرية سوف تظهر عليه أعراض المرض!!
تفكير الأطباء في الأسباب المحتملة للصرع:
تشبه الطريقة التي نفكر بها في العيادة عملية حل لغز أو مسألة حسابية،أو الطريقة التي يعمل بها رجال البوليس لكشف غموض جريمة ما،ذلك أن علينا أن نكشف عن طبيعة المرض،ومكان الخلل وكيف حدث، ومن الفاعل، فقد يكون السبب في المرض العصبي كالصرع هو إصابة قديمة بالرأس من أثر السقوط أثناء اللعب منذ عدة سنوات أو الإصابة بمرض أو حمي في الطفولة وهذه أسباب لا دخل للمريض فيها وغالباً ما يكون قد نسي كل شئ عنها بسبب طول المدة واعتقاده أن هذه أمور حدثت في الماضي ومرت بسلام .
والواقع أننا دائماً ما نفكر في السبب المحتمل علي ضوء سن المريض المصاب بالصرع، ففي حالة الأطفال الرضع الذين لم يكملوا بعد العام الثاني من العمر يكون الاحتمال الأول في سبب إصابتهم بالتشنجات في هذه السن بعض العيوب الخلقية في تكوينهم أو إصابة حدثت نتيجة للضغط علي الرأس أثناء عملية الولادة، أما في الأطفال الأكبر سناً (من عمر 2 حتى 10 سنوات) فإن السبب الأول الذي نفكر في انه وراء حدوث التشنجات هو ارتفاع درجة الحرارة عند الإصابة بالحمى أو نتيجة لإصابة الرأس عند السقوط علي الأرض أو الارتطام أثناء اللعب.
وفي مرحلة العمر التالية (من 10 ـ 20 عاماً) والتي تتميز بحدوث تغييرات فترة المراهقة فإن أول الاحتمالات التي يفكر بها طبيب الأمراض العصبية والنفسية هو أن تكون الحالة من النوع الأول غير معلوم السبب أو نتيجة للإصابات والحوادث، وفي الشباب (من عمر 20 حتى 35 سنة) يكون احتمال وجود ورم داخل المخ هو أحد الافتراضات الهامة التي يضعها الأطباء في حسابهم عند مواجهة حالات الصرع، أما في فترة منتصف العمر (من سن 40 حتى 60 عاماً)، وكذلك في المرحلة التي تليها وهي مرحلة تقدم السن أو الشيخوخة فيكون مرض تصلب الشرايين الذي يؤدى إلي اضطراب في الدورة الدموية التي تمد الجهاز العصبي بالغذاء والأكسجين السبب الأول في حدوث تشنجات إضافة إلي احتمالات وجود أورام بالمخ ينشأ عنها نوبات الصرع.
إصابات الرأس .. ونوبات الصرع:
ما أكثر الناس الذين يتعرضون للإصابة نتيجة ارتطام الرأس عند السقوط علي الأرض لأي سبب، أو لاصطدام الرأس بأي شئ صلب ولو أن أي منا حاول استرجاع شريط المناسبات التي تعرض فيها رأسه لمثل هذه الإصابات منذ الصغر فإنه سيدهش حقاً كيف أن كل تلك الإصابات لم تؤثر عليه ولم تتسبب له بأي خلل في المخ والأعصاب لكن علينا هنا أن نتذكر أن الجمجمة وهي قلعة صلبة حصينة تعمل علي تأمين المخ من المؤثرات الخارجية التي يفترض أن كل إنسان سوف يتعرض لها، لكن متانة هذه الحماية ليست مطلقة، حيث يتأثر المخ أحياناً ببعض الإصابات وينشأ عن ذلك خلل يتراوح بين اضطراب وظيفته لوقت قصير وبين الاضطراب الشديد الذي يؤدى أحياناً إلي الوفاة.
