مع الأسرة في الإسلام خطوة بخطوة
إن الارتباط الوحيد الذي يبيحه الإسلام بين الرجل والمرأة - هو الزواج - كما تقدم، فهو الطريق الوحيد المشروع في الإسلام. والزواج هو النظام الوحيد الذي يتكفل بتلبية حاجات الإنسان الطبيعية، والإنسانية، كما أنه وحده الذي يحقق الغاية من خلق الإنسان أزواجاً.
وفيما يلي عرض لنظام الزواج الإسلامي وأحكامه والآثار المترتبة عليه وحقوق وواجبات كل من الزوجين:
1. فضل الزواج وحكمه
إن معظم الأنظمة - التي كانت سائدة قبل الإسلام - كانت متطرفة كل التطرف في نظرتها إلى هذه العلاقة.
فهناك أنظمة وضعية تحرم الزواج وتزدري القائمين به وتعتبرهم أقرب إلى الحيوان منهم إلى الإنسان.
وهناك من ينظر إلى الزواج على أنه شرٌّ لا بد منه... إلى آخر تلك النظرات والآراء التي لا نريد أن نطيل بذكرها. فلما جاء الإسلام غيّر نظرة الناس إلى هذه العلاقة، ووضع النظام الكفيل بتحديدها على أحسن الوجوه وأكملها: فأباح الزواج وأذن به وسما به إلى ما هو أكثر من الإباحة فاعتبره سنّة مؤكدة - يثاب عليها فاعلها، ولا يأثم تاركها وذلك بالنسبة للذين لا يخافون على أنفسهم العنت.
أما الذين يخافون على أنفسهم ذلك - فقد جعل الإسلام الزواج بالنسبة لهم فرضاً يأثم تاركه ويثاب فاعله.
ونصح الذين لا يجدون مؤنة الزواج أن يقاوموا نـزعتهم الجنسية بالصبر والصوم والتمسك بالعفاف حتى يتمكنوا من ذلك.
خطب رسول الله (ص) الناس مرة فقال: "يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء"[20].
وجاء قوم إلى بيوت أصحاب الرسول (ص) يسألون عن عبادته: فقيل لهم: بأنه (ص) يصلي من الليل وينام، ويصوم ويفطر، ويتزوج النساء.
فقال أحدهم: أما أنا فأصلي الليل لا أنام أبداً.
وقال الثاني: أما أنا فأصوم الدهر لا أفطر أبداً.
وقال الآخر: أما أنا فلا أتزوج النساء - فبلغ رسول الله (ص) قولهم فقام بالناس خطيباً وقال: "ما بال أقوام قالوا كذا وكذا، لكني أصوم وأفطر وأصلي وأنام، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني"[21].
وقال أيضاً: "المرأة نصف الدين فاتّق الله في النصف الآخر"[22].
ولقد بلغ من حثّ الإسلام على الزواج أن اعتبر عمل الرجل لتلبية حاجات أسرته من مأكل أو ملبس أو مسكن عملاً يثاب عليه.
قال عليه الصلاة والسلام: "واللقمة يضعها أحدكم في زوجته له فيها أجر".
وإذا كان الإسلام قد اعتبر الدنيا متاعاً فقد جعل خير متاعها المرأة الصالحة قال رسول الله (ص): "إن الدنيا كلها متاع، وخير متاع الدنيا المرأة الصالحة"[23].
ومن هنا يتبين لنا أنه لم تبلغ شريعة من الشرائع السماوية أو الوضعية هذا الشأن في الحث على الزواج والتحريض عليه.
2. الاختيار:
لما كان الزواج علاقة دوام واستمرار وليس علاقة عابرة - فقد جعل الإسلام لكل من الزوجين حق اختيار زوجه، وحثهما على هذا الاختيار، وأعانه بإرشاده لهما إلى الأساس القويم الذي ينبغي أن ينبني عليه الاختيار، لكي يضمن دوام العلاقة الزوجية واستمرارها. وأبطل التقاليد التي من شأنها منع هذا الاختيار.
فللمرأة حق اختيار زوجها كما للرجل. قال رسول الله (ص): "البكر تستأذن"، وفي رواية أخرى "الثيب تستأمر والبكر تستأذن" قيل يا رسول الله: إن البكر تستأذن فتستحي. قال: "إِذْنُهَا صَمَاتُهَا"[24].
فلو عقد على فتاة بكر، دون إذنها - كان من حقها أن تطلب فسخ النكاح، جاءت فتاة إلى النبي (ص) فقالت: إن أبي زوّجني من ابن أخيه ليرفع بي خسيه فجعل رسول الله الأمر إليها، وخيّرها بين فسخ النكاح وإمضائه.
فقالت لرسول الله (ص) أجزت ما صنع أبي ولكني أردت أن أعلم النساء أن ليس للآباء من الأمر في شيء[25].
وبالنسبة لما من شأنه أن يديم العلاقة بين الزوجين نذكر هذه الحادثة، جاء أحد أصحاب رسول الله (ص) يخبره بأنه سيتزوج فقال له رسول الله (ص): "هل نظرت إليها؟ قال: لا. قال: فانْظُرْ إلَيْهَا، فإنَّهُ أَحْرَى أَنْ يُؤْدَمَ بَيْنَكُمَا"[26].
أما الأساس الذي أرشد الزوجين أن يبنيا عليه اختيارهما فهو أساس يحمل من القابلية على الاستمرار والدوام أكثر مما يحمل سواء ليتناسب مع الزواج كعلاقة استمرار ودوام ألا وهو الدين والخلق الحسن، فقد ينخدع الإنسان بمظاهر زائفة براقة وخادعة كالجمال أو المال أو الجاه أو الحسب فوضح الإسلام أن هذه الأمور كلها لا تجدي في الزواج، ولا تجعل منه علاقة دائمة، وإنما الأساس الذي ينبغي أن ينظر إليه كل من الزوجين هو الأساس الذي يضمن دوام العلاقة واستمرارها بالمعروف، أو فصمها بالمعروف أيضاً إن لم يكن من الانفصام بد. وليس هناك شيء يحقق ذلك كالدين، والتخلق بآدابه وتعاليمه، فالمتدين رجلاً كان أو امرأة بحكم تمسكه بدينه لا يتجاوز الحدود ولا يتعدى على حق غيره فإن شعر بالانسجام مع زوجه أحس إليه فسعدا بعلاقتهما، وإن شعر بضده فلا يخشى منه أن يظلم زوجه، ويعتدي عليه، وإن أحسّ بضرورة الفراق فإن هذا الفراق سيتم بالمعروف أيضاً. قال الله تعالى: وَلاَ تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلاَ تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ...[27].
وقال رسول الله (ص): "لاَ تَزَوَّجُوا النِّسَاءَ لِحُسْنِهِنَّ. فَعَسى حُسْنُهُنَّ أَنْ يُرْدِيَهُنَّ. وَلاَ تَزَوَّجُوهُنَّ لأَمْوَالِهِنَّ. فَعَسى أَمْوَالُهُنَّ أَنْ تُطْغِيَهُنَّ. وَلكِنْ تَزَوَّجُوهُنَّ عَلَى الدِّينِ. وَلأَمَةٌ خَرْمَاءُ سَوْدَاءُ ذَاتُ دِينٍ، أَفْضَلُ"[28]. وقال عليه الصلاة والسلام أيضاً: "تُنْكَحُ النساءُ لأَرْبَعٍ، لِمَالِهَا وَلِحَسَبِهَا، ولِجَمَالِهَا وَلِدِيْنِهَا، فاظْفَرْ بَذَاتِ الدِّينِ تَرِبَتْ يَدَاكَ"[29] ولما كانت المرأة قد تغلب عليها العاطفة - فيقع اختيارها على من ليس لزواجها أهلاً فقد جعل الاسم لأوليائها حق الاعتراض على الرجل الذي تختاره فتاتهم شريطة أن يكون اعتراضهم وجيهاً من وجهة نظر الإسلام، ولما كان الإسلام قد اعتبر أساس الاختيار هو الدين إذن فيكون للأهل حق الاعتراض على اختيار فتاتهم إذا وقع اختيارها على كافر أو ملحد، أو مرتكب لجرائم، وأما المتدين المسلم فهو كفؤ لكل مسلمة لا يكون الاعتراض على اختياره إلا من قبيل النصح والإرشاد.
