ابن القيم
أبو عبد الله شمس الدين مجمد بن أبي بكر ابن ايوب بن سعد بن حريز بن مكي زين الدين ثم الدمشقي الحنبلي الشهير بابن قيم الجوزية. ولد في دمشق في شهر صفر 691 هـ ووالده أحد العباد الصلحاء كان قيما على المدرسة الجوزية،فعرف بها وقيل له قيم الجوزية، واشتهرت به ذريته وحفدتهم من بعد ذلك صار الوحد منهم يدعي بابن قيم الجوزية.
المنهجية
يعتمد ابن القيم على القرآن والسنة ويقدمها على سواها
السببية
قبل الحديث عن الجوانب النفسية عند ابن القيم نشير إشارة سريعة إلى تصور ابن القيم للعلاقة بين الظاهرات والحوادث التي في الوجود أو مسألة السببية يدور جدل بين بعض المدارس الفكرية حول مدى استقلال سبب واحد للتأثير ببعض المدارس الفكرية ترى أن من الممكن أن يوجد عامل واحد يعزى إليه التغيير كالعامل الاقتصادي حيث تفسر به بعض المدارس التغير الاجتماعي وكثير من المدارس الفكرية
تتجه إلى أنه لا يوجد سبب واحد مستقل بذاته يعزى إليه الأثر وابن القيم ناقش هذه المسألة في كتاب الفوائد في لفتة من لفتاته قال ليس في الوجود الممكن سبب واحد مستقل بالتأثير بل لا يؤثر سبب البتة إلا بانضمام سبب آخر إليه وانتقاء مانع يمنع تأثيره وهذا في الأسباب المشهودة بالعيان وفي الأسباب الغائبة والأسباب المعنوية تأثير الشمس في الحيوان والنبات.
فإنه موقوف على أسباب آخر من وجود محل قابل وأسباب آخر تنضم إلى ذلك السبب أما اسبب الوحيد المستقل بالتأثير الذي لا يتوقف تأثيره على غيره فهو مسبب الأسباب عز وجل ويربط ابن القيم هذه الحقيقة بالتوحيد فيقول ما مؤداه إذا كان الله عز وجل مستقلا وحده بالتأثير فلا ينبغي للعباد أن تتعلق قلوبهم بسواه فالخوف وحده والرجاء فيه وحده.
الجوانب النفسية عند ابن القيم
تعاريف النفس والروح
ناقش ابن القيم في كتابه "الروح" حقيقة النفس؟ هل هي جزء من أجزاء البدن أو عرض من أعراضه أو جسم مساكن له مودع فيه أو جوهر مجرد؟ وهل هي الروح أو غيرها؟ وهل الأمارة واللوامة والمطمئنة نفس واحدة لها هذه الصفات أم هي ثلاث أنفس؟
أورد خمسة أقوال في ذلك وحكم عليها بالبطلان ثم قال:
السادس: أنه جسم مخالف بالماهيه لهذا الجسم المحسوس وهو جسم نوراني علوي خفيف حي متحرك ينفذ في جوهر الأعضاء ويسري فيها سريان الماء في الورد الدهن في الزيتون والنار في الفحم.فما دامت هذه الأعضاء صالحة لقبول الآثار الفائضة عليها من هذا الجسم اللطيف بقي ذلك الجسم اللطيف مشابكا لهذه الأعضاء وأفادها هذه الآثار من الحس والحركة الإرادية وإذا فسدت هذه الأعضاء بسبب استيلاء الأخلاط الغليظة عليها
وخرجت عن قبول تلك الآثار فارق الروح البدن وانفصل إلى عالم الروح وهذا القول هو الصواب في المسألة وهو الذي لا يصح غيره وكل الأقوال سواه باطلة وعليه دل الكتاب والسنة وإجماع الصحابة وأدلة العقل والفطرة ثم ساق الأدلة منها قوله تعالى :{وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلآئِكَةُ بَاسِطُواْ أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُواْ أَنفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ ... الى قوله تعالى:{ وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ} وقال معلقا على الآية: فيها أربعة أدلة: أحدها بسط الملائكة أيدهم لتناولها والذي يتناول جسم, الثاني: وصفها بالإخراج والخروج والذي يخرج يُخرج جسم.
الثالث: الإخبار عن عذابها في ذلك اليوم والذي يحس بالعذاب جسم.
الرابع: الإخبار عن مجيئها إلى ربها يجيء جسم.
ومن الأدلة أيضا قوله صلى الله عليه وسلم "أن الروح إذا قبض تبعه البصر "قال ابن القيم عن الحديث: فيه دليلان: أحدهما وصفه بأنه يقبض والثاني: أن البصر يراه واستنتج رحمه الله من الأدلة التي أوردها أن الروح جسم مباين للبدن منفصل عنه مؤثر فيه.
القلب: تحدث ابن القيم عن القلب وعن أنواع القلوب واعتنى بهذا الموضوع عناية خاصة فخصه بمؤلف كبير هو "إغاثة اللهفان في مصايد الشيطان" كما تناوله في كتب أخرى ولو أن أحدا جمع ما ذكره ابن القيم حول القلب لخرج بنظرية متكاملة في الصحة النفسية أو في السوء النفسي.
يقسم ابن القيم القلوب إلى ثلاثة أقسام: صحيح وميت وسقيم.
1- القلب الصحيح هو القلب السليم الذي لا ينجو إلا من أتي الله به, كما قال سبحانه وتعالى :{يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} وعرفه بأنه الذي قد "سلم من كل شهوة تخالف أمر الله ونهيه ومن كل شبهة تعارض خبره فسلم من عبودية ما سواه وسلم من تحكيم غير رسوله.... أي أنه القلب السالم من الشهوات والشبهات.
