اهمية طور الجنين
عندما يُسْأَلُ شخصٌ عن سنه, فإن الإجابة تتحد عادةً بيوم الميلاد, إلّا أن بعض الثقافات الشرقية تحدد سن الإنسان منذ تكوينه جنينًا في رحم الأم، ولهذا تضيف إلى عمره تلك الشهور التسعة أو نحوها التي عاشها قبل أن يولد, ويبدو لنا أن هذا الموقف الصحيح؛ فهذه الفترة التي يقضيها الإنسان في طور التكوين هي أخطر مراحل عمره على الإطلاق, وليس السبب في ذلك أن تغيرات هائلة تحدث قبل الولادة فحسب، وإنما لأن هذه التغيرات تحدث في فترة قصيرة للغاية, بعضها لا يتجاوز الأسابيع الثمانية الأولى منذ الإخصاب, ولعلنا حين نتتبع التطور المعجز للاقحة "النطفة" Zygote, التي تنتج من اندماج الحيوان المنوي للذكر مع بويضة الأنثى, والتي تتخذ صورة مخلوق أحادي الخلية محدد وراثيًّا, إلى إنسانٍ مكتملٍ في أحسن تقويم -كما يصفه القرآن الكريم، فإننا نقتنع اقتناعًا كاملًا بأن أسرع وأخطر جوانب النمو الإنساني هو ما يحدث خلال تلك الفترة، أي: فترة قبل الولادة.
وإذا سأل سائل، ولكن متى تُحْدِثُ البيئة آثارها؟ إن الإجابة مرةً أخرى على هذا السؤال, هي أن الآثار البيئية تظهر أيضًا قبل الولادة؛ فنمو الجنين لا يحدث في فراغ بيئيّ، فالرحم بيئةٌ بكل معاني الكلمة، وهو بيئة تختلف من أمٍّ لأخرى، وقد يؤثر في الوليد الذي يخرج منه أثناء الولادة, وقد تعوَّدْنَا في الماضي على النظر إلى بيئة الرحم، على أنها بيئة آمنة حامية للجنين، تعينه على التكوين والنمو واكتشاف مزيد من القوة استعدادًا للولادة, وقد نتج ذلك عن أثر كتابات القرن الثاني عشر التي وصفت الرحم على أنه وعاء فارغ محكم يختزن الجنين ويحميه من جميع الآثار الخارجية, إلّا أن البحوث الحديثة تؤكد أن درجة الأمان والحماية التي يوفرها الرحم للجنين تتوقف على عوامل كثيرة؛ منها: عمر الأم، وصحتها, وحالتها الانفعالية، ونظام تغذيتها، وأنواع العقاقير "الطبية وغيرها"
التي تتناولها، وأنواع العناصر الكيمائية ومستويات الإشعاع التي تتعرض لها, وهي جميعًا خبرات تؤثر مباشرة على البيئة الداخلية للرحم, وتؤثر بالطبع على الجنين, وهكذا تتحدد العلاقة الوثيقة بين الأم وطفلها منذ تكوينه؛ لأنه بالفعل جزء من تكوينها، بالمعنى الماديّ وليس المجازي.
ويبلغ الطول المعتاد لطور الجنين 280 يومًا, تؤلف40 أسبوعًا أو تسعة شهور شمسية "أو ميلادية", أو عشرة شهور قمرية "هجرية"، ومع ذلك, فإن له أهميةً خاصَّةً أشرنا إلى بعضها في الفقرات السابقة، وتذكر هيرلوك "Hurlock 1980" أربعة أسباب لهذه الأهمية هي:
1- تتحدد الخصائص الوراثية للإنسان في هذا الطور، وهي المكونات التي تُعَدُّ أساس النمو اللاحق.
2- الظروف الملائمة في جسم الأم قد تساعد على تنمية الخصائص الوراثية، بينما تؤدي الظروف غير الملائمة إلى تعويق هذه التنمية على نحوٍ قد يؤدي إلى تعويق النمو اللاحق.
3- يحدث في هذا الطور أكبر نموٍّ نسبيٍّ في حياة الإنسان, لا يقارن بأي مرحلة أخرى أو طور آخر, وبمعدلات سريعة لا نجدها في أي مرحلة نمائية أخرى.
4- تتشكل في هذا الطور اتجاهات الأشخاص المهمين في حياة الطفل إزاءه.
فهذه الاتجاهات تؤثر فيه بعد الولادة من خلال تربيته وتنشئته, وخاصة خلال سنوات التكوين في الطفولة.