3. الخطبة:
بعد أن ينتهي مريدا الزواج من اختيار كل منهما للآخر - يأتي دور الخطبة. وقد أباح الإسلام للرجل أن يخطب أية امرأة يحل له زواجها. وكل امرأة مسلمة أو كتابية يحل له زواجها ما لم تكن من محرمات النسب أو الرضاع أو المصاهرة أو المعتدات من طلاق أو وفاة أو المخطوبات للغير.
ومحرمات النسب - هنّ الأمهات وإن علون، والبنات وإن نـزلن، وفروع الأبوين وإن بعد والعمات والخالات. قال الله تعالى: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالاَتُكُمْ وَبَنَاتُ الأَخِ وَبَنَاتُ الأُخْتِ...[30].
ومحرّمات الرضاع كل ما يحرم من النسب.
ومحرمات المصاهرة: أصول الزوجة وإن علون، وفروعها وإن بعدت درجتهن، وزوجة الأب والجد من الجهتين، وزوجة الابن أو ابنة أو ابن البنت.
قال تعالى: ... وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللاَّتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللاََّّتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ وَحَلاَئِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلاَبِكُمْ...[31].
وكذلك يحرم الجمع بين الزوجة وأختها أو خالتها.
قال تعالى: ... وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الأُخْتَيْنِ...[32].
وقال أيضاً: وَلاَ تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاءَ سَبِيلاً[33].
ويلحق بمحرمات المصاهرة الدخول بالمرأة بناء على زواج فاسد - فتحرم على الرجل أصول تلك المرأة وفروعها.
كذلك يحرم الدخول بشبهة أصول المرأة وفروعها. وقد جعل بعض العلماء الزنا بالمرأة محرماً لأصولها وفروعها أيضاً.
وأما المعتدات - فهن - المرأة التي طلقها زوجها وتعتد إن كانت حاملاً بوضع الحمل أو بثلاثة قروء فهذه لا تجوز خطبتها أثناء العدة.
كذلك لا يجوز خطبة من مات زوجها أثناء العدة وهي وإن كانت حاملاً بوضع الحمل، وإلا فعدتها أربعة أشهر وعشرة أيام.
وكذلك تحرم خطبة المخطوبة للغير حتى يعلن التخلي عنها.
قال عليه الصلاة والسلام: "لا يخطب الرجل على خطبة أخيه ولا يسوم على سوم أخيه"[34].
ومن عدا ما ذكرنا من النساء يحق للرجل أن يخطب من شاء منهن. وما ينبغي ذكره هنا: إن الخطبة قد يجوز الإسلام فيها نظر كل من الخطيبين إلى خطيبته، ولكنه حرّم عليهما الاختلاط والخلوة والخروج معاً للنـزهة أو سواها ما لم يبرم عقد الزواج.
4. المهر:
أما المهر فهو الصداق الذي يقدمه الزوج لزوجته عند العقد. وقد يقدم كاملاً أو على قسمين: قسم معجل يقدم ساعة العقد وآخر مؤجل يكون في ذمة الزوج.
ولقد حثّ الإسلام على تيسير المهر وعدم المغالاة به فقال رسول الله (ص): "خير الصداق أيسره"[35] وقال: "إِنَّ أَعْظَمَ النِّكاحِ بَرَكَةً أَيسَرُهُ مَؤُنَةً"[36].
ولقد بلغ من حرص الإسلام على تيسير تكاليف الزواج أن أباح رسول الله الزواج على صداق معنوي لمن لم يجد من المال ما يمكن أن يكون صداقاً مادياً. جاء فقير معدم من المسلمين يريد أن يتزوج فسأله رسول الله (ص) عن الصداق؟ فأخبره بأنه لا يملك شيئاً فقال له: "التمس ولو خاتماً من حديد" ففتش الرجل فلم يجد حتى خاتم حديد، فسأله رسول الله (ص) إن كان معه شيء من القرآن. أي نظير تعليمها ما يحفظه من كتاب الله وهكذا يدفع الإسلام أبناءه نحو الاقتران الشرعي بالقضاء على سائر المعوقات التي تحول دونه، وتيسير سبيله.
5. العقد:
لا يتم عقد النكاح إلا بإيجاب وقبول كأن تقول الزوجة أو وكيلها أو وليها المفوض من قبلها "زوجتك نفسي" أو موكلتي أو ابنتي أو أختي ويقول الزوج أو وكيله أو المفوض من قبله "قبلت" وصيغة الإيجاب والقبول تكون بأي لفظ يدل على الزواج وقبوله.
ولا بد من حضور شاهدين على عقد الزواج على الأقل وولي للمرأة من أب أو جد أو أخ أو عم إن وجدوا ويقوم الحاكم مقام هؤلاء إن لم يوجدوا أو كانوا معارضين للزواج دون مبرر شرعي لأن الحاكم ولي من لا ولي له.
6. آثار العقد:
بمجرد إبرام العقد تترتب الآثار الزوجية وهي كما يلي:
أ. الحقوق المشتركة بين الزوجين وهي ثلاثة:
أولاً: حل العشرة الزوجية والاتصال الجنسي بين الزوجين.
ثانياً: حرمة المصاهرة التي أشرنا إليها سابقاً.
ثالثاً: التوارث بين الزوجين فإذا ماتت بعد العقد ورثها وإذا مات هو ورثته.
ب. حقوق الزوج:
أولاً: الطاعة والقرار في بيته إلا بإذنه.
ثانياً: حفظه في ماله ونفسه.
ج. حقوق الزوجة:
1. نفقة الطعام والكساء قال تعالى: )... وَعَلَى الْمَولُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ...( وقال (ص): "ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف".
2. نفقة المسكن وأثاثه قال تعالى: )أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ...( وكل ذلك يكون حسب طاقة الزوج وقدرته.
ثالثاً: ثبوت المهر المقدم والمؤخر:
د. هناك أمور كثيرة حثَّ الإسلام الزوجين عليها يمكن أن تعتبر آداباً للزوجية وحسن المعاشرة بين الزوجين، أمر الله بهما ورسوله ونهى عن خلافها يمكن إجمالها بقوله تعالى: )... وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ...( وقوله تعالى: )... وَلاَ تُضَآرُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ( وقال رسول الله (ص): "خياركم خياركم لنسائهم" وقال أيضاً: "خيركم خيركم لأهله". وكثيرة هي النصوص التي حثت الزوجين على التعاون فيما بينهما لتكون منهما الأسرة السليمة المتماسكة التي تكون لبنة متينة في بناء المجتمع.
7. حفل الزفاف:
أوجب الإسلام إقامة حفل زفاف - عند إرادة الدخول - يتناسب وقدرة الزوج المالية وهذا الحفل فيه معان استهدفها الإسلام. ففيه الإعلان عن الزواج، والفرح به، والتفريق بينه وبين العلاقات المحرمة التي تجري في الخفاء، وفيه الترغيب في الزواج والحث عليه بطريق الإيحاء. والأصل فيها قول رسول الله (ص): "لا بد للعرس من وليمة" فقد أولم الرسول عليه الصلاة والسلام بشاة مرة وأولم بتمر وأولم بمدين من شعير. ليس للناس وجوب الوليمة، وعدم التكلف بها، وجعلها على حسب القدرة.
8. قوامة الرجل على المرأة:
يحرص الإسلام في سائر شؤون الحياة التي تناولها بالتشريع على التنظيم الدقيق لكل منها ولما كانت الأسرة اللبنة الأولى في بناء المجتمع أو هي الوحدة الصغرى في المجتمع فقد تولى الإسلام تنظيم بنائها بشكل لا يتطرق إليه الخلل إلا إذا وقع خطأ أو انحراف من أحد الطرفين. ومن مظاهر هذا التنظيم أن جعلت للبيت رئاسة أناطها بالرجل. فرئيس البيت أو القائم عليه مسؤول عن توفير ما يحتاجه البيت ومن فيه من حاجات مادية ومسؤول كذلك عن تأديب من في البيت بأدب الإسلام وحمايتهم من الانحراف. فالرجل إذن هو القيّم على بيته ومن فيه، وحينما أناط الإسلام القوام على المرأة والبيت والرجل فعل ذلك ملاحظاً اعتبارات كثيرة، منها ما أشارت إليه الآية الكريمة: الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ...[37].