2- القلب الثاني ضد هذا وهو القلب الذي لا حياة به, فهو لا يعرب ربه ولا يعبده بأمره وما يحبه ويرضاه, بل هو واقف مع شهواته ولذاذاته, ولو كان فيها سخط ربه وغضبه.
3- القلب الثالث قلب له حياة و به علة فله مادتان تمده هذه مرة وهذه أخرى, وهو لما غلب عليه منهما, ففيه من محبة الله والإيمان به والإخلاص له والتوكل عليه ما هو مادة حياته وفيه من محبة الشهوات وإيثارها والحرص على تحصيلها والحسد والكبر والعجب وحب العلو في الأرض بالرياسة ما هو من مادة هلاكه وعبطه.... فالقلب الأول حي مجيب لين واع. والثاني يابس ميت, والثالث مريض فإما إلى السلامة أدنى أو إلى العطب أدنى.
فالقلب الصحيح السليم ليس بينه وبين قبول الحق ومحبته وإيثاره سوى إدراكه, فهو صحيح الإدراك تام الانقياد والقبول له.
والقلب الميت القاسي لا يقبله ولا ينقاد له.
والقلب المريض إن غلب عليه مرضه التحق بالميت القاسي وإن غلبت عليه صحته التحق بالسليم.
الخواطر وعلاقتها بالسلوك:
أنموذج السلوك عن ابن القيم
خاطرة__ (معالجة) فكر __ ذكرى __ إرادة ___ الجوارح (السلوك) ___ عادة.
للخواطر في سيكولوجية ابن القيم شأن كبير فهي عنده أصل تصرفات العبد وأعماله, أو هي مفتاح السلوك, ومبدأ الصحة النفسية, ومعالجتها وإصلاحها سبيل إلى إصلاح السلوك كما أن انحرافها سبيل إلى انحرافه لهذا اعتنى بها في عدد من كتبه, منها كتاب "الفوائد" الذي صاغ فيه ما يمكن أن يسمى بنظرية عن العلاقة بين الخواطر والسلوك, ومنها كتاب "الجواب الكافي" الذي صاغ فيه الخطوط العامة لمنهج في الإرشاد النفسي.
يرى أبن القيم رحمه الله أن القلب لا يخلو قط من الفكر, إما في واجب آخرته ومصالحها, وإما في مصالح دنياه ومعاشه, وإما في الوساوس والأماني الباطلة والمقدرات المفروضة ويرى أن لهذه الخواطر علاقة بتصرفات الإنسان, فإذا حسنت حسن سلوكه وإذا ساءت ساء سلوكه, وهو يشبه النفس "بالرحا" التي تدور ولا تتوقف أبدا فإن ألقى فيها حب دارت به وأخرجت الدقيق وما ينفع الناس, وأن ألقى فيها زجاج وحصا دارت به وأخرجت ما لا يفيد أو ما يضر.
ويرى ابن القيم أن الفكر هو مبدأ الإرادة والطلب, ويقول "أعلم أن الخطرات والوساوس تؤدي متعلقاتها إلى الفكر فيأخذها الفكر فيؤديها إلى التذكر فيأخذها الذكر فيؤديها إلى الإرادة فتأخذها فتؤديها إلى الجوارح والعمل فتستحكم فتصير عادة. ويقول ابن القيم "مبدأ كل علم نظري وعمل اختياري هو الخواطر والأفكار فإنها توجب التصورات والتصورات تدعو إلى الإرادات والإرادات تقتضي وقوع الفعل, وكثرة تكراره تعطي العادة, فصلاح هذه المراتب بصلاح الخواطر وفسادها بفسادها, فصلاح الخواطر بأن تكون مراقبة لوليها وإلهها صاعدة إليه دائرة على مرضاته ومحابه”.
ويرى ابن القيم أن العبد لا يستطيع قطع هذه الخواطر ولا إماتتها إلا أنه يستطيع توجيهها والتحكم في مسارها بقوة العقل والإيمان.
ويرى ابن القيم أن إصلاح السلوك والعوائد بإصلاح الأصل وهو الخواطر.
إذن تغيير تصورات الشخص وما هو مقتنع به- أو صلاح "الجانب المعرفي" عنده- هو الخطوة الأولى في تغيير عاداته وإصلاح سلوكه, ويرى ابن القيم أن انحراف الخواطر والأفكار أو الفساد في الجانب المعرفي عند الشخص أعظم خطرا من الانحراف في السلوك, ويضرب لهذا مثلاً بأن تمني الخيانة وإشغال الفكر والقلب بها أضر على القلب من الخيانة نفسها ولاسيما إذا فرغ القلب منها بعد مباشرتها.
سيكولوجية المعصية عند ابن القيم
يرى ابن القيم رحمه الله أن للأخلاق حدا إذا جاوزته صارت عدوانا, ومتى قصرت عنه كانت نقصا ومهانة فالغضب مثلاً له حد وهو الشجاعة المحمودة والأنفة من الرذائل والنقائص, فإذا جاوز الغضب الحد تعدى صاحبه وجار, وإذا نقص عنه جبن ولم يأنف من الرذائل
وأما أثر الشيطان في انحراف العبد عن حد العدل سواء بتجاوزه أو القصور عنه فله طرق: أولها هو التزيد أو الإسراف, فيزيد العبد على قدر حاجته في المباحات, وثانيها هو الغفلة عن ذكر الله عز وجل, وثالثها هو تكلف ما لا يعنيه من جميع الأشياء. ويرجع ابن القيم هذه الأسباب الثلاثة إلى سبب واحد وهو جهل العبد ربه وجهل العبد نفسه.