أطوار الجنين:
تتحدد أطوار الجنين من وجهة النظر الإسلامية "رجع الفصل الثالث" إلى خمسة أطوارٍ, هي محور التناول في هذا الباب:
1- طور النطفة.
2- طور العلقة.
3- طور المضغة.
4- طور تكوين العظام والعضلات "اللحم".
5- طور التسوية.
تكوين النطفة
أشرنا في الفصل الثالث من هذا الكتاب إلى أن معاني النطفة في القرآن الكريم وفي السنة النبوية الشريفة تشمل الحيوان المنوي الذكري sperm والبويضة الأنثوية Ovum باعتبارهما المادة التي يتم منها تكوين الجنين, ويطلق عليها معًا في كلٍّ من علم الوراثة وعلم الأجنة الحديث تسميةً واحدةً, هي gamate, وهو لفظ استخدمه البعض في العربية بصورته الأصلية فقالوا: "الجميط" كما استخدم البعض الآخر كلمة "اللاحقة", والأصح في رأينا أن نستخدم اللفظ القرآني البديع "النطفة".
النطفة سواء أكانت مذكرة "حيوان منوي" أو مؤنثة "بويضة", فإنها خلية حية، إلّا أنها خلية ذات طبيعة خاصة وتكوينٍ مختلف عن باقي خلايا الجسم الإنسان, ولهذا يطلق عليها العلماء تسميات مميزة, ومن ذلك مثلًا: الخلية التناسلية أو الخلية الجرثومية, وحتى نوضح الفرق بين نوعي الخلايا نبدأ بوصف الخلية الحية العادية, ثم نتبع ذلك بوصف النطفة "الخلية التناسلية أو الجرثومية".
التكوين الأساسي للخلية:
الجسم الإنسان -والحيواني عامة- هو في جوهره بناء خلوي, وتؤلف الخلايا بدورها الأنسجة, ثم الأعضاء, ويبلغ عدد الخلايا في جسم الإنسان حوالي 15 تريليونًا1 عند الولادة، هي نتاج انقسام الخلية الواحدة الأصلية المخصبة "النطفة", التي بدأت بها حياة الإنسان قبل ذلك تسعة أشهر تقريبًا, والتي سوف نصف تكوينها بعد قليل في هذا الفصل.
ومن المعروف الآن أن كل خلية من خلايا الجسم -سواء أكانت من خلايا العظام أم العضلات أم الجهاز العصبي أم غيرها, لها نواة nucleus, عبارة عن كتلة داكنة تحتوي على الكروموزومات أو الصبغيات Chrmomsomes, وهي أبينة
بيولوجية على هيئة شريط أو خيط, وتسمى الوحدات الوظيفية التي تؤلف الصبغيات "الكروموزمات" الجينات أو المورثات Genes, وتعد المورثات مسئولة عن تكوين بروتين الجسم الذي يؤثر في نشاط الخلية, بالإضافة إلى أنها هي المسئولة عن توجيه التغيرات التي تطرأ على الجسم ونموه.
وتختلف الصبغيات من حيث عددها وبنائها في الخليفة الحية باختلاف الأنواع الحيوانية المختلفة, وفي الإنسان فإن جميع خلاياه الحية "ما عدا النطفة لكلٍّ منها نظيره"، منها 22 زوجًا متشابهًا في كلٍّ من الجنسين, وتسمى الصبغيات المتشابهة "الأوتوزومات" autosomes, أما الزوج الثالث والعشرين "وهو كرموزوم الجنس" فيختلف في الذكور عنه الإناث "وهو ما سنوضحه فيما بعد".
ويزداد عدد الخلايا في الجسم الإنساني عن طريق الانقسام الفتيلي Mitosis, وفيه يحدث أولًا أن يزداد عدد أزواج الصبغيات في الخلية الواحدة إلى الضعف، وينتج عن ذلك أن تنقسم هذه الخلية إلى خليتين, يستقل كلٌّ منهما بمجموعة كاملة من أزواج الصبغيات, ولهذا يطلق على هذا النوع "الانقسام غير المباشر", وهو يختلف عن انقسام النطفة أو الخلية التناسلية الذي يحدث بطريقة مختلفة, ويسمى الانقسام النصفي meiosis كما سنوضح فيما بعد.
أما المورثات "الجينات" التي تتألف منها الصبغيات "الكروموزمات", والتي تُعَدُّ من أهم الاكتشافات العلمية في القرن العشرين, ففي عام 1962, حصل ثلاثة علماء بريطانيون2 على جائزة نوبل في العلوم بسبب جهودهم في وصف بنية ووظيفة هذه المادة.