فالرجل من ماله يدفع مهر زوجته، وبماله يقيم البيت ويؤثثه، ومن ماله ينفق على ما فيه، فهذه التكاليف لا بد أن يقابلها شيء من الصلاحيات فكانت قوامة الرجل هي الصلاحية المقابلة لتكاليفه.
والأمر الآخر أن الرجل في الغالب أقدر على المرأة من الصمود أمام انحرافات العواطف وتقلباتها، ولا يستطيع أحد أن يكابر أن حماية البيت وصيانته وصيانة من فيه تقع على عاتق الرجل وأنه المؤهل لهذا. ثم إن هذه القوامة التي ذكرت في آية أخرى بصفتها درجة للرجل على المرأة وذلك في قوله تعالى: ... وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ...[38]، ليست قوامة أفضلية الرجل على المرأة، ذلك لأن الإسلام قرر التساوي بينهما فيما يتعلق بالكرامة الإنسانية مساواة تامة. وإنما هي قوامة الإشراف، والدرجة التي يمتاز بها المسؤول عن المسؤول عنه، فليس رئيس الدائرة بأفضل من واحد من مرؤوسيه ولكن له درجة الرئاسة عليهم ولا ينقص من كرامة أي مخلوق أن يعمل بإشراف الرئيس أو جنديّ بقيادة القائد، لأنهم جميعاً متساوون في الكرامة الإنسانية ولكنه التنظيم الذي تفرضه طبيعة الحياة المستقيمة.
كذلك لا تعطي هذه الدرجة للرجل حق فرض استبداد على البيت لا يقام فيه للمرأة وزن لأن البيت ينبغي أن يقوم على التعاون والتشاور بين مؤسسيه، وإنما له القرار الأخير المقيد بالشرع ومصلحة الأسرة.
تعدد الزوجات:
أباح الإسلام للرجل التزوج بأكثر من امرأة واحدة واشترط لذلك شرطين أحدهما العدل بين الزوجات في سائر الأمور الزوجية من نفقة على اختلافها ومعاشرة، وثانيهما القدرة على الإنفاق على نسائه، وتوفير احتياجاتهن ونصح بأن لا يلجأ إلى هذا إلا إذا اضطر، لعدم إمكانية تحقيق العدل في الغالب وفي المحبة القلبية دائماً. حثّ القرآن على الاقتصار على واحدة فقال تعالى: ... فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً...[39]. وقال تعالى أيضاً: وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلاَ تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ...[40] ويقصد هنا العدل في المودة القلبية.
ولما كانت رسالة الإسلام هي الرسالة الخاتمة، وكان محمد - عليه الصلاة والسلام - خاتم النبيين، وكانت هذه الرسالة هي الرسالة التي أراد الله للناس أن يدينوا بها في كل زمان ومكان - كان لا بد وأن يكون فيها من الأحكام ما يلاقي جميع الظروف وسائر الاحتمالات. ولعل تشريع تعدد الزوجات من تشريعات الإسلام القويمة التي وجدت لتلافي شتى الأحوال التي تحدث للبشر في هذه الدنيا.
وهذا التشريع لوحظ فيه جانب المرأة، وحمايتها وصيانتها من السقوط، كما لوحظ فيه جانب الأخلاق العامة للمجتمع. فكثيراً ما تتعرض المجتمعات لزيادة في النساء عن الرجال نتيجة الحروب وما شاكلها فتبقى نساء كثيرات دون زواج ودون معيل، وإذا استطاعت المرأة أن تعيل نفسها بالعمل وكسب قوتها بجهدها، فمن أين تسد حاجتها الطبيعية إلى الأمومة وإلى الجنس؟ لا سبيل إلى ذلك إلا الارتباط برجل، وهذا الارتباط إما أن يكون مشروعاً يحفظ للمرأة كرامتها ويصون للمجتمع أخلاقه ويحفظ أبناءها من الوأد والتشرد، أو الضياع، وإما أن يكون غير مشروع فترتمي المرأة في لحظات خاطفة من ليل أو نهار في أحضان أي رجل، فاقدة كل كرامة متمرغة بالرذيلة، فإن حملت وأدت ابنها أو أسقطته قبل التمام وكبتت غريزة أمومتها التي هي أقوى غرائزها، وإلا فستدفع به إلى الشارع حيث ينشأ مخلوقاً شاذاً لا يعرف له أباً، محروماً من العواطف. ولا شيء غير هذين المصيرين يمكن أن يقدر للمرأة التي لا تجد زوجاً خاصاً بها، حسبما يتفق مع الفطرة والعدل وكرامة المرأة وحاجة المجتمع. لا شك أنه الحل الأول وهذا ما فعله الإسلام.
كذلك هناك حالات أخرى كحالة مرض الزوجة وعقمها، أو إصابتها بأي شيء يحول دون تحقيق الغايات الكاملة. وفي هذه الحالات لا يكون الرجل إلا بين حالتين: حالة التخلي عن زوجته المريضة أو العقيم والبحث عن غيرها، وحالة أخرى هي إردافها بزوجة ثانية تعوض النقص في الأولى. وفي حالة ترك الأولى قد تكون بدون معيل سواه، وقد لا تستطيع أن تواجه أعباء الحياة وحدها، فأيهما أولى به أن تشترك مع امرأة أخرى بزوجها، وتكون مصونة محتفظة بسائر حقوقها؟ أم أن تقذف في الشارع دون مساعد ومعيل؟
لا شك أن الحالة الثانية - هي الحالة التي تحقق للزوجة الأولى مصلحتها. والذي نلاحظه في هذه الحالات أن كثيراً من النساء هن اللواتي يقمن بالبحث لأزواجهن عن زوجات يمنحنهم الأولاد.
لعل هذه الحكم وكثيراً غيرها - هي التي جعلت الإسلام يشرع هذا التشريع الحكيم الذي ينتقده بعض الجهلاء اليوم لا لشيء إلا لأن الغربيين ينتقدوننا عليه - ناسين أو متناسين أن الغربيين الذين يمنعون التعدد قانوناً ويحرمونه أكثر منا تعدداً، ولكن في الحرام لا في الحلال. فهذا هو المستشرق الفرنسي (رنيه) يقول: الواقع يشهد بأن تعدد الزوجات شيء ذائع في سائر أرجاء العالم وسوف يظل موجوداً ما وجد العالم مهما تشددت القوانين في تحريمه ولكن المسألة الوحيدة - هي معرفة ما إذا كان الأفضل أن يشرع هذا المبدأ أو يحدد، أم أن يظل نوعاً من النفاق المتستر لا شيء يقف أمامه ويحد من جماحه.
وكتب (اليوتنان كولونيل كادي) مقالة ترجمتها جريدة النجاح الجزائرية جاء فيها:
"إن تعدد الزوجات تجيزه الشريعة الإسلامية بشروط محدودة، وبالفعل نرى العالم كله يستعمله، وكم بائع خمر من مدينة (تريبون) إن كان ذا ثروة، يكون له بيت مختلف في كل المدن التي تدعوه إليه أموره، نعم من الواضح أن الفرنسوي المثري الذي يمكنه أن يتزوج باثنتين فأكثر وينتج عن ذلك هذا الفرق: أولاد للمسلم الذي تعددت زوجاته متساوون ومعترف بهم - ويعيشون مع آبائهم جهرة بخلاف أولاد الفرنسي الذين يولدون من فرنسي مختلف فهم خارجون عن القانون ومعلوم أن من النادر أن تجد الأزواج الغربيين يقتصرون على زوجاتهم، فهناك السكرتيرات والزميلات وسواهن".