أما آثار المعصية عل النفس فمنها:
أولاً": أنها مع تكرارها تصبح هيئة راسخة يصعب إلى العبد التخلص منها فيغدو أسيراً لها تنازعه نفسه إذا حاول التخلص منها.
ثانياً: أن المعصية تزرع أمثالها ويولد بعضها بعضا فالسلوك المنحرف يستتبع سلوكا آخر منحرفا ويفضي إليه.
ثالثاً: أنه ينسلخ من القلب استقباحها فتصير له عادة.
رابعاً: أنها تورث الذل ومهانة النفس عند صاحبها وهذا شعور داخلي يكون له أثر على السلوك الظاهر.
خامساً: أن العاصي يجد وحشة بينه وبين الله وبينه وبين الناس. سادساً: حرمان اعلم, فالمعصية تطفئ نور العلم.
ومن أساليب الإرشاد النفسي عند ابن القيم
تراث ابن القيم عن الإرشاد النفسي متنوع, ودراسته دراسة شاملة سوف تكشف للباحث تفرد ابن القيم في مجال الإرشاد وإبداعه.
وابن القيم له أسلوب شامل في الإرشاد يتناول جوانب السلوك المتعددة ولعل معظم آرائه موجودة في خمسة من كتبه هي:
1- إغاثة اللهفان وفيه تكلم عن الخطرات والوساوس وبين كيف يستطيع العبد التخلص منها.
2- الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي أو كتاب الداء والدواء وعالج فيه مرض العشق وكيفية التخلص منه.
3- طريق الهجرتين وعالج فيه معوقات السير إلى الله تعالى وكيفية التغلب عليها.
4- مفتاح دار السعادة وعالج فيه ما يعين العبد على العبادة.
5- عدة الصابرين وذخيرة الشاكرين.
وفي كتب ابن القيم الأخرى إضافات وشرح لأسلوب يحسن الرجوع إليها ومن هذه الكتب كتاب مدارج السالكين وكتاب الفوائد الذي شرح فيه المراحل التي يمر بها السلوك.
ولابد قبل الحديث عن طرق ابن القيم في الإرشاد النفسي من استحضار أنموذجه في السلوك وقد سبق الإشارة إليه فارجع إليه في موضعه, تناول ابن القيم جانب العلاج بعد وقوع الاضطراب النفسي وجانب الوقاية قبل وقوع الاضطراب, ويمكن تلخيص طريقته فيما يلي:
الأول: إصلاح المشاعر وفي هذا تحدث محسناً لمشاعر الخير مبديا لجمال الفضيلة ومقبحا للانحراف وموضحا شؤم المعصية وسوء عاقبتها وهذا كله من أجل إصلاح مشاعر الشخص وتقويمها لأن مشاعره إذا نفرت من سلوك ابتعد هو عنه, وإذا مالت إلى سلوك سعى حثيثاً إليه.
ثانياً: إصلاح الأفكار والاعتقادات وفي هذا يحاول ابن القيم أن يقنع الشخص بسلامة سلوك معين وخطأ آخر ويخاطب في هذا عقله مقدما له الحجج العقلية وموردا الأدلة النقلية التي تؤيد صحة السلوك الذي يدعو إليه وتبين خطأ السلوك الذي يحذر منه.
ثالثاً: مراقبة الخواطر وإصلاحها والخواطر عند ابن القيم مقدمة للإرادة والعزم, والخواطر متى استقامت فأحبت الخير ونفرت من الشر والخطأ وتأيد ذلك بقناعة عقلية فلن تتحرك إرادته حينئذ إلا نحو الخير فيعزم على فعله, والإرادة هي المسئولة عن التحكم في الفكر الذي يقوم بمعالجة الخواطر العارضة في الذهن, والخاطرة متى ما عرضت في الذهن ولم يعالجها الفكر فإنها تزول ولا يكون لها أثر نفسي, يقول ابن القيم "فإذا دفعت (الخاطر) الوارد عليك اندفع عنك ما بعده, وإن قبلته صار فكرا جوالاً فاستخدم الإرادة فتساعدك هي والفكر على استخدام الجوارح.
وانسجاما مع هذا المنهج في الإرشاد النفسي اعتنى ابن القيم بأثر الأفكار والخواطر في السلوك ورأى أنها مبدأ كل عمل اختياري وعلم نظري وأن علاج السلوك يبدأ منها, ويقول ابن القيم في ذلك "وأما الخطرات فنشأتها أصعب فإنها مبدء الخير والشر ومنها تتولد الإرادة والهمم والعزائم, فمن راعى خطراته ملك زمام نفسه, وقهر هواه ومن غلبته خطراته فهواه ونفسه له أغلب ومن استهان بالخطرات قادته قسراً إلى الهلكات ولا تزال الخطرات تتردد على القلب حتى تصير منى باطلة" كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء"
ومن النظريات الحديثة التي قد تتفق مع ابن القيم إلى حد ما في اسلوبه العلاجي نظرية العلاج العقلاني الانفعالي التي ابتكرها (إليس) وملخص هذه النظرية هو أن إليس يرى أن الاضطراب السلوكي نتيجة للتفكير غير العقلاني, وعلاجه يكون بمهاجمة الأفكار والانفعالات السلبية أو القاهرة للذات وذلك بإعادة تنظيم الإدراك والتفكير بدرجة يصبح معها الفرد منطقياً في تفكيره وتصوراته ومشاعره, ويرى إليس أن هف الإرشاد والعلاج النفسي هو أن يوضح المرشد للفرد المسترشد أن حديثه مع ذاته أي حديث النفس والخواطر هو المصدر الأساس للاضطراب الانفعالي والعلاج يكون بتعليم الشخص وتعويده على التفكير المعقول وتخليصه من ضده.