ومن أمثلة هذه الإصابات التي نشاهدها في العيادة والتي ينشأ عنها نوبات الصرع بعد فترة قصيرة أو بعد عدة سنوات إصابات حوادث السيارات، والشباب الذين يقودون الموتوسيكلات وشخص ينهض فجأة من وضع الجلوس فيصطدم رأسه بشباك زجاجي مفتوح فوق الكرسي الذي كان يجلس عليه، وآخر اختل توازنه وهو ينزل علي السلم بسرعة فسقط علي ظهره حين انزلقت قدمه علي قشرة موز واصطدم رأسه بدرج السلم بشدة، وذلك إضافة إلي إصابات الحروب حيث أعرف أشخاصاً أصيبوا أثناء الحرب بكسور وجروح خطيرة من جراء قذائف وشظايا اخترقت الجمجمة ومنها ما يؤدى إلي مضاعفات خطيرة وبعض هذه الإصابات يؤدى إلي الوفاة أو إلي إعاقة دائمة.
وينشأ الصرع في الحالات التي تتعرض للإصابة بنسب متفاوتة فهناك فرق بين الذين يتعرضون لإصابة مغلقة في الرأس ومن تكون إصابتهم مفتوحة أي مصحوبة بجروح وكسور في الجمجمة، إن نسبة حدوث الصرع يزيد احتمالها في الحالة الأخيرة بمقدار 100 مرة عن الحالة الأولي.
وفي نسبة قليلة من الحالات تحدث نوبات الصرع عقب الإصابة مباشرة حيث يؤكد الذين شاهدوا المريض أثناء تعرضه للحادث وإصابة الرأس حدوث التشنجات بعد الإصابة سواء فقد المريض الوعي أم لا وفي مناسبات أخرى لا يحدث أي شئ خلال الحادث أو عقبه حتى أن المريض وأهله لا يذكرون أي مضاعفات حدثت له عند إصابته لكن التشنجات الصرعية تبدأ في الظهور بعد ذلك بمدة طويلة تصل إلي عدة سنوات، ولعل النوبات التي تحدث فوراً عقب الحادث تعطي انطباعاً للأطباء أفضل من تلك التي تظهر بعد وقت طويل نتيجة لتغييرات مرضية ثابتة يصعب علاجها والشفاء منها.
الأمراض والأورام وأسباب أخرى للصرع:
أن الإصابة بأحد الأمراض المعدية التي تسببها البكتريا والفيروسات والتي تؤثر في الجهاز العصبي فتسبب التهاب الغشاء السحائي المحيط به أو التهاب الدماغ غالباً ما ينشأ عنها بعد انتهاء المرحلة الحادة بعض الآثار والمضاعفات ومنها حدوث التشنجات الصرعية إضافة إلي التأثير علي الحركة والحالة العقلية، ومثال ذلك أيضاً حدوث خراج في المخ يسبب التشنجات نتيجة لتأثيره علي أنسجة المخ من حوله ووظائفها، وجدير بالذكر أن كثير من الفيروسات تسبب لنا المرض حين تنقص قدرتنا المناعية فتبدأ هذه الأجسام الدقيقة في مهاجمة خلايا الجسم وأنسجته وتظهر أعراض المرض.
وقد تنشأ نوبات الصرع نتيجة لوجود ورم بالمخ في أي مرحلة من مراحل العمر لذلك يتعين أن نضع في اعتبارنا أي أعراض مصاحبة تشير إلي احتمال وجود هذه الأورام مثل الصداع المستمر والقيء وضعف الإبصار إضافة إلي شلل الحركة في بعض الأطراف، ويتم التأكد من هذا الاحتمال بواسطة رسم المخ والأشعة والتصوير المقطعي بالكومبيوتر أو الرنين المغناطيسي وكل هذه أساليب موجودة حالياً للفحص.
ويمكن أن تحدث نوبات التشنج الصرعية نتيجة لاضطراب نشاط المخ حين تنقص كمية الغذاء والأكسجين التي يحملها له الدم، ويحدث ذلك في حالات أمراض الشرايين والدورة الدموية مثل تصلب الشرايين الذي يصيب الرجال والنساء مع تقدم العمر ويتسبب في ضيق مجرى الأوعية الدموية التي تحمل الدم إلي الجهاز العصبي وبقية أنسجة الجسم، أو نتيجة لانسداد بعض الشرايين التي تغذى المخ أو لحدوث نزيف من أحد هذه الأوعية عند الارتفاع الشديد في ضغط الدم.