ولعل من الطريف أن نذكر أن كثيراً من النساء الغربيات كن يطالبن بما يشبه التعدد بعد الأزمات التي تذهب بنسبة كبيرة من الرجال، ففي ألمانيا طالبت النساء الألمانيات بتحديد المدة التي تقضيها المرأة الواحدة مع الرجل لتفسح المجال لسواها فيكون الزواج مناوبة بين النساء لقلة الرجال، وقد ألّفن جمعيات نسائية لهذا الغرض.
ولو عرفن مبدأ التعدد الإسلامي لما ترددن في المناداة به بدل زواج المناوبة الذي لا يسد حاجة أكثر ما يسد الزنا مع فارق بسيط[41].
الشقاق بين الزوجين:
لم يترك الإسلام الأسرة عندما تقدم وإنما سار معها مقدراً سائر الاحتمالات التي قد تطرأ على البيت لسبب أو لآخر. فإذا حدث شقاق بين الزوجين ونفر كل منهما عن صاحبه، فالإسلام يأمر باختيار رجل صالح من أهلها وآخر صالح من أهله ليدرسا معاً ما بين الزوجين ويتبينا علل النفرة وأسبابها وينصحا الزوجين ويعالجا الأمر لعل الله يوفق بينهما. وفي هذا يقول الله تعالى: وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلاَحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا[42].
النشوز:
فإن لم تكن المسألة مسألة نفرة وشقاق بينهما وإنما كانت نشوزاً وإعراضاً من أحدهما فقط فإن كان النشوز والإعراض من الرجل فهنا يجب على المرأة أن تستجمع كل ما لديها من ذكاء وفطنة للوصول إلى أسباب إعراض زوجها ونشوزه ومعالجتها ببراعة وحكمة تكفلان لها إعادة زوجها المعرض وقلما تخطئ المرأة في معرفة أسباب إعراض زوجها وهي لن تعوزها الحيلة لمعالجة الأسباب وفي هذا الأمر أنـزل الله قوله تعالى: وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الأَنْفُسُ الشُّحَّ وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا[43].
أما إن كان النشوز في الزوجة فتنكرت لحق زوجها وتعالت عن أداء واجباتها الزوجية فإن الله يأمر الزوج بعلاج حالتها بما يلي:
أ. أن يعظها ويرشدها بالرفق واللين ويبين لها خطأها بأسلوب مناسب لعله يستطيع ردها إلى سبيل الموافقة والوئام.
ب فإن لم يجد إرشاده لها نفعاً فله أن يزجرها ويعرض عنها ولا يكلمها ولا يقربها وهو علاج نفسي - يردع المرأة غالباً ويذل كبرياءها - فإن أعز ما تدل به المرأة أنوثتها وهي السلاح الذي تغزو به الرجل فإذا فلّه لها وأراها من نفسه استمساكاً عنها، وقلّت مبالاته بأنوثتها فقد هزم كبرياءها.
ج فإذا نجح في هذا بإخراجها من نشوزها فبها ونعِمَّت وإلا فله أن يضربها ضرباً يقصد به إهانتها وجرح كبريائها بصورة أكثر من ثورة الهجر وفي هذه الحالة قال الله تعالى: )... وَاللاَّتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلاَ تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا([44].
الطلاق:
إن لم تجد كل وسائل العلاج السابقة - في إصلاح ما بين الزوجين، ووجد أن في بناء هذه الأسرة أموراً لا يمكن إصلاحها - فإن الإسلام يضع حلاً أخيراً لما بين الزوجين يقضي بفك هذه الرابطة التي لا يمكن أن تدوم لأنها فاشلة عاجزة عن تحقيق الأهداف الزوجية. وهذا الحل قد كرهه الإسلام كثيراً وحرص على أن يجعله آخر ما يلجأ إليه حين لا يكون حل سوى ذلك هو الطلاق الذي قال فيه رسول الله (ص): "ما خلق الله شيئاً أبغض إليه من الطلاق"[45].
إن الإسلام قد ندب الرجل إلى إبقاء زوجته وإمساكها حتى في حالة كرهه لها قال تعالى: ... فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا[46] وقال رسول الله (ص): "لا تطلقوا النساء إلاّ في ريبة فإن الله عز وجل لا يحب الذواقين ولا الذواقات[47] ولكن يأذن به حين لا يكون حل سواه".
وإذا كان هناك من يعيب على الإسلام تشريع الطلاق فإنما هو عيب الجهل بفطرة الله، والجهل بالنظام الصحيح لهذه الحياة - فإن هذه الفطرة وهذا النظام لم يلبثا أن فرضا نفسيهما على الذين كانوا إلى عهد قريب يستنكرون تشريع الطلاق فإذا بهم يبيحونه، وبشكل فظيع.
إن الإسلام حين أباح الطلاق - جعله علاجاً لما لا يعالج بسواه، وحفظ فيه لكل من الزوجين حقوقهما وكرامتهما، ولم يجعله أداة للتلاعب بقدسية الزواج كما فعل الآخرون. إننا لا ننكر أن كثيرين من المسلمين أساءوا التصرف بنظام الطلاق، ولكن العيب ليس في نظام الطلاق، ولو أن المسلمين وقفوا عند حدود الله في هذا الأمر وسواه لنعموا وسعدوا بحياة لا مثيل لها عند غيرهم ونحن نأمل أن يزداد الوعي لأحكام الإسلام ونظمه ويزداد تمسك المسلمين بهذه الأحكام ليصلوا إلى السعادة التي ينشدون.
الخلع:
قد يقول قائل إن الإسلام قد جعل للرجل حق الطلاق دون أن يجعل للمرأة مقابله حتى تستعمله إذا ضاقت بها الحياة مع زوجها. فنقول كلا إنه في الوقت الذي يجعل للرجل حق الطلاق جعل للمرأة حق (المخالعة) والخلع هو طلاق على ما تفتدي به المرأة نفسها من زوج لا تريد معه البقاء فتستطيع المرأة مخالعة زوجها بعوض مالي لا يزيد عن المهر الذي قدمه الزوج.
الميراث:
قبل أن ننهي الحديث عن نظام الأسرة رأيت أن لا بد لنا من التطرق إلى نظام المواريث كوسيلة للتكامل العادي بين أبناء الأسرة وكقاعدة من قواعد التكافل الاجتماعي في الإسلام وكوسيلة من وسائل توزيع الثروة وتداول الأموال. ولا نريد الخوض في التفاصيل، فإن تفاصيل هذا الموضوع قد تكفل ببيانها علم مستقل قائم بذاته يسمى بعلم (الفرائض)، ولكننا نبين بعض الخطوط العامة لهذا الأمر.
1. إن التوريث إجباري فلا يستطيع المالك أن يمنع أحداً من مستحقي الإرث حقه كما هو عند غير المسلمين، فإن الإنسان بمجرد أن يمرض مرضاً يجعله قريباً إلى الموت - ينتقل سلطانه من ماله إلى الشارع الحكيم يوزع بموجب نظام التركات وليس للمالك سلطة إلا في الثلث من ماله ليستطيع أن يتدارك فيه حقاً فرط فيه أو يصل أحد أصدقائه أو أقاربه غير الوارثين أو يقيم به مشروعاً خيرياً، أما الثلثان فلا تصرف له فيهما.
2. إن الثروة المتروكة توزع في دائرة الأسرة لأن منافع الأسرة ومعارفها وتبادله. فالقوي يحمي الضعيف والغني ينفق على الفقير وإذن فينبغي أن يكون التوارث في هذه الدائرة. )... وَأُولُو الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ...(.
3. إن تكافل أبناء الأسرة فيما بينهم هو اللبنة الأولى في بناء التكافل الاجتماعي.
4. إن ملاحظة توزيع الإسلام للتركة تبين لنا كيف يتجه الإسلام إلى تفتيت الثروات، فهو لم يجعلها لواحد في الورثة ولم يقصرها على الرجال دون الإناث ولا على طبقة معينة من الأسرة وإنما وزعها توزيعاً دقيقاً عادلاً بين عدد من الورثة يكفل تحقيق أهدافه السامية من هذا التشريع.