سيكولوجية الصبر
يعرف ابن القيم الصبر بأنه "حبس النفس عن الجزع والتسخط وحبس اللسان عن الشكوى, وحبس الجوارح عن التشويش"
والصبر ثلاث درجات: صبر بالله وصبر لله وصبر مع الله
الأول استعانة به سبحانه ولا يلزم منه العبادة كالمشركين الذين يستعينون به سبحانه وتعالى في البحر فإذا نجاهم إلى البر أشركوا, والثاني عباده له عز وجل إذ الباعث على الصبر محبة الله وإرادة وجهه والتقرب إليه لا لإظهار قوة النفس, والثالث الصبر مع الله وهو دوران العبد مع مراد الله الديني منه
ومع أحكامه الدينية صابراً نفسه معها سائرا بسيرها أي قد جعل نفسه وقفا على أوامره ومحابه حتى لو كان ذلك ضرر عليه أو مشقة في الحياة الدنيا, وهذا أشد أنواع الصبر وأصعبها وهو صبر الصديقين.
وهذه الدرجة الأخيرة هي أفضل درجات الصبر وأعلاها بينما الدرجة الأولى هي أدناها منزلة.
أنواع الصبر
الأول: الصبر عن المعصية وله سببان الأول الخوف من وعيد الله وعقابه ويبعث عليه قوة الإيمان بالخبر والتصديق بمضمون, .الثاني: الحياء ويبعث عليه قوة المعرفة ومشاهدة معاني الأسماء والصفات والسبب الثاني أعلى وأجل, لأن من وازعه الخوف قلبه حاضر مع العقوبة, ومن وازعه الحياء قلبه حاضر مع الله, والخائف مراع جانب نفسه وحمايتها, والمستحيي مراع جانب ربه وملاحظ عظمته وكلا المقامين من مقامات أهل الإيمان.
الثاني: الصبر على الطاعة بالمحافظة عليها دوما ورعايتها إخلاصاً وتحسينها علما.
الثالث: الصبر على البلاء بملاحظة حسن الجزاء وانتظار الفرج وتهوين المصيبة بعد نعم الله سبحانه وتذكر ما سلف إليه منها.
سيكولوجية الهداية
يرى ابن القيم أنه لابد للسائرين إلى الله عز وجل من المرور بأربعة منازل هي:
اليقظة والفكرة والبصيرة والعزم.
وهذه المنازل الأربعة لسائر المنازل كالأساس للبنيان وعليها مدار منازل السفر إلى الله ولا يتصور السفر إليه بدون نزولها البتة, وهي على ترتيب السير الحسي, فإن ابن القيم في وطنه لا يتأتى منه السفر حتى يستيقظ من غفلته عن السير ثم يتبصر في أمر سفره وخطره, وما فيه من المنفعة له والمصلحة, ثم يفكر في أهبة السفر والتزود في إعداد عدته, ثم يعزم عليه.
يشبه ابن القيم العبد في هذه المنازل بالنائم الذي يصحو ويستيقظ ولهذا يقول معرفا اليقظة التي هي أول منازل العبودية "هي انزعاج القلب لروعة الانتباه من رقدة الغفلة" وموجب اليقظة عنده هو "لحظ القلب إلى النعمة على اليأس من عدها, والوقوف على حدها, والتفرغ إلى معرفة المنة بها, والعلم بالتقصير في حقها" وإدراك العبد لنعم الله عز وجل وعجزة عن الوفاء بها وشكرها يوجب له نوعين من العبودية: الأول محبة المنعم والخضوع له سبحانه, والثاني إزراؤه على نفسه.
منزلة الفكرة
إذا استحكم استيقاظ العبد أوجب له ذلك الفكرة وهي "تحديق القلب إلى جهة المطلوب التماسا له" فهي سعي القلب إلى معرفة ما يجب عليه.
والفكرة ثلاثة أنواع, فكرة تتعلق بالعلم والمعرفة وهي التمييز بين الحق والباطل, وفكرة تتعلق بالطلب والإرادة وهي التمييز بين النافع والضار, تتعلق بالطريق الموصلة إلى ذلك, فيسلك التي توصل إلى ما ينفع, ويترك التي توصل إلى ما يضر.
2- منزلة البصيرة
إذا صحت فكرة العبد أوجبت له البصيرة, وهي نور في القلب يرى به حقيقة ما أخبرت به الرسل فلا يشك فيه ولا يرتاب ويتجرد من معارضته هوى أو تقليد.
3- منزلة العزم
وهي استجماع قوى الإرادة على الفعل أي أنه بعد صحت البصيرة للعبد أوجب ذلك له العزم على فعل ما أخبرت به الرسل.
ويرى ابن القيم رحمه الله أن ترتيب هذه المنازل ليس باعتبار أن السالك يقطع منزلة ويفارقها ثم ينتقل إلى التي تليها كمنازل السفر الحسي – هذا محال بل هي متلازمة ومتداخلة فاليقظة مثلاً تستمر مع العبد في كل منزلة من المنازل التي تليها.