ويقدر حجم جزئي DNA بسمك لا يتجاوز 20 وحدة انجستروم3, وله بناؤه الأساسي بالإضافة إلى عدد من الجزيئات الفرعية, ويتألف البناء الأساسي
لجزيء DNA من حوالي 3000 جزيء من سكر الكربون، لكلٍّ منها أساس بروتيني, وتوجد أربعة أنواع من هذه الأسس البروتينية تؤلف الجزيئات الفرعية لهذه المادة, وتتشكل هذه العناصر على هيئة سلالم لولبية حلزونية مزدوجة double helix, يبلغ عددها بضعة مئات في المورث الواحد.
وتصنف الأسس البروتينية الأربعة التي يتكون منها DNA إلى فئتين: اثنان منها أكبر حجمًا من نوع البيورين purine "وهي مركبات بيضاء متبلورة" يسميان الأدنين adinine والجوانين guanine، والآخران أصغر حجمًا من نوع البيريميدين Pyrimidine, ويعرفان بالثيمين thymine, والسيتوزين cytosine. ويمسك اثنان من هذه الجزيئات الفرعية، أحدهما من المجموعة الكبرى والآخر من المجموعة الصغرى، معًا جزيئين من جزيئات السكر, ويقع واحد من كلٍّ منهما عند إحدى حافتي السلم الحلزوني الذي أشرنا إليه، ويقع الآخر عند الحافة الأخرى؛ بحيث تؤلف الأسس البروتينية الأربعة درجات هذا السلم.
ويرى علماء الوراثة أن الأسس البروتينية الأربعة السابقة هي المادة الخام "لأبجدية" الوراثة المعقدة, كما أن البناء الأساسي لجزيء DNA, يعطيه خصائص مميزة: منها أنه في موضع جيد للتحكم في النشاط البيوكيميائي للخلية, وخاصة إنتاج بروتينات جسم الخلية التي تؤثر في النمو مدى الحياة, ومنها أنه يكرر نفسه بشكل مذهل, فعند انقسام الخلية تنفك شرائط وخيوط DNA, وتنفصل أزواج الأسس البروتينية، وتتحول خيوط منفصلة مع وحدات DNA أخرى منفصلة أيضًا تنتجها الخلية، وتتم المزاوجة بينهما بدقة مع الأسس البروتينية، وبهذا يكون الجزيء الجديد مطابقًا تمامًا للأصل.
والسؤال الآن هو: كيف تنتقل الخصائص الوراثية إلى عظام الجنين وعضلاته وأحشائه وجهازه العصبي؟ لقد أثبتت تجارب علم الأجنة الحديث أن المادة النووية -التي هي متطابقة في جميع الخلايا- توجه نمو السيتوبلازم الذي يختلف نوعيًّا في كل خلية عن الأخرى، كما يخلتف اختلافات جوهرية في الأنسجة المختلفة للجسم.
ومن الأسرار الغامضة لحدوث ذلك ما حاول العلماء الكشف عنه في الوقت الحاضر, ومن ذلك أن حامض DNA فيه ذخيرة كبيرة من الوسائط التي يرسلها مباشرة إلى ستوبلازم الخلية، ومنها عنصر كيميائي هام يسمى اختصارًا RNA1, وتؤدي المعلومات التي ينقلها هذا العنصر الكيميائي من نواة الخلية إلى
خارجها في توجيه إنتاج البروتين, والبروتينات هي مواد مركبة تؤلف أجزاء كثيرة من الجسم الإنساني, كما تؤلف مادة الهيموجلوبين hemogloabin في الدم.
وتُعَدُّ التغيرات في إنتاج البروتين عملية أساسية في التغير النمائي الارتقائي مدى الحياة.
وتسمى المورثات التي تقوم بدور مباشر في إنتاج البروتين, المورثات البنوية structrural genes, وتتحكم في هذه المورثات البنوية مورثات أخرى تتحكم فيها بالتشغيل أو عدم التشغيل، ويسمى هذا النوع الثاني من المورثات باسم المورثات المنظمة regulator genes, وتقوم هذه المورثات المنظمة بدورها الحاسم في تحديد درجة النشاط العام للكائن العضوي, وتوقيت عمليات النمو, ولعل أشهر مثالين لهذا التوقيت في حياة الإنسان التغيرات البيولوجية في مرحلة ما قبل الولادة "الجنين", وفي مرحلة البلوغ، وكلاهما تحدده هذه المورثات المنظمة.