وبعد فهذا نظام الأسرة في الإسلام كما شرعه الله - تعالى - لم تصل البشرية قديماً ولا حديثاً ولن تصل مستقبلاً إلى نظام أدق وأحكم منه فتبارك الله مشرعه الذي أحاط بكل شيء علماً.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
إن الارتباط الوحيد الذي يبيحه الإسلام بين الرجل والمرأة - هو الزواج - كما تقدم، فهو الطريق الوحيد المشروع في الإسلام. والزواج هو النظام الوحيد الذي يتكفل بتلبية حاجات الإنسان الطبيعية، والإنسانية، كما أنه وحده الذي يحقق الغاية من خلق الإنسان أزواجاً.
وفيما يلي عرض لنظام الزواج الإسلامي وأحكامه والآثار المترتبة عليه وحقوق وواجبات كل من الزوجين:
1. فضل الزواج وحكمه
إن معظم الأنظمة - التي كانت سائدة قبل الإسلام - كانت متطرفة كل التطرف في نظرتها إلى هذه العلاقة.
فهناك أنظمة وضعية تحرم الزواج وتزدري القائمين به وتعتبرهم أقرب إلى الحيوان منهم إلى الإنسان.
وهناك من ينظر إلى الزواج على أنه شرٌّ لا بد منه... إلى آخر تلك النظرات والآراء التي لا نريد أن نطيل بذكرها. فلما جاء الإسلام غيّر نظرة الناس إلى هذه العلاقة، ووضع النظام الكفيل بتحديدها على أحسن الوجوه وأكملها: فأباح الزواج وأذن به وسما به إلى ما هو أكثر من الإباحة فاعتبره سنّة مؤكدة - يثاب عليها فاعلها، ولا يأثم تاركها وذلك بالنسبة للذين لا يخافون على أنفسهم العنت.
أما الذين يخافون على أنفسهم ذلك - فقد جعل الإسلام الزواج بالنسبة لهم فرضاً يأثم تاركه ويثاب فاعله.
ونصح الذين لا يجدون مؤنة الزواج أن يقاوموا نـزعتهم الجنسية بالصبر والصوم والتمسك بالعفاف حتى يتمكنوا من ذلك.
خطب رسول الله (ص) الناس مرة فقال: "يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء"[20].
وجاء قوم إلى بيوت أصحاب الرسول (ص) يسألون عن عبادته: فقيل لهم: بأنه (ص) يصلي من الليل وينام، ويصوم ويفطر، ويتزوج النساء.
فقال أحدهم: أما أنا فأصلي الليل لا أنام أبداً.
وقال الثاني: أما أنا فأصوم الدهر لا أفطر أبداً.
وقال الآخر: أما أنا فلا أتزوج النساء - فبلغ رسول الله (ص) قولهم فقام بالناس خطيباً وقال: "ما بال أقوام قالوا كذا وكذا، لكني أصوم وأفطر وأصلي وأنام، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني"[21].
وقال أيضاً: "المرأة نصف الدين فاتّق الله في النصف الآخر"[22].
ولقد بلغ من حثّ الإسلام على الزواج أن اعتبر عمل الرجل لتلبية حاجات أسرته من مأكل أو ملبس أو مسكن عملاً يثاب عليه.
قال عليه الصلاة والسلام: "واللقمة يضعها أحدكم في زوجته له فيها أجر".
وإذا كان الإسلام قد اعتبر الدنيا متاعاً فقد جعل خير متاعها المرأة الصالحة قال رسول الله (ص): "إن الدنيا كلها متاع، وخير متاع الدنيا المرأة الصالحة"[23].
ومن هنا يتبين لنا أنه لم تبلغ شريعة من الشرائع السماوية أو الوضعية هذا الشأن في الحث على الزواج والتحريض عليه.
2. الاختيار:
لما كان الزواج علاقة دوام واستمرار وليس علاقة عابرة - فقد جعل الإسلام لكل من الزوجين حق اختيار زوجه، وحثهما على هذا الاختيار، وأعانه بإرشاده لهما إلى الأساس القويم الذي ينبغي أن ينبني عليه الاختيار، لكي يضمن دوام العلاقة الزوجية واستمرارها. وأبطل التقاليد التي من شأنها منع هذا الاختيار.
فللمرأة حق اختيار زوجها كما للرجل. قال رسول الله (ص): "البكر تستأذن"، وفي رواية أخرى "الثيب تستأمر والبكر تستأذن" قيل يا رسول الله: إن البكر تستأذن فتستحي. قال: "إِذْنُهَا صَمَاتُهَا"[24].
فلو عقد على فتاة بكر، دون إذنها - كان من حقها أن تطلب فسخ النكاح، جاءت فتاة إلى النبي (ص) فقالت: إن أبي زوّجني من ابن أخيه ليرفع بي خسيه فجعل رسول الله الأمر إليها، وخيّرها بين فسخ النكاح وإمضائه.
فقالت لرسول الله (ص) أجزت ما صنع أبي ولكني أردت أن أعلم النساء أن ليس للآباء من الأمر في شيء[25].
وبالنسبة لما من شأنه أن يديم العلاقة بين الزوجين نذكر هذه الحادثة، جاء أحد أصحاب رسول الله (ص) يخبره بأنه سيتزوج فقال له رسول الله (ص): "هل نظرت إليها؟ قال: لا. قال: فانْظُرْ إلَيْهَا، فإنَّهُ أَحْرَى أَنْ يُؤْدَمَ بَيْنَكُمَا"[26].
أما الأساس الذي أرشد الزوجين أن يبنيا عليه اختيارهما فهو أساس يحمل من القابلية على الاستمرار والدوام أكثر مما يحمل سواء ليتناسب مع الزواج كعلاقة استمرار ودوام ألا وهو الدين والخلق الحسن، فقد ينخدع الإنسان بمظاهر زائفة براقة وخادعة كالجمال أو المال أو الجاه أو الحسب فوضح الإسلام أن هذه الأمور كلها لا تجدي في الزواج، ولا تجعل منه علاقة دائمة، وإنما الأساس الذي ينبغي أن ينظر إليه كل من الزوجين هو الأساس الذي يضمن دوام العلاقة واستمرارها بالمعروف، أو فصمها بالمعروف أيضاً إن لم يكن من الانفصام بد. وليس هناك شيء يحقق ذلك كالدين، والتخلق بآدابه وتعاليمه، فالمتدين رجلاً كان أو امرأة بحكم تمسكه بدينه لا يتجاوز الحدود ولا يتعدى على حق غيره فإن شعر بالانسجام مع زوجه أحس إليه فسعدا بعلاقتهما، وإن شعر بضده فلا يخشى منه أن يظلم زوجه، ويعتدي عليه، وإن أحسّ بضرورة الفراق فإن هذا الفراق سيتم بالمعروف أيضاً. قال الله تعالى: وَلاَ تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلاَ تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ...[27].
وقال رسول الله (ص): "لاَ تَزَوَّجُوا النِّسَاءَ لِحُسْنِهِنَّ. فَعَسى حُسْنُهُنَّ أَنْ يُرْدِيَهُنَّ. وَلاَ تَزَوَّجُوهُنَّ لأَمْوَالِهِنَّ. فَعَسى أَمْوَالُهُنَّ أَنْ تُطْغِيَهُنَّ. وَلكِنْ تَزَوَّجُوهُنَّ عَلَى الدِّينِ. وَلأَمَةٌ خَرْمَاءُ سَوْدَاءُ ذَاتُ دِينٍ، أَفْضَلُ"[28]. وقال عليه الصلاة والسلام أيضاً: "تُنْكَحُ النساءُ لأَرْبَعٍ، لِمَالِهَا وَلِحَسَبِهَا، ولِجَمَالِهَا وَلِدِيْنِهَا، فاظْفَرْ بَذَاتِ الدِّينِ تَرِبَتْ يَدَاكَ"[29] ولما كانت المرأة قد تغلب عليها العاطفة - فيقع اختيارها على من ليس لزواجها أهلاً فقد جعل الاسم لأوليائها حق الاعتراض على الرجل الذي تختاره فتاتهم شريطة أن يكون اعتراضهم وجيهاً من وجهة نظر الإسلام، ولما كان الإسلام قد اعتبر أساس الاختيار هو الدين إذن فيكون للأهل حق الاعتراض على اختيار فتاتهم إذا وقع اختيارها على كافر أو ملحد، أو مرتكب لجرائم، وأما المتدين المسلم فهو كفؤ لكل مسلمة لا يكون الاعتراض على اختياره إلا من قبيل النصح والإرشاد.