أبو عبد الله شمس الدين مجمد بن أبي بكر ابن ايوب بن سعد بن حريز بن مكي زين الدين ثم الدمشقي الحنبلي الشهير بابن قيم الجوزية. ولد في دمشق في شهر صفر 691 هـ ووالده أحد العباد الصلحاء كان قيما على المدرسة الجوزية،فعرف بها وقيل له قيم الجوزية، واشتهرت به ذريته وحفدتهم من بعد ذلك صار الوحد منهم يدعي بابن قيم الجوزية.
المنهجية
يعتمد ابن القيم على القرآن والسنة ويقدمها على سواها
السببية
قبل الحديث عن الجوانب النفسية عند ابن القيم نشير إشارة سريعة إلى تصور ابن القيم للعلاقة بين الظاهرات والحوادث التي في الوجود أو مسألة السببية يدور جدل بين بعض المدارس الفكرية حول مدى استقلال سبب واحد للتأثير ببعض المدارس الفكرية ترى أن من الممكن أن يوجد عامل واحد يعزى إليه التغيير كالعامل الاقتصادي حيث تفسر به بعض المدارس التغير الاجتماعي وكثير من المدارس الفكرية
تتجه إلى أنه لا يوجد سبب واحد مستقل بذاته يعزى إليه الأثر وابن القيم ناقش هذه المسألة في كتاب الفوائد في لفتة من لفتاته قال ليس في الوجود الممكن سبب واحد مستقل بالتأثير بل لا يؤثر سبب البتة إلا بانضمام سبب آخر إليه وانتقاء مانع يمنع تأثيره وهذا في الأسباب المشهودة بالعيان وفي الأسباب الغائبة والأسباب المعنوية تأثير الشمس في الحيوان والنبات.
فإنه موقوف على أسباب آخر من وجود محل قابل وأسباب آخر تنضم إلى ذلك السبب أما اسبب الوحيد المستقل بالتأثير الذي لا يتوقف تأثيره على غيره فهو مسبب الأسباب عز وجل ويربط ابن القيم هذه الحقيقة بالتوحيد فيقول ما مؤداه إذا كان الله عز وجل مستقلا وحده بالتأثير فلا ينبغي للعباد أن تتعلق قلوبهم بسواه فالخوف وحده والرجاء فيه وحده.
الجوانب النفسية عند ابن القيم
تعاريف النفس والروح
ناقش ابن القيم في كتابه "الروح" حقيقة النفس؟ هل هي جزء من أجزاء البدن أو عرض من أعراضه أو جسم مساكن له مودع فيه أو جوهر مجرد؟ وهل هي الروح أو غيرها؟ وهل الأمارة واللوامة والمطمئنة نفس واحدة لها هذه الصفات أم هي ثلاث أنفس؟
أورد خمسة أقوال في ذلك وحكم عليها بالبطلان ثم قال:
السادس: أنه جسم مخالف بالماهيه لهذا الجسم المحسوس وهو جسم نوراني علوي خفيف حي متحرك ينفذ في جوهر الأعضاء ويسري فيها سريان الماء في الورد الدهن في الزيتون والنار في الفحم.فما دامت هذه الأعضاء صالحة لقبول الآثار الفائضة عليها من هذا الجسم اللطيف بقي ذلك الجسم اللطيف مشابكا لهذه الأعضاء وأفادها هذه الآثار من الحس والحركة الإرادية وإذا فسدت هذه الأعضاء بسبب استيلاء الأخلاط الغليظة عليها
وخرجت عن قبول تلك الآثار فارق الروح البدن وانفصل إلى عالم الروح وهذا القول هو الصواب في المسألة وهو الذي لا يصح غيره وكل الأقوال سواه باطلة وعليه دل الكتاب والسنة وإجماع الصحابة وأدلة العقل والفطرة ثم ساق الأدلة منها قوله تعالى :{وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلآئِكَةُ بَاسِطُواْ أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُواْ أَنفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ ... الى قوله تعالى:{ وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ} وقال معلقا على الآية: فيها أربعة أدلة: أحدها بسط الملائكة أيدهم لتناولها والذي يتناول جسم, الثاني: وصفها بالإخراج والخروج والذي يخرج يُخرج جسم.
الثالث: الإخبار عن عذابها في ذلك اليوم والذي يحس بالعذاب جسم.
الرابع: الإخبار عن مجيئها إلى ربها يجيء جسم.
ومن الأدلة أيضا قوله صلى الله عليه وسلم "أن الروح إذا قبض تبعه البصر "قال ابن القيم عن الحديث: فيه دليلان: أحدهما وصفه بأنه يقبض والثاني: أن البصر يراه واستنتج رحمه الله من الأدلة التي أوردها أن الروح جسم مباين للبدن منفصل عنه مؤثر فيه.
القلب: تحدث ابن القيم عن القلب وعن أنواع القلوب واعتنى بهذا الموضوع عناية خاصة فخصه بمؤلف كبير هو "إغاثة اللهفان في مصايد الشيطان" كما تناوله في كتب أخرى ولو أن أحدا جمع ما ذكره ابن القيم حول القلب لخرج بنظرية متكاملة في الصحة النفسية أو في السوء النفسي.
يقسم ابن القيم القلوب إلى ثلاثة أقسام: صحيح وميت وسقيم.
1- القلب الصحيح هو القلب السليم الذي لا ينجو إلا من أتي الله به, كما قال سبحانه وتعالى :{يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} وعرفه بأنه الذي قد "سلم من كل شهوة تخالف أمر الله ونهيه ومن كل شبهة تعارض خبره فسلم من عبودية ما سواه وسلم من تحكيم غير رسوله.... أي أنه القلب السالم من الشهوات والشبهات.