ويقدر عدد المورثات "الجنيات" في الصبغي "الكروموزوم" الواحد بحوالي خمسين ألف مورث في المتوسط1 ومعنى ذلك أن يبلغ عدد هذه المورثات في الخلية الحية الواحدة أكثر من ربع مليون مورث، تنقل جميعًا لغة الوراثة بأبجديتها الرباعية التي أشرنا إليها, وتحمل التعليمات الخاصة بنمو الخلية وانقسامها, ويهيئ كلّ منها الفرصة لإنتاج إنزيمه الخاص المميز له. والإنزيمات enzymes, هي مواد تؤدي إلى حدوث التغيرات الكيميائية في الخلية, ومعنى ذلك: أن المورثات تتحكم في النشاط البيوكيميائي للخلايا كما بينَّا، وتلعب هذه الإنزيمات باعتبارها مواد حفازة أو نشطة كيميائيًّا catalysts أدوارًا حاسمة في النمو الجسمي؛ لأنها تنتج في النهاية الخلايا المتخصصة التي توجد في الجسم الإنساني المكتمل النمو.
النطفة:
تفرز الأنثى البالغة الصحيحة جسميًّا من المبيضين في قناة فالوب بويضة تامَّة النضج كل 28 يومًا, "أو كل أربعة أسابيع" على وجه التقريب, فإذا اتصلت بالحيوانات المنوية التي تفرزها خصيتا الرجل أثناء الاتصال الجنسي، ونجح أحد هذه الحيوانات المنوية في اختراق جدار خلية البويضة, يحدث الحمل.
وكلٌّ من البويضة "الأنثوية" والحيوان المنوي "الذكر" من نوع الخلايا, إلّا أنها خلايا من نوعٍ خاصٍّ تختلف من حيث البنية وطريقة الانقسام عن الخلايا العادية التي وصفناها في القسم السابق, ولذلك يسميها علماء الأحياء الخلايا التناسلية أو الخلايا الجرثومية، كما يسميها علماء الوراثة gamate, وسوف نستخدم في هذا الكتاب الوصف القرآني البليغ لها وهو "النطفة".
وتنشأ النطفة عند كلٍّ من الذكر والأنثى من الخلية الأولى التي تبدأ منها حياة الإنسان "والتي سوف نصف تكوينها بعد قليل"، والتي تكون مؤلفة -كأي خلية عادية- من 46 صبغيًّا "أو23 زوجًا من الصبغيات", ولكنها تنتج بطريقة مختلفة في انقسام الخلية, تختلف عن الانقسام غير المباشر "الذي وصفناه". أنها طريقة تسمى الانقسام النصفي meisosis, وهي عملية يتم بها انقسامان متتابعان في الخلية، وبها يتم اختزال عدد الصبغيات من ثنائية الصبغيات "أي: أزواج" إلى أحادية الصبغيات "أي: صبغيات منفردة", ومعنى ذلك: أن كل زوج من الصبغيات في الخلية الأصلية ينفصل, فيتوجه كل صبغي من الصبغين إلى إحدى الخليتين الجديدتين, وينتج عن ذلك أن تتألف كل خلية من 23 صبغيًّا فرديًّا فقط, وهذا هو التكوين الأساسي للنطفة، سواء كانت ذكرية "حيوان منوي", أو أنثوية "بويضة".
وهكذا, فإن ما يحدث خلال الانقسام النصفي للخلية الأصلية أن هذه الخلية تنقسم إلى أربع خلايا, كلٍّ منها يتألف من 23 صبغيًّا فرديًّا، وهو نصف العدد الذي يوجد في الخلية الأصلية "أو الخلية العادية", وبالإضافة إلى ذلك, فإنه قبل انفصال الصبغيات وتوزيعها على الخلايا الجديدة يحدث الكثير من العلميات الوراثية منها:
1- التبادل exchange في جزئيات DNA: مما يؤدي إلى حدوث شفرة وراثية جديدة، ويتكون نمط وراثي جديد داخل النطفة, يكون خليطًا من الإسهام الوراثي لكلٍّ من الوالدين، كما لا يتطابق تمامًا مع ما لدى أيٍّ منهما.
2- التقاطع cross over: وفيه تحل مورثات أحد ثنائي الصبغي محل مورثات الثنائي الآخر، وتسمى هذه الحالة أحيانًا العبور.
3- القفز jrmping: وفيه تتحرك المورثات من موضعٍ إلى آخر داخل الصبغيات, وتؤدي إلى تعديل آثار مورثات أخرى.
4- الطفرة mrtation: وفيه تمر المورثات بتغيرات تلقائية, تنتقل من جيلٍ إلى آخر بعد ذلك.