3. الخطبة:
بعد أن ينتهي مريدا الزواج من اختيار كل منهما للآخر - يأتي دور الخطبة. وقد أباح الإسلام للرجل أن يخطب أية امرأة يحل له زواجها. وكل امرأة مسلمة أو كتابية يحل له زواجها ما لم تكن من محرمات النسب أو الرضاع أو المصاهرة أو المعتدات من طلاق أو وفاة أو المخطوبات للغير.
ومحرمات النسب - هنّ الأمهات وإن علون، والبنات وإن نـزلن، وفروع الأبوين وإن بعد والعمات والخالات. قال الله تعالى: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالاَتُكُمْ وَبَنَاتُ الأَخِ وَبَنَاتُ الأُخْتِ...[30].
ومحرّمات الرضاع كل ما يحرم من النسب.
ومحرمات المصاهرة: أصول الزوجة وإن علون، وفروعها وإن بعدت درجتهن، وزوجة الأب والجد من الجهتين، وزوجة الابن أو ابنة أو ابن البنت.
قال تعالى: ... وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللاَّتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللاََّّتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ وَحَلاَئِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلاَبِكُمْ...[31].
وكذلك يحرم الجمع بين الزوجة وأختها أو خالتها.
قال تعالى: ... وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الأُخْتَيْنِ...[32].
وقال أيضاً: وَلاَ تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاءَ سَبِيلاً[33].
ويلحق بمحرمات المصاهرة الدخول بالمرأة بناء على زواج فاسد - فتحرم على الرجل أصول تلك المرأة وفروعها.
كذلك يحرم الدخول بشبهة أصول المرأة وفروعها. وقد جعل بعض العلماء الزنا بالمرأة محرماً لأصولها وفروعها أيضاً.
وأما المعتدات - فهن - المرأة التي طلقها زوجها وتعتد إن كانت حاملاً بوضع الحمل أو بثلاثة قروء فهذه لا تجوز خطبتها أثناء العدة.
كذلك لا يجوز خطبة من مات زوجها أثناء العدة وهي وإن كانت حاملاً بوضع الحمل، وإلا فعدتها أربعة أشهر وعشرة أيام.
وكذلك تحرم خطبة المخطوبة للغير حتى يعلن التخلي عنها.
قال عليه الصلاة والسلام: "لا يخطب الرجل على خطبة أخيه ولا يسوم على سوم أخيه"[34].
ومن عدا ما ذكرنا من النساء يحق للرجل أن يخطب من شاء منهن. وما ينبغي ذكره هنا: إن الخطبة قد يجوز الإسلام فيها نظر كل من الخطيبين إلى خطيبته، ولكنه حرّم عليهما الاختلاط والخلوة والخروج معاً للنـزهة أو سواها ما لم يبرم عقد الزواج.
4. المهر:
أما المهر فهو الصداق الذي يقدمه الزوج لزوجته عند العقد. وقد يقدم كاملاً أو على قسمين: قسم معجل يقدم ساعة العقد وآخر مؤجل يكون في ذمة الزوج.
ولقد حثّ الإسلام على تيسير المهر وعدم المغالاة به فقال رسول الله (ص): "خير الصداق أيسره"[35] وقال: "إِنَّ أَعْظَمَ النِّكاحِ بَرَكَةً أَيسَرُهُ مَؤُنَةً"[36].
ولقد بلغ من حرص الإسلام على تيسير تكاليف الزواج أن أباح رسول الله الزواج على صداق معنوي لمن لم يجد من المال ما يمكن أن يكون صداقاً مادياً. جاء فقير معدم من المسلمين يريد أن يتزوج فسأله رسول الله (ص) عن الصداق؟ فأخبره بأنه لا يملك شيئاً فقال له: "التمس ولو خاتماً من حديد" ففتش الرجل فلم يجد حتى خاتم حديد، فسأله رسول الله (ص) إن كان معه شيء من القرآن. أي نظير تعليمها ما يحفظه من كتاب الله وهكذا يدفع الإسلام أبناءه نحو الاقتران الشرعي بالقضاء على سائر المعوقات التي تحول دونه، وتيسير سبيله.
5. العقد:
لا يتم عقد النكاح إلا بإيجاب وقبول كأن تقول الزوجة أو وكيلها أو وليها المفوض من قبلها "زوجتك نفسي" أو موكلتي أو ابنتي أو أختي ويقول الزوج أو وكيله أو المفوض من قبله "قبلت" وصيغة الإيجاب والقبول تكون بأي لفظ يدل على الزواج وقبوله.
ولا بد من حضور شاهدين على عقد الزواج على الأقل وولي للمرأة من أب أو جد أو أخ أو عم إن وجدوا ويقوم الحاكم مقام هؤلاء إن لم يوجدوا أو كانوا معارضين للزواج دون مبرر شرعي لأن الحاكم ولي من لا ولي له.
6. آثار العقد:
بمجرد إبرام العقد تترتب الآثار الزوجية وهي كما يلي:
أ. الحقوق المشتركة بين الزوجين وهي ثلاثة:
أولاً: حل العشرة الزوجية والاتصال الجنسي بين الزوجين.
ثانياً: حرمة المصاهرة التي أشرنا إليها سابقاً.
ثالثاً: التوارث بين الزوجين فإذا ماتت بعد العقد ورثها وإذا مات هو ورثته.
ب. حقوق الزوج:
أولاً: الطاعة والقرار في بيته إلا بإذنه.
ثانياً: حفظه في ماله ونفسه.
ج. حقوق الزوجة:
1. نفقة الطعام والكساء قال تعالى: )... وَعَلَى الْمَولُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ...( وقال (ص): "ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف".
2. نفقة المسكن وأثاثه قال تعالى: )أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ...( وكل ذلك يكون حسب طاقة الزوج وقدرته.
ثالثاً: ثبوت المهر المقدم والمؤخر:
د. هناك أمور كثيرة حثَّ الإسلام الزوجين عليها يمكن أن تعتبر آداباً للزوجية وحسن المعاشرة بين الزوجين، أمر الله بهما ورسوله ونهى عن خلافها يمكن إجمالها بقوله تعالى: )... وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ...( وقوله تعالى: )... وَلاَ تُضَآرُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ( وقال رسول الله (ص): "خياركم خياركم لنسائهم" وقال أيضاً: "خيركم خيركم لأهله". وكثيرة هي النصوص التي حثت الزوجين على التعاون فيما بينهما لتكون منهما الأسرة السليمة المتماسكة التي تكون لبنة متينة في بناء المجتمع.
7. حفل الزفاف:
أوجب الإسلام إقامة حفل زفاف - عند إرادة الدخول - يتناسب وقدرة الزوج المالية وهذا الحفل فيه معان استهدفها الإسلام. ففيه الإعلان عن الزواج، والفرح به، والتفريق بينه وبين العلاقات المحرمة التي تجري في الخفاء، وفيه الترغيب في الزواج والحث عليه بطريق الإيحاء. والأصل فيها قول رسول الله (ص): "لا بد للعرس من وليمة" فقد أولم الرسول عليه الصلاة والسلام بشاة مرة وأولم بتمر وأولم بمدين من شعير. ليس للناس وجوب الوليمة، وعدم التكلف بها، وجعلها على حسب القدرة.
8. قوامة الرجل على المرأة:
يحرص الإسلام في سائر شؤون الحياة التي تناولها بالتشريع على التنظيم الدقيق لكل منها ولما كانت الأسرة اللبنة الأولى في بناء المجتمع أو هي الوحدة الصغرى في المجتمع فقد تولى الإسلام تنظيم بنائها بشكل لا يتطرق إليه الخلل إلا إذا وقع خطأ أو انحراف من أحد الطرفين. ومن مظاهر هذا التنظيم أن جعلت للبيت رئاسة أناطها بالرجل. فرئيس البيت أو القائم عليه مسؤول عن توفير ما يحتاجه البيت ومن فيه من حاجات مادية ومسؤول كذلك عن تأديب من في البيت بأدب الإسلام وحمايتهم من الانحراف. فالرجل إذن هو القيّم على بيته ومن فيه، وحينما أناط الإسلام القوام على المرأة والبيت والرجل فعل ذلك ملاحظاً اعتبارات كثيرة، منها ما أشارت إليه الآية الكريمة: الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ...[37].