2- القلب الثاني ضد هذا وهو القلب الذي لا حياة به, فهو لا يعرب ربه ولا يعبده بأمره وما يحبه ويرضاه, بل هو واقف مع شهواته ولذاذاته, ولو كان فيها سخط ربه وغضبه.
3- القلب الثالث قلب له حياة و به علة فله مادتان تمده هذه مرة وهذه أخرى, وهو لما غلب عليه منهما, ففيه من محبة الله والإيمان به والإخلاص له والتوكل عليه ما هو مادة حياته وفيه من محبة الشهوات وإيثارها والحرص على تحصيلها والحسد والكبر والعجب وحب العلو في الأرض بالرياسة ما هو من مادة هلاكه وعبطه.... فالقلب الأول حي مجيب لين واع. والثاني يابس ميت, والثالث مريض فإما إلى السلامة أدنى أو إلى العطب أدنى.
فالقلب الصحيح السليم ليس بينه وبين قبول الحق ومحبته وإيثاره سوى إدراكه, فهو صحيح الإدراك تام الانقياد والقبول له.
والقلب الميت القاسي لا يقبله ولا ينقاد له.
والقلب المريض إن غلب عليه مرضه التحق بالميت القاسي وإن غلبت عليه صحته التحق بالسليم.
الخواطر وعلاقتها بالسلوك:
أنموذج السلوك عن ابن القيم
خاطرة__ (معالجة) فكر __ ذكرى __ إرادة ___ الجوارح (السلوك) ___ عادة.
للخواطر في سيكولوجية ابن القيم شأن كبير فهي عنده أصل تصرفات العبد وأعماله, أو هي مفتاح السلوك, ومبدأ الصحة النفسية, ومعالجتها وإصلاحها سبيل إلى إصلاح السلوك كما أن انحرافها سبيل إلى انحرافه لهذا اعتنى بها في عدد من كتبه, منها كتاب "الفوائد" الذي صاغ فيه ما يمكن أن يسمى بنظرية عن العلاقة بين الخواطر والسلوك, ومنها كتاب "الجواب الكافي" الذي صاغ فيه الخطوط العامة لمنهج في الإرشاد النفسي.
يرى أبن القيم رحمه الله أن القلب لا يخلو قط من الفكر, إما في واجب آخرته ومصالحها, وإما في مصالح دنياه ومعاشه, وإما في الوساوس والأماني الباطلة والمقدرات المفروضة ويرى أن لهذه الخواطر علاقة بتصرفات الإنسان, فإذا حسنت حسن سلوكه وإذا ساءت ساء سلوكه, وهو يشبه النفس "بالرحا" التي تدور ولا تتوقف أبدا فإن ألقى فيها حب دارت به وأخرجت الدقيق وما ينفع الناس, وأن ألقى فيها زجاج وحصا دارت به وأخرجت ما لا يفيد أو ما يضر.
ويرى ابن القيم أن الفكر هو مبدأ الإرادة والطلب, ويقول "أعلم أن الخطرات والوساوس تؤدي متعلقاتها إلى الفكر فيأخذها الفكر فيؤديها إلى التذكر فيأخذها الذكر فيؤديها إلى الإرادة فتأخذها فتؤديها إلى الجوارح والعمل فتستحكم فتصير عادة. ويقول ابن القيم "مبدأ كل علم نظري وعمل اختياري هو الخواطر والأفكار فإنها توجب التصورات والتصورات تدعو إلى الإرادات والإرادات تقتضي وقوع الفعل, وكثرة تكراره تعطي العادة, فصلاح هذه المراتب بصلاح الخواطر وفسادها بفسادها, فصلاح الخواطر بأن تكون مراقبة لوليها وإلهها صاعدة إليه دائرة على مرضاته ومحابه”.
ويرى ابن القيم أن العبد لا يستطيع قطع هذه الخواطر ولا إماتتها إلا أنه يستطيع توجيهها والتحكم في مسارها بقوة العقل والإيمان.
ويرى ابن القيم أن إصلاح السلوك والعوائد بإصلاح الأصل وهو الخواطر.
إذن تغيير تصورات الشخص وما هو مقتنع به- أو صلاح "الجانب المعرفي" عنده- هو الخطوة الأولى في تغيير عاداته وإصلاح سلوكه, ويرى ابن القيم أن انحراف الخواطر والأفكار أو الفساد في الجانب المعرفي عند الشخص أعظم خطرا من الانحراف في السلوك, ويضرب لهذا مثلاً بأن تمني الخيانة وإشغال الفكر والقلب بها أضر على القلب من الخيانة نفسها ولاسيما إذا فرغ القلب منها بعد مباشرتها.
سيكولوجية المعصية عند ابن القيم
يرى ابن القيم رحمه الله أن للأخلاق حدا إذا جاوزته صارت عدوانا, ومتى قصرت عنه كانت نقصا ومهانة فالغضب مثلاً له حد وهو الشجاعة المحمودة والأنفة من الرذائل والنقائص, فإذا جاوز الغضب الحد تعدى صاحبه وجار, وإذا نقص عنه جبن ولم يأنف من الرذائل
وأما أثر الشيطان في انحراف العبد عن حد العدل سواء بتجاوزه أو القصور عنه فله طرق: أولها هو التزيد أو الإسراف, فيزيد العبد على قدر حاجته في المباحات, وثانيها هو الغفلة عن ذكر الله عز وجل, وثالثها هو تكلف ما لا يعنيه من جميع الأشياء. ويرجع ابن القيم هذه الأسباب الثلاثة إلى سبب واحد وهو جهل العبد ربه وجهل العبد نفسه.