عندما يُسْأَلُ شخصٌ عن سنه, فإن الإجابة تتحد عادةً بيوم الميلاد, إلّا أن بعض الثقافات الشرقية تحدد سن الإنسان منذ تكوينه جنينًا في رحم الأم، ولهذا تضيف إلى عمره تلك الشهور التسعة أو نحوها التي عاشها قبل أن يولد, ويبدو لنا أن هذا الموقف الصحيح؛ فهذه الفترة التي يقضيها الإنسان في طور التكوين هي أخطر مراحل عمره على الإطلاق, وليس السبب في ذلك أن تغيرات هائلة تحدث قبل الولادة فحسب، وإنما لأن هذه التغيرات تحدث في فترة قصيرة للغاية, بعضها لا يتجاوز الأسابيع الثمانية الأولى منذ الإخصاب, ولعلنا حين نتتبع التطور المعجز للاقحة "النطفة" Zygote, التي تنتج من اندماج الحيوان المنوي للذكر مع بويضة الأنثى, والتي تتخذ صورة مخلوق أحادي الخلية محدد وراثيًّا, إلى إنسانٍ مكتملٍ في أحسن تقويم -كما يصفه القرآن الكريم، فإننا نقتنع اقتناعًا كاملًا بأن أسرع وأخطر جوانب النمو الإنساني هو ما يحدث خلال تلك الفترة، أي: فترة قبل الولادة.
وإذا سأل سائل، ولكن متى تُحْدِثُ البيئة آثارها؟ إن الإجابة مرةً أخرى على هذا السؤال, هي أن الآثار البيئية تظهر أيضًا قبل الولادة؛ فنمو الجنين لا يحدث في فراغ بيئيّ، فالرحم بيئةٌ بكل معاني الكلمة، وهو بيئة تختلف من أمٍّ لأخرى، وقد يؤثر في الوليد الذي يخرج منه أثناء الولادة, وقد تعوَّدْنَا في الماضي على النظر إلى بيئة الرحم، على أنها بيئة آمنة حامية للجنين، تعينه على التكوين والنمو واكتشاف مزيد من القوة استعدادًا للولادة, وقد نتج ذلك عن أثر كتابات القرن الثاني عشر التي وصفت الرحم على أنه وعاء فارغ محكم يختزن الجنين ويحميه من جميع الآثار الخارجية, إلّا أن البحوث الحديثة تؤكد أن درجة الأمان والحماية التي يوفرها الرحم للجنين تتوقف على عوامل كثيرة؛ منها: عمر الأم، وصحتها, وحالتها الانفعالية، ونظام تغذيتها، وأنواع العقاقير "الطبية وغيرها"
التي تتناولها، وأنواع العناصر الكيمائية ومستويات الإشعاع التي تتعرض لها, وهي جميعًا خبرات تؤثر مباشرة على البيئة الداخلية للرحم, وتؤثر بالطبع على الجنين, وهكذا تتحدد العلاقة الوثيقة بين الأم وطفلها منذ تكوينه؛ لأنه بالفعل جزء من تكوينها، بالمعنى الماديّ وليس المجازي.
ويبلغ الطول المعتاد لطور الجنين 280 يومًا, تؤلف40 أسبوعًا أو تسعة شهور شمسية "أو ميلادية", أو عشرة شهور قمرية "هجرية"، ومع ذلك, فإن له أهميةً خاصَّةً أشرنا إلى بعضها في الفقرات السابقة، وتذكر هيرلوك "Hurlock 1980" أربعة أسباب لهذه الأهمية هي:
1- تتحدد الخصائص الوراثية للإنسان في هذا الطور، وهي المكونات التي تُعَدُّ أساس النمو اللاحق.
2- الظروف الملائمة في جسم الأم قد تساعد على تنمية الخصائص الوراثية، بينما تؤدي الظروف غير الملائمة إلى تعويق هذه التنمية على نحوٍ قد يؤدي إلى تعويق النمو اللاحق.
3- يحدث في هذا الطور أكبر نموٍّ نسبيٍّ في حياة الإنسان, لا يقارن بأي مرحلة أخرى أو طور آخر, وبمعدلات سريعة لا نجدها في أي مرحلة نمائية أخرى.
4- تتشكل في هذا الطور اتجاهات الأشخاص المهمين في حياة الطفل إزاءه.
فهذه الاتجاهات تؤثر فيه بعد الولادة من خلال تربيته وتنشئته, وخاصة خلال سنوات التكوين في الطفولة.