فالرجل من ماله يدفع مهر زوجته، وبماله يقيم البيت ويؤثثه، ومن ماله ينفق على ما فيه، فهذه التكاليف لا بد أن يقابلها شيء من الصلاحيات فكانت قوامة الرجل هي الصلاحية المقابلة لتكاليفه.
والأمر الآخر أن الرجل في الغالب أقدر على المرأة من الصمود أمام انحرافات العواطف وتقلباتها، ولا يستطيع أحد أن يكابر أن حماية البيت وصيانته وصيانة من فيه تقع على عاتق الرجل وأنه المؤهل لهذا. ثم إن هذه القوامة التي ذكرت في آية أخرى بصفتها درجة للرجل على المرأة وذلك في قوله تعالى: ... وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ...[38]، ليست قوامة أفضلية الرجل على المرأة، ذلك لأن الإسلام قرر التساوي بينهما فيما يتعلق بالكرامة الإنسانية مساواة تامة. وإنما هي قوامة الإشراف، والدرجة التي يمتاز بها المسؤول عن المسؤول عنه، فليس رئيس الدائرة بأفضل من واحد من مرؤوسيه ولكن له درجة الرئاسة عليهم ولا ينقص من كرامة أي مخلوق أن يعمل بإشراف الرئيس أو جنديّ بقيادة القائد، لأنهم جميعاً متساوون في الكرامة الإنسانية ولكنه التنظيم الذي تفرضه طبيعة الحياة المستقيمة.
كذلك لا تعطي هذه الدرجة للرجل حق فرض استبداد على البيت لا يقام فيه للمرأة وزن لأن البيت ينبغي أن يقوم على التعاون والتشاور بين مؤسسيه، وإنما له القرار الأخير المقيد بالشرع ومصلحة الأسرة.
تعدد الزوجات:
أباح الإسلام للرجل التزوج بأكثر من امرأة واحدة واشترط لذلك شرطين أحدهما العدل بين الزوجات في سائر الأمور الزوجية من نفقة على اختلافها ومعاشرة، وثانيهما القدرة على الإنفاق على نسائه، وتوفير احتياجاتهن ونصح بأن لا يلجأ إلى هذا إلا إذا اضطر، لعدم إمكانية تحقيق العدل في الغالب وفي المحبة القلبية دائماً. حثّ القرآن على الاقتصار على واحدة فقال تعالى: ... فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً...[39]. وقال تعالى أيضاً: وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلاَ تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ...[40] ويقصد هنا العدل في المودة القلبية.
ولما كانت رسالة الإسلام هي الرسالة الخاتمة، وكان محمد - عليه الصلاة والسلام - خاتم النبيين، وكانت هذه الرسالة هي الرسالة التي أراد الله للناس أن يدينوا بها في كل زمان ومكان - كان لا بد وأن يكون فيها من الأحكام ما يلاقي جميع الظروف وسائر الاحتمالات. ولعل تشريع تعدد الزوجات من تشريعات الإسلام القويمة التي وجدت لتلافي شتى الأحوال التي تحدث للبشر في هذه الدنيا.
وهذا التشريع لوحظ فيه جانب المرأة، وحمايتها وصيانتها من السقوط، كما لوحظ فيه جانب الأخلاق العامة للمجتمع. فكثيراً ما تتعرض المجتمعات لزيادة في النساء عن الرجال نتيجة الحروب وما شاكلها فتبقى نساء كثيرات دون زواج ودون معيل، وإذا استطاعت المرأة أن تعيل نفسها بالعمل وكسب قوتها بجهدها، فمن أين تسد حاجتها الطبيعية إلى الأمومة وإلى الجنس؟ لا سبيل إلى ذلك إلا الارتباط برجل، وهذا الارتباط إما أن يكون مشروعاً يحفظ للمرأة كرامتها ويصون للمجتمع أخلاقه ويحفظ أبناءها من الوأد والتشرد، أو الضياع، وإما أن يكون غير مشروع فترتمي المرأة في لحظات خاطفة من ليل أو نهار في أحضان أي رجل، فاقدة كل كرامة متمرغة بالرذيلة، فإن حملت وأدت ابنها أو أسقطته قبل التمام وكبتت غريزة أمومتها التي هي أقوى غرائزها، وإلا فستدفع به إلى الشارع حيث ينشأ مخلوقاً شاذاً لا يعرف له أباً، محروماً من العواطف. ولا شيء غير هذين المصيرين يمكن أن يقدر للمرأة التي لا تجد زوجاً خاصاً بها، حسبما يتفق مع الفطرة والعدل وكرامة المرأة وحاجة المجتمع. لا شك أنه الحل الأول وهذا ما فعله الإسلام.
كذلك هناك حالات أخرى كحالة مرض الزوجة وعقمها، أو إصابتها بأي شيء يحول دون تحقيق الغايات الكاملة. وفي هذه الحالات لا يكون الرجل إلا بين حالتين: حالة التخلي عن زوجته المريضة أو العقيم والبحث عن غيرها، وحالة أخرى هي إردافها بزوجة ثانية تعوض النقص في الأولى. وفي حالة ترك الأولى قد تكون بدون معيل سواه، وقد لا تستطيع أن تواجه أعباء الحياة وحدها، فأيهما أولى به أن تشترك مع امرأة أخرى بزوجها، وتكون مصونة محتفظة بسائر حقوقها؟ أم أن تقذف في الشارع دون مساعد ومعيل؟
لا شك أن الحالة الثانية - هي الحالة التي تحقق للزوجة الأولى مصلحتها. والذي نلاحظه في هذه الحالات أن كثيراً من النساء هن اللواتي يقمن بالبحث لأزواجهن عن زوجات يمنحنهم الأولاد.
لعل هذه الحكم وكثيراً غيرها - هي التي جعلت الإسلام يشرع هذا التشريع الحكيم الذي ينتقده بعض الجهلاء اليوم لا لشيء إلا لأن الغربيين ينتقدوننا عليه - ناسين أو متناسين أن الغربيين الذين يمنعون التعدد قانوناً ويحرمونه أكثر منا تعدداً، ولكن في الحرام لا في الحلال. فهذا هو المستشرق الفرنسي (رنيه) يقول: الواقع يشهد بأن تعدد الزوجات شيء ذائع في سائر أرجاء العالم وسوف يظل موجوداً ما وجد العالم مهما تشددت القوانين في تحريمه ولكن المسألة الوحيدة - هي معرفة ما إذا كان الأفضل أن يشرع هذا المبدأ أو يحدد، أم أن يظل نوعاً من النفاق المتستر لا شيء يقف أمامه ويحد من جماحه.
وكتب (اليوتنان كولونيل كادي) مقالة ترجمتها جريدة النجاح الجزائرية جاء فيها:
"إن تعدد الزوجات تجيزه الشريعة الإسلامية بشروط محدودة، وبالفعل نرى العالم كله يستعمله، وكم بائع خمر من مدينة (تريبون) إن كان ذا ثروة، يكون له بيت مختلف في كل المدن التي تدعوه إليه أموره، نعم من الواضح أن الفرنسوي المثري الذي يمكنه أن يتزوج باثنتين فأكثر وينتج عن ذلك هذا الفرق: أولاد للمسلم الذي تعددت زوجاته متساوون ومعترف بهم - ويعيشون مع آبائهم جهرة بخلاف أولاد الفرنسي الذين يولدون من فرنسي مختلف فهم خارجون عن القانون ومعلوم أن من النادر أن تجد الأزواج الغربيين يقتصرون على زوجاتهم، فهناك السكرتيرات والزميلات وسواهن".
ولعل من الطريف أن نذكر أن كثيراً من النساء الغربيات كن يطالبن بما يشبه التعدد بعد الأزمات التي تذهب بنسبة كبيرة من الرجال، ففي ألمانيا طالبت النساء الألمانيات بتحديد المدة التي تقضيها المرأة الواحدة مع الرجل لتفسح المجال لسواها فيكون الزواج مناوبة بين النساء لقلة الرجال، وقد ألّفن جمعيات نسائية لهذا الغرض.