أما آثار المعصية عل النفس فمنها:
أولاً": أنها مع تكرارها تصبح هيئة راسخة يصعب إلى العبد التخلص منها فيغدو أسيراً لها تنازعه نفسه إذا حاول التخلص منها.
ثانياً: أن المعصية تزرع أمثالها ويولد بعضها بعضا فالسلوك المنحرف يستتبع سلوكا آخر منحرفا ويفضي إليه.
ثالثاً: أنه ينسلخ من القلب استقباحها فتصير له عادة.
رابعاً: أنها تورث الذل ومهانة النفس عند صاحبها وهذا شعور داخلي يكون له أثر على السلوك الظاهر.
خامساً: أن العاصي يجد وحشة بينه وبين الله وبينه وبين الناس. سادساً: حرمان اعلم, فالمعصية تطفئ نور العلم.
ومن أساليب الإرشاد النفسي عند ابن القيم
تراث ابن القيم عن الإرشاد النفسي متنوع, ودراسته دراسة شاملة سوف تكشف للباحث تفرد ابن القيم في مجال الإرشاد وإبداعه.
وابن القيم له أسلوب شامل في الإرشاد يتناول جوانب السلوك المتعددة ولعل معظم آرائه موجودة في خمسة من كتبه هي:
1- إغاثة اللهفان وفيه تكلم عن الخطرات والوساوس وبين كيف يستطيع العبد التخلص منها.
2- الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي أو كتاب الداء والدواء وعالج فيه مرض العشق وكيفية التخلص منه.
3- طريق الهجرتين وعالج فيه معوقات السير إلى الله تعالى وكيفية التغلب عليها.
4- مفتاح دار السعادة وعالج فيه ما يعين العبد على العبادة.
5- عدة الصابرين وذخيرة الشاكرين.
وفي كتب ابن القيم الأخرى إضافات وشرح لأسلوب يحسن الرجوع إليها ومن هذه الكتب كتاب مدارج السالكين وكتاب الفوائد الذي شرح فيه المراحل التي يمر بها السلوك.
ولابد قبل الحديث عن طرق ابن القيم في الإرشاد النفسي من استحضار أنموذجه في السلوك وقد سبق الإشارة إليه فارجع إليه في موضعه, تناول ابن القيم جانب العلاج بعد وقوع الاضطراب النفسي وجانب الوقاية قبل وقوع الاضطراب, ويمكن تلخيص طريقته فيما يلي:
الأول: إصلاح المشاعر وفي هذا تحدث محسناً لمشاعر الخير مبديا لجمال الفضيلة ومقبحا للانحراف وموضحا شؤم المعصية وسوء عاقبتها وهذا كله من أجل إصلاح مشاعر الشخص وتقويمها لأن مشاعره إذا نفرت من سلوك ابتعد هو عنه, وإذا مالت إلى سلوك سعى حثيثاً إليه.
ثانياً: إصلاح الأفكار والاعتقادات وفي هذا يحاول ابن القيم أن يقنع الشخص بسلامة سلوك معين وخطأ آخر ويخاطب في هذا عقله مقدما له الحجج العقلية وموردا الأدلة النقلية التي تؤيد صحة السلوك الذي يدعو إليه وتبين خطأ السلوك الذي يحذر منه.
ثالثاً: مراقبة الخواطر وإصلاحها والخواطر عند ابن القيم مقدمة للإرادة والعزم, والخواطر متى استقامت فأحبت الخير ونفرت من الشر والخطأ وتأيد ذلك بقناعة عقلية فلن تتحرك إرادته حينئذ إلا نحو الخير فيعزم على فعله, والإرادة هي المسئولة عن التحكم في الفكر الذي يقوم بمعالجة الخواطر العارضة في الذهن, والخاطرة متى ما عرضت في الذهن ولم يعالجها الفكر فإنها تزول ولا يكون لها أثر نفسي, يقول ابن القيم "فإذا دفعت (الخاطر) الوارد عليك اندفع عنك ما بعده, وإن قبلته صار فكرا جوالاً فاستخدم الإرادة فتساعدك هي والفكر على استخدام الجوارح.
وانسجاما مع هذا المنهج في الإرشاد النفسي اعتنى ابن القيم بأثر الأفكار والخواطر في السلوك ورأى أنها مبدأ كل عمل اختياري وعلم نظري وأن علاج السلوك يبدأ منها, ويقول ابن القيم في ذلك "وأما الخطرات فنشأتها أصعب فإنها مبدء الخير والشر ومنها تتولد الإرادة والهمم والعزائم, فمن راعى خطراته ملك زمام نفسه, وقهر هواه ومن غلبته خطراته فهواه ونفسه له أغلب ومن استهان بالخطرات قادته قسراً إلى الهلكات ولا تزال الخطرات تتردد على القلب حتى تصير منى باطلة" كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء"
ومن النظريات الحديثة التي قد تتفق مع ابن القيم إلى حد ما في اسلوبه العلاجي نظرية العلاج العقلاني الانفعالي التي ابتكرها (إليس) وملخص هذه النظرية هو أن إليس يرى أن الاضطراب السلوكي نتيجة للتفكير غير العقلاني, وعلاجه يكون بمهاجمة الأفكار والانفعالات السلبية أو القاهرة للذات وذلك بإعادة تنظيم الإدراك والتفكير بدرجة يصبح معها الفرد منطقياً في تفكيره وتصوراته ومشاعره, ويرى إليس أن هف الإرشاد والعلاج النفسي هو أن يوضح المرشد للفرد المسترشد أن حديثه مع ذاته أي حديث النفس والخواطر هو المصدر الأساس للاضطراب الانفعالي والعلاج يكون بتعليم الشخص وتعويده على التفكير المعقول وتخليصه من ضده.
سيكولوجية الصبر
يعرف ابن القيم الصبر بأنه "حبس النفس عن الجزع والتسخط وحبس اللسان عن الشكوى, وحبس الجوارح عن التشويش"
والصبر ثلاث درجات: صبر بالله وصبر لله وصبر مع الله
الأول استعانة به سبحانه ولا يلزم منه العبادة كالمشركين الذين يستعينون به سبحانه وتعالى في البحر فإذا نجاهم إلى البر أشركوا, والثاني عباده له عز وجل إذ الباعث على الصبر محبة الله وإرادة وجهه والتقرب إليه لا لإظهار قوة النفس, والثالث الصبر مع الله وهو دوران العبد مع مراد الله الديني منه
ومع أحكامه الدينية صابراً نفسه معها سائرا بسيرها أي قد جعل نفسه وقفا على أوامره ومحابه حتى لو كان ذلك ضرر عليه أو مشقة في الحياة الدنيا, وهذا أشد أنواع الصبر وأصعبها وهو صبر الصديقين.
وهذه الدرجة الأخيرة هي أفضل درجات الصبر وأعلاها بينما الدرجة الأولى هي أدناها منزلة.
أنواع الصبر
الأول: الصبر عن المعصية وله سببان الأول الخوف من وعيد الله وعقابه ويبعث عليه قوة الإيمان بالخبر والتصديق بمضمون, .الثاني: الحياء ويبعث عليه قوة المعرفة ومشاهدة معاني الأسماء والصفات والسبب الثاني أعلى وأجل, لأن من وازعه الخوف قلبه حاضر مع العقوبة, ومن وازعه الحياء قلبه حاضر مع الله, والخائف مراع جانب نفسه وحمايتها, والمستحيي مراع جانب ربه وملاحظ عظمته وكلا المقامين من مقامات أهل الإيمان.
الثاني: الصبر على الطاعة بالمحافظة عليها دوما ورعايتها إخلاصاً وتحسينها علما.
الثالث: الصبر على البلاء بملاحظة حسن الجزاء وانتظار الفرج وتهوين المصيبة بعد نعم الله سبحانه وتذكر ما سلف إليه منها.
سيكولوجية الهداية
يرى ابن القيم أنه لابد للسائرين إلى الله عز وجل من المرور بأربعة منازل هي:
اليقظة والفكرة والبصيرة والعزم.
وهذه المنازل الأربعة لسائر المنازل كالأساس للبنيان وعليها مدار منازل السفر إلى الله ولا يتصور السفر إليه بدون نزولها البتة, وهي على ترتيب السير الحسي, فإن ابن القيم في وطنه لا يتأتى منه السفر حتى يستيقظ من غفلته عن السير ثم يتبصر في أمر سفره وخطره, وما فيه من المنفعة له والمصلحة, ثم يفكر في أهبة السفر والتزود في إعداد عدته, ثم يعزم عليه.
يشبه ابن القيم العبد في هذه المنازل بالنائم الذي يصحو ويستيقظ ولهذا يقول معرفا اليقظة التي هي أول منازل العبودية "هي انزعاج القلب لروعة الانتباه من رقدة الغفلة" وموجب اليقظة عنده هو "لحظ القلب إلى النعمة على اليأس من عدها, والوقوف على حدها, والتفرغ إلى معرفة المنة بها, والعلم بالتقصير في حقها" وإدراك العبد لنعم الله عز وجل وعجزة عن الوفاء بها وشكرها يوجب له نوعين من العبودية: الأول محبة المنعم والخضوع له سبحانه, والثاني إزراؤه على نفسه.
منزلة الفكرة
إذا استحكم استيقاظ العبد أوجب له ذلك الفكرة وهي "تحديق القلب إلى جهة المطلوب التماسا له" فهي سعي القلب إلى معرفة ما يجب عليه.
والفكرة ثلاثة أنواع, فكرة تتعلق بالعلم والمعرفة وهي التمييز بين الحق والباطل, وفكرة تتعلق بالطلب والإرادة وهي التمييز بين النافع والضار, تتعلق بالطريق الموصلة إلى ذلك, فيسلك التي توصل إلى ما ينفع, ويترك التي توصل إلى ما يضر.
2- منزلة البصيرة
إذا صحت فكرة العبد أوجبت له البصيرة, وهي نور في القلب يرى به حقيقة ما أخبرت به الرسل فلا يشك فيه ولا يرتاب ويتجرد من معارضته هوى أو تقليد.
3- منزلة العزم
وهي استجماع قوى الإرادة على الفعل أي أنه بعد صحت البصيرة للعبد أوجب ذلك له العزم على فعل ما أخبرت به الرسل.
ويرى ابن القيم رحمه الله أن ترتيب هذه المنازل ليس باعتبار أن السالك يقطع منزلة ويفارقها ثم ينتقل إلى التي تليها كمنازل السفر الحسي – هذا محال بل هي متلازمة ومتداخلة فاليقظة مثلاً تستمر مع العبد في كل منزلة من المنازل التي تليها.