أطوار الجنين:
تتحدد أطوار الجنين من وجهة النظر الإسلامية "رجع الفصل الثالث" إلى خمسة أطوارٍ, هي محور التناول في هذا الباب:
1- طور النطفة.
2- طور العلقة.
3- طور المضغة.
4- طور تكوين العظام والعضلات "اللحم".
5- طور التسوية.
تكوين النطفة
أشرنا في الفصل الثالث من هذا الكتاب إلى أن معاني النطفة في القرآن الكريم وفي السنة النبوية الشريفة تشمل الحيوان المنوي الذكري sperm والبويضة الأنثوية Ovum باعتبارهما المادة التي يتم منها تكوين الجنين, ويطلق عليها معًا في كلٍّ من علم الوراثة وعلم الأجنة الحديث تسميةً واحدةً, هي gamate, وهو لفظ استخدمه البعض في العربية بصورته الأصلية فقالوا: "الجميط" كما استخدم البعض الآخر كلمة "اللاحقة", والأصح في رأينا أن نستخدم اللفظ القرآني البديع "النطفة".
النطفة سواء أكانت مذكرة "حيوان منوي" أو مؤنثة "بويضة", فإنها خلية حية، إلّا أنها خلية ذات طبيعة خاصة وتكوينٍ مختلف عن باقي خلايا الجسم الإنسان, ولهذا يطلق عليها العلماء تسميات مميزة, ومن ذلك مثلًا: الخلية التناسلية أو الخلية الجرثومية, وحتى نوضح الفرق بين نوعي الخلايا نبدأ بوصف الخلية الحية العادية, ثم نتبع ذلك بوصف النطفة "الخلية التناسلية أو الجرثومية".
التكوين الأساسي للخلية:
الجسم الإنسان -والحيواني عامة- هو في جوهره بناء خلوي, وتؤلف الخلايا بدورها الأنسجة, ثم الأعضاء, ويبلغ عدد الخلايا في جسم الإنسان حوالي 15 تريليونًا1 عند الولادة، هي نتاج انقسام الخلية الواحدة الأصلية المخصبة "النطفة", التي بدأت بها حياة الإنسان قبل ذلك تسعة أشهر تقريبًا, والتي سوف نصف تكوينها بعد قليل في هذا الفصل.
ومن المعروف الآن أن كل خلية من خلايا الجسم -سواء أكانت من خلايا العظام أم العضلات أم الجهاز العصبي أم غيرها, لها نواة nucleus, عبارة عن كتلة داكنة تحتوي على الكروموزومات أو الصبغيات Chrmomsomes, وهي أبينة
بيولوجية على هيئة شريط أو خيط, وتسمى الوحدات الوظيفية التي تؤلف الصبغيات "الكروموزمات" الجينات أو المورثات Genes, وتعد المورثات مسئولة عن تكوين بروتين الجسم الذي يؤثر في نشاط الخلية, بالإضافة إلى أنها هي المسئولة عن توجيه التغيرات التي تطرأ على الجسم ونموه.
وتختلف الصبغيات من حيث عددها وبنائها في الخليفة الحية باختلاف الأنواع الحيوانية المختلفة, وفي الإنسان فإن جميع خلاياه الحية "ما عدا النطفة لكلٍّ منها نظيره"، منها 22 زوجًا متشابهًا في كلٍّ من الجنسين, وتسمى الصبغيات المتشابهة "الأوتوزومات" autosomes, أما الزوج الثالث والعشرين "وهو كرموزوم الجنس" فيختلف في الذكور عنه الإناث "وهو ما سنوضحه فيما بعد".
ويزداد عدد الخلايا في الجسم الإنساني عن طريق الانقسام الفتيلي Mitosis, وفيه يحدث أولًا أن يزداد عدد أزواج الصبغيات في الخلية الواحدة إلى الضعف، وينتج عن ذلك أن تنقسم هذه الخلية إلى خليتين, يستقل كلٌّ منهما بمجموعة كاملة من أزواج الصبغيات, ولهذا يطلق على هذا النوع "الانقسام غير المباشر", وهو يختلف عن انقسام النطفة أو الخلية التناسلية الذي يحدث بطريقة مختلفة, ويسمى الانقسام النصفي meiosis كما سنوضح فيما بعد.
أما المورثات "الجينات" التي تتألف منها الصبغيات "الكروموزمات", والتي تُعَدُّ من أهم الاكتشافات العلمية في القرن العشرين, ففي عام 1962, حصل ثلاثة علماء بريطانيون2 على جائزة نوبل في العلوم بسبب جهودهم في وصف بنية ووظيفة هذه المادة.
ويقدر حجم جزئي DNA بسمك لا يتجاوز 20 وحدة انجستروم3, وله بناؤه الأساسي بالإضافة إلى عدد من الجزيئات الفرعية, ويتألف البناء الأساسي
لجزيء DNA من حوالي 3000 جزيء من سكر الكربون، لكلٍّ منها أساس بروتيني, وتوجد أربعة أنواع من هذه الأسس البروتينية تؤلف الجزيئات الفرعية لهذه المادة, وتتشكل هذه العناصر على هيئة سلالم لولبية حلزونية مزدوجة double helix, يبلغ عددها بضعة مئات في المورث الواحد.
وتصنف الأسس البروتينية الأربعة التي يتكون منها DNA إلى فئتين: اثنان منها أكبر حجمًا من نوع البيورين purine "وهي مركبات بيضاء متبلورة" يسميان الأدنين adinine والجوانين guanine، والآخران أصغر حجمًا من نوع البيريميدين Pyrimidine, ويعرفان بالثيمين thymine, والسيتوزين cytosine. ويمسك اثنان من هذه الجزيئات الفرعية، أحدهما من المجموعة الكبرى والآخر من المجموعة الصغرى، معًا جزيئين من جزيئات السكر, ويقع واحد من كلٍّ منهما عند إحدى حافتي السلم الحلزوني الذي أشرنا إليه، ويقع الآخر عند الحافة الأخرى؛ بحيث تؤلف الأسس البروتينية الأربعة درجات هذا السلم.
ويرى علماء الوراثة أن الأسس البروتينية الأربعة السابقة هي المادة الخام "لأبجدية" الوراثة المعقدة, كما أن البناء الأساسي لجزيء DNA, يعطيه خصائص مميزة: منها أنه في موضع جيد للتحكم في النشاط البيوكيميائي للخلية, وخاصة إنتاج بروتينات جسم الخلية التي تؤثر في النمو مدى الحياة, ومنها أنه يكرر نفسه بشكل مذهل, فعند انقسام الخلية تنفك شرائط وخيوط DNA, وتنفصل أزواج الأسس البروتينية، وتتحول خيوط منفصلة مع وحدات DNA أخرى منفصلة أيضًا تنتجها الخلية، وتتم المزاوجة بينهما بدقة مع الأسس البروتينية، وبهذا يكون الجزيء الجديد مطابقًا تمامًا للأصل.
والسؤال الآن هو: كيف تنتقل الخصائص الوراثية إلى عظام الجنين وعضلاته وأحشائه وجهازه العصبي؟ لقد أثبتت تجارب علم الأجنة الحديث أن المادة النووية -التي هي متطابقة في جميع الخلايا- توجه نمو السيتوبلازم الذي يختلف نوعيًّا في كل خلية عن الأخرى، كما يخلتف اختلافات جوهرية في الأنسجة المختلفة للجسم.
ومن الأسرار الغامضة لحدوث ذلك ما حاول العلماء الكشف عنه في الوقت الحاضر, ومن ذلك أن حامض DNA فيه ذخيرة كبيرة من الوسائط التي يرسلها مباشرة إلى ستوبلازم الخلية، ومنها عنصر كيميائي هام يسمى اختصارًا RNA1, وتؤدي المعلومات التي ينقلها هذا العنصر الكيميائي من نواة الخلية إلى
خارجها في توجيه إنتاج البروتين, والبروتينات هي مواد مركبة تؤلف أجزاء كثيرة من الجسم الإنساني, كما تؤلف مادة الهيموجلوبين hemogloabin في الدم.
وتُعَدُّ التغيرات في إنتاج البروتين عملية أساسية في التغير النمائي الارتقائي مدى الحياة.
وتسمى المورثات التي تقوم بدور مباشر في إنتاج البروتين, المورثات البنوية structrural genes, وتتحكم في هذه المورثات البنوية مورثات أخرى تتحكم فيها بالتشغيل أو عدم التشغيل، ويسمى هذا النوع الثاني من المورثات باسم المورثات المنظمة regulator genes, وتقوم هذه المورثات المنظمة بدورها الحاسم في تحديد درجة النشاط العام للكائن العضوي, وتوقيت عمليات النمو, ولعل أشهر مثالين لهذا التوقيت في حياة الإنسان التغيرات البيولوجية في مرحلة ما قبل الولادة "الجنين", وفي مرحلة البلوغ، وكلاهما تحدده هذه المورثات المنظمة.
ويقدر عدد المورثات "الجنيات" في الصبغي "الكروموزوم" الواحد بحوالي خمسين ألف مورث في المتوسط1 ومعنى ذلك أن يبلغ عدد هذه المورثات في الخلية الحية الواحدة أكثر من ربع مليون مورث، تنقل جميعًا لغة الوراثة بأبجديتها الرباعية التي أشرنا إليها, وتحمل التعليمات الخاصة بنمو الخلية وانقسامها, ويهيئ كلّ منها الفرصة لإنتاج إنزيمه الخاص المميز له. والإنزيمات enzymes, هي مواد تؤدي إلى حدوث التغيرات الكيميائية في الخلية, ومعنى ذلك: أن المورثات تتحكم في النشاط البيوكيميائي للخلايا كما بينَّا، وتلعب هذه الإنزيمات باعتبارها مواد حفازة أو نشطة كيميائيًّا catalysts أدوارًا حاسمة في النمو الجسمي؛ لأنها تنتج في النهاية الخلايا المتخصصة التي توجد في الجسم الإنساني المكتمل النمو.
النطفة:
تفرز الأنثى البالغة الصحيحة جسميًّا من المبيضين في قناة فالوب بويضة تامَّة النضج كل 28 يومًا, "أو كل أربعة أسابيع" على وجه التقريب, فإذا اتصلت بالحيوانات المنوية التي تفرزها خصيتا الرجل أثناء الاتصال الجنسي، ونجح أحد هذه الحيوانات المنوية في اختراق جدار خلية البويضة, يحدث الحمل.
وكلٌّ من البويضة "الأنثوية" والحيوان المنوي "الذكر" من نوع الخلايا, إلّا أنها خلايا من نوعٍ خاصٍّ تختلف من حيث البنية وطريقة الانقسام عن الخلايا العادية التي وصفناها في القسم السابق, ولذلك يسميها علماء الأحياء الخلايا التناسلية أو الخلايا الجرثومية، كما يسميها علماء الوراثة gamate, وسوف نستخدم في هذا الكتاب الوصف القرآني البليغ لها وهو "النطفة".
وتنشأ النطفة عند كلٍّ من الذكر والأنثى من الخلية الأولى التي تبدأ منها حياة الإنسان "والتي سوف نصف تكوينها بعد قليل"، والتي تكون مؤلفة -كأي خلية عادية- من 46 صبغيًّا "أو23 زوجًا من الصبغيات", ولكنها تنتج بطريقة مختلفة في انقسام الخلية, تختلف عن الانقسام غير المباشر "الذي وصفناه". أنها طريقة تسمى الانقسام النصفي meisosis, وهي عملية يتم بها انقسامان متتابعان في الخلية، وبها يتم اختزال عدد الصبغيات من ثنائية الصبغيات "أي: أزواج" إلى أحادية الصبغيات "أي: صبغيات منفردة", ومعنى ذلك: أن كل زوج من الصبغيات في الخلية الأصلية ينفصل, فيتوجه كل صبغي من الصبغين إلى إحدى الخليتين الجديدتين, وينتج عن ذلك أن تتألف كل خلية من 23 صبغيًّا فرديًّا فقط, وهذا هو التكوين الأساسي للنطفة، سواء كانت ذكرية "حيوان منوي", أو أنثوية "بويضة".
وهكذا, فإن ما يحدث خلال الانقسام النصفي للخلية الأصلية أن هذه الخلية تنقسم إلى أربع خلايا, كلٍّ منها يتألف من 23 صبغيًّا فرديًّا، وهو نصف العدد الذي يوجد في الخلية الأصلية "أو الخلية العادية", وبالإضافة إلى ذلك, فإنه قبل انفصال الصبغيات وتوزيعها على الخلايا الجديدة يحدث الكثير من العلميات الوراثية منها:
1- التبادل exchange في جزئيات DNA: مما يؤدي إلى حدوث شفرة وراثية جديدة، ويتكون نمط وراثي جديد داخل النطفة, يكون خليطًا من الإسهام الوراثي لكلٍّ من الوالدين، كما لا يتطابق تمامًا مع ما لدى أيٍّ منهما.
2- التقاطع cross over: وفيه تحل مورثات أحد ثنائي الصبغي محل مورثات الثنائي الآخر، وتسمى هذه الحالة أحيانًا العبور.
3- القفز jrmping: وفيه تتحرك المورثات من موضعٍ إلى آخر داخل الصبغيات, وتؤدي إلى تعديل آثار مورثات أخرى.
4- الطفرة mrtation: وفيه تمر المورثات بتغيرات تلقائية, تنتقل من جيلٍ إلى آخر بعد ذلك.