ولو عرفن مبدأ التعدد الإسلامي لما ترددن في المناداة به بدل زواج المناوبة الذي لا يسد حاجة أكثر ما يسد الزنا مع فارق بسيط[41].
الشقاق بين الزوجين:
لم يترك الإسلام الأسرة عندما تقدم وإنما سار معها مقدراً سائر الاحتمالات التي قد تطرأ على البيت لسبب أو لآخر. فإذا حدث شقاق بين الزوجين ونفر كل منهما عن صاحبه، فالإسلام يأمر باختيار رجل صالح من أهلها وآخر صالح من أهله ليدرسا معاً ما بين الزوجين ويتبينا علل النفرة وأسبابها وينصحا الزوجين ويعالجا الأمر لعل الله يوفق بينهما. وفي هذا يقول الله تعالى: وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلاَحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا[42].
النشوز:
فإن لم تكن المسألة مسألة نفرة وشقاق بينهما وإنما كانت نشوزاً وإعراضاً من أحدهما فقط فإن كان النشوز والإعراض من الرجل فهنا يجب على المرأة أن تستجمع كل ما لديها من ذكاء وفطنة للوصول إلى أسباب إعراض زوجها ونشوزه ومعالجتها ببراعة وحكمة تكفلان لها إعادة زوجها المعرض وقلما تخطئ المرأة في معرفة أسباب إعراض زوجها وهي لن تعوزها الحيلة لمعالجة الأسباب وفي هذا الأمر أنـزل الله قوله تعالى: وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الأَنْفُسُ الشُّحَّ وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا[43].
أما إن كان النشوز في الزوجة فتنكرت لحق زوجها وتعالت عن أداء واجباتها الزوجية فإن الله يأمر الزوج بعلاج حالتها بما يلي:
أ. أن يعظها ويرشدها بالرفق واللين ويبين لها خطأها بأسلوب مناسب لعله يستطيع ردها إلى سبيل الموافقة والوئام.
ب فإن لم يجد إرشاده لها نفعاً فله أن يزجرها ويعرض عنها ولا يكلمها ولا يقربها وهو علاج نفسي - يردع المرأة غالباً ويذل كبرياءها - فإن أعز ما تدل به المرأة أنوثتها وهي السلاح الذي تغزو به الرجل فإذا فلّه لها وأراها من نفسه استمساكاً عنها، وقلّت مبالاته بأنوثتها فقد هزم كبرياءها.
ج فإذا نجح في هذا بإخراجها من نشوزها فبها ونعِمَّت وإلا فله أن يضربها ضرباً يقصد به إهانتها وجرح كبريائها بصورة أكثر من ثورة الهجر وفي هذه الحالة قال الله تعالى: )... وَاللاَّتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلاَ تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا([44].
الطلاق:
إن لم تجد كل وسائل العلاج السابقة - في إصلاح ما بين الزوجين، ووجد أن في بناء هذه الأسرة أموراً لا يمكن إصلاحها - فإن الإسلام يضع حلاً أخيراً لما بين الزوجين يقضي بفك هذه الرابطة التي لا يمكن أن تدوم لأنها فاشلة عاجزة عن تحقيق الأهداف الزوجية. وهذا الحل قد كرهه الإسلام كثيراً وحرص على أن يجعله آخر ما يلجأ إليه حين لا يكون حل سوى ذلك هو الطلاق الذي قال فيه رسول الله (ص): "ما خلق الله شيئاً أبغض إليه من الطلاق"[45].
إن الإسلام قد ندب الرجل إلى إبقاء زوجته وإمساكها حتى في حالة كرهه لها قال تعالى: ... فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا[46] وقال رسول الله (ص): "لا تطلقوا النساء إلاّ في ريبة فإن الله عز وجل لا يحب الذواقين ولا الذواقات[47] ولكن يأذن به حين لا يكون حل سواه".
وإذا كان هناك من يعيب على الإسلام تشريع الطلاق فإنما هو عيب الجهل بفطرة الله، والجهل بالنظام الصحيح لهذه الحياة - فإن هذه الفطرة وهذا النظام لم يلبثا أن فرضا نفسيهما على الذين كانوا إلى عهد قريب يستنكرون تشريع الطلاق فإذا بهم يبيحونه، وبشكل فظيع.
إن الإسلام حين أباح الطلاق - جعله علاجاً لما لا يعالج بسواه، وحفظ فيه لكل من الزوجين حقوقهما وكرامتهما، ولم يجعله أداة للتلاعب بقدسية الزواج كما فعل الآخرون. إننا لا ننكر أن كثيرين من المسلمين أساءوا التصرف بنظام الطلاق، ولكن العيب ليس في نظام الطلاق، ولو أن المسلمين وقفوا عند حدود الله في هذا الأمر وسواه لنعموا وسعدوا بحياة لا مثيل لها عند غيرهم ونحن نأمل أن يزداد الوعي لأحكام الإسلام ونظمه ويزداد تمسك المسلمين بهذه الأحكام ليصلوا إلى السعادة التي ينشدون.
الخلع:
قد يقول قائل إن الإسلام قد جعل للرجل حق الطلاق دون أن يجعل للمرأة مقابله حتى تستعمله إذا ضاقت بها الحياة مع زوجها. فنقول كلا إنه في الوقت الذي يجعل للرجل حق الطلاق جعل للمرأة حق (المخالعة) والخلع هو طلاق على ما تفتدي به المرأة نفسها من زوج لا تريد معه البقاء فتستطيع المرأة مخالعة زوجها بعوض مالي لا يزيد عن المهر الذي قدمه الزوج.
الميراث:
قبل أن ننهي الحديث عن نظام الأسرة رأيت أن لا بد لنا من التطرق إلى نظام المواريث كوسيلة للتكامل العادي بين أبناء الأسرة وكقاعدة من قواعد التكافل الاجتماعي في الإسلام وكوسيلة من وسائل توزيع الثروة وتداول الأموال. ولا نريد الخوض في التفاصيل، فإن تفاصيل هذا الموضوع قد تكفل ببيانها علم مستقل قائم بذاته يسمى بعلم (الفرائض)، ولكننا نبين بعض الخطوط العامة لهذا الأمر.
1. إن التوريث إجباري فلا يستطيع المالك أن يمنع أحداً من مستحقي الإرث حقه كما هو عند غير المسلمين، فإن الإنسان بمجرد أن يمرض مرضاً يجعله قريباً إلى الموت - ينتقل سلطانه من ماله إلى الشارع الحكيم يوزع بموجب نظام التركات وليس للمالك سلطة إلا في الثلث من ماله ليستطيع أن يتدارك فيه حقاً فرط فيه أو يصل أحد أصدقائه أو أقاربه غير الوارثين أو يقيم به مشروعاً خيرياً، أما الثلثان فلا تصرف له فيهما.
2. إن الثروة المتروكة توزع في دائرة الأسرة لأن منافع الأسرة ومعارفها وتبادله. فالقوي يحمي الضعيف والغني ينفق على الفقير وإذن فينبغي أن يكون التوارث في هذه الدائرة. )... وَأُولُو الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ...(.
3. إن تكافل أبناء الأسرة فيما بينهم هو اللبنة الأولى في بناء التكافل الاجتماعي.
4. إن ملاحظة توزيع الإسلام للتركة تبين لنا كيف يتجه الإسلام إلى تفتيت الثروات، فهو لم يجعلها لواحد في الورثة ولم يقصرها على الرجال دون الإناث ولا على طبقة معينة من الأسرة وإنما وزعها توزيعاً دقيقاً عادلاً بين عدد من الورثة يكفل تحقيق أهدافه السامية من هذا التشريع.
وبعد فهذا نظام الأسرة في الإسلام كما شرعه الله - تعالى - لم تصل البشرية قديماً ولا حديثاً ولن تصل مستقبلاً إلى نظام أدق وأحكم منه فتبارك الله مشرعه الذي أحاط بكل شيء علماً